يعد الاهتمام بالدراسات المرئية محور لا ينفصل عن الدراسات الأدبية وذلك في سياق قيام كل من الفن والأدب بأداء وظيفة خطابية لا تغفل عن الواقع الاجتماعي والسياسي المعيش، مما دفع الكاريكاتير لأن يخدم إحدى مهام الأدب الاجتماعية وذلك في سياق تبني الإنسان كقضية من خلال الإبداع، ومن هنا جاء الاهتمام بدراسة الكاريكاتير كشل من أشكال تصوير بعد المقاومة في الواقع المعيش باستخدام الفن، ولعل قراءة كاريكاتير “ناجي العلي” الحاضر الغائب في هذا السياق يعد من أهم الاتجاهات في تتبع الأثر الذي يمكن أن يخلفه الفن في عكس الوطن كقضية، فناجي العلي يعد أول من قدم الفن الكاريكاتيري كشكل من أشكال المقاومة في السياق الفلسطيني ما أدى إلى نفيه من وطنه بسبب رسوماته الكاريكاتيرية الصريحة في مضمونها، وقد عكس ذلك شكل من أشكال المقاومة بالقلم والورقة والمخيلة الإبداعية ذات البعد الثوري والهوياتي، ومن هنا تجلت أهمية كاريكاتير ناجي العلي في بناء موقف نقدي اتجاه ما يجرد الإنسان من هويته، خصوصًا وأن العديد سار على نهج ناجي العلي من بعده في اتخاذ التصوير الكاريكاتيري للتعبير عن الموقف الرافض لما يسمى بالدولة الصهيونية وكذلك الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين وما تبع ذلك من موقف رافض للتطبيع العربي مع الاحتلال، ما دفع بالفن لتوليد استمرارية بين الماضي والحاضر وذلك انطلاقا من وعي الذات بهويتها وتوثيق الذاكرة الجمعية من خلال الفن.
الحوارية كبعد تفاعلي
تعد الحوارية جوهر الخطاب الذي تؤديه الرواية في الأدب، ما طرح تعدد الأصوات والكرنفالية كإحدى خصائص الرواية وخصوصًا في الأدب الهزلي، وهو ما يلتقي مع فن الكاريكاتير الذي عادةً ما يقوم بفعل السخرية والنقد للقضايا الاجتماعية والسياسية، فالحوارية بطريقة أو بأخرى تحيل للوظيفة الاجتماعية للخطاب اللساني في الرواية، إلا أن هذه الوظيفة وجدت منفذًا آخرًا من خلال الفن والصورة البصرية فانعكست في الكاريكاتيرعلى اعتباره حاملا للخطاب اللساني والسيميائي من خلال الرمزية الصورية، ما أنتج حوارية لا بد منها وتكاملًا بين ما يعبر عنه الأدب والفن، ولعل قدرة الكاريكاتير على اختزال المعنى وكثافة التعبير من خلال الصورة جعلت منه منطلقا صريحًا للنقد السياسي والاجتماعي حتى تجلت فيه أبعاد المقاومة وموقف الذات الرافض للخضوع، وهو ما انعكس في المضمون الفني للكاريكاتير الفلسطيني بالتعبير عن معاناة الشعب الفلسطيني على إثر اللجوء بعد حرب النكبة عام 1948، والنزوح على إثر حرب النكسة عام 1967 وما تلتهما من أحداث تمثلت بالتخاذل العربي اتجاه القضية الفلسطينية.
ومن الجدير بالملاحظة أن الفن الكاريكاتيري الفلسطيني أثبت استمرارية في بين الماضي والحاضر وذلك في سياق توثيق اللحظة التاريخية المتمثلة بالاحتلال الاسرائيلي لفلسطين وتبعاتها المستمرة حتى الآن، ما دعى الكثير لأن يتبنوه كأداة للتعبير، فكان بمثابة أداة فنية عكست الواقع وصورت الأحداث التي لا زالت متوالية على فلسطين في الوقت الحاضر كأحداث التهجير القسري والتكيل بالفلسطينيين وإبادتهم، وكذلك واقع حياة الفلسطينيين في الشتات والمخيمات، ومن الجدير بالذكر أيضًا أن الحوارية التي قام عليها الكاريكاتير الفلسطيني ليست بانعكاس حديث في الفن، بل هي جوهر ولادة الكاريكاتير، ولعل إعادة قراءة رسومات أيقونة فن الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي في هذا السياق خير مثال على قدرة الصورة على تصوير ما هو على المحك في الواقع، فرسومات ناجي العلي اتسمت بالنقد حتى اعتبرت شخصية حنظلة بمثابة أيقونة وجد من خلالها الكثير ذواتهم الرافضة للذل، فحاورت رسوماته العديد من القضايا كانتهاك الحقوق والقيام بالمجازر والإبادات الجماعية للشعب الفلسطيني، فكان نشوءه في فلسطين على يد العلي نشوء ثوري ضد كل ما ينتهك الكرامة الإنسانية بما في ذلك إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، فالكاريكاتير أثبت جدارته بتصوير بعد المقاومة خصوصًا وأن موقف الفنان الكاريكاتيري الفلسطيني لم يكن يومًا بموقف أحادي ينطوي على ذاته، وإنما لا بد وأنه موقف جمعي منطلقه التعبير عن أحقية شعب بأكمله في هويته الوطنية المستلبة والمكانية المتمثلة بفلسطين الجغرافية.
الأسلوبية اللغوية في الفن الكريكاتيري
إن اللجوء للتعبير باستخدام التصوير الفني يعد نتيجة لاقتراب الشعوب من ثقافة الصورة ما استدعى بالضرورة نشوء الدراسات المرئية التي باتت تعنى بالتحليل السيميائي لما هو مرسوم ومسائلة الفن لاستنطاقه، ومن هذا المنطلق كان التخييل منطلق المخيلة لربط الفن بالواقع من جهة والإبداع والتجديد في الفن من جهة أخرى، ما استدعى وجود علاقة تجمع الفنان بالمتلقي، وهذا جعل بالضرورة من الصورة ذات حمولة تأويلية تجعل من المتلقي منتجاً لنصه، فالكاريكاتير قد يرافقه نص لغوي وقد يعتمد كليا على الصورة فقط، والخطاب اللغوي في الكاريكاتير عادة ما يوجه المتلقي لرسالة يعمد إليها الفنان في حين أن الصورة تختزل تخييلا يحفز ذهن المتلقي لاستنباط تأويلاته، وفي هذا السياق لابد وأن كلا الخطابين ليسا منفصلين فالقراءة البصرية للصورة تتكامل مع ما تحمله من خطاب لغوي، وذلك يستدعي بالضرورة استقراء التميز الأسلوبي لفن الكاريكاتير الفلسطيني وبناء فعل تواصلي بشقيه اللغوي والرمزي، وخصوصا ما قدمه ناجي العلي من رسومات رافقها بنية لغوية وهو ما استدعى بناء علاقة تفاعلية بين الفنان والمشاهد، وهو ما يحيل إلى أن الأسلوبية اللغوية والبصرية المرافقة للصورة هي أسلوبية اجتماعية، تجعل من اللغة ذات خطاب نقدي متكامل مع ما يوحي به الكاريكاتير بشقه الصوري من نقد سياسي واجتماعي.
وبالتالي فإن القارئ للإبداع الفني في كاريكاتير ناجي العلي يلاحظ تجلي اللغة العامية وتحديدا اللهجة الفلسطينية كإحدى مستويات اللغة، وهو ما يدعو للتأويل بأن فن الكاريكاتير في سياق ما قدمه العلي فن يقترب من كل الشعب الفلسطيني على اختلاف موقعهم في الشتات، متخذًا من اللغة وسيلة للتعبير عن الهوية والوعي الجمعيين، وهو ما يدلل على وعي الفنان بالهوية اللغوية التي تجمعه بالمتلقي، ومن هذا المنطلق دل الأسلوب اللغوي في كاريكاتير العلي على أهمية الكلمة وهو ما يتفق مع أن الكلمة تحيا داخل إطار الجماعة حسبما يعود ميخائيل باختين في تنظيره للأسلوبية اللغوية، وهو ما استدعى تفاعل الشعوب مع السياق اللغوي والصوري على حد سواء، فأسلوبية الكاريكاتير اللغوية والفنية أسلوبية اجتماعية في المقام الأول وذات خطاب لا يمكن أن ينفصل عن الواقع المعيش، وهو ما يجعل من رسومات العلي الكاريكاتيرية حية إلى الآن، وذلك لما تتبناه من قضايا كامنة في الوعي الجمعي الفلسطيني ما انعكس في فنه بتجسيد صورة الارتباط بالأرض والهوية.
الكاريكاتير الفلسطيني بنية فنية تجسد صوت الهامش
تعد الصورة أداة خطيرة لما لها من دور في بث الوعي الفردي والجمعي، وقد أدى ذلك لأن يعيش الفن الكاريكاتيري صراعًا في ظل التأطير الإعلامي الذي عادةً ما يتجه لإبراز جوانب وقضايا وإقصاء أخرى عن الساحة الإعلامية، وهو ما استدعى وجود سلطة على النشر في العديد من السياقات، ما منع إطلاق الصوت الرافض والسعي لإسكاته بشتى الطرق، وفي هذا السياق نعود تاريخيا للحظة التي نفي فيها ناجي العلي من فلسطين إلى الكويت ومن ثم إلى لندن، حتى كان اغتياله ثمنًا للتعبير في فنه عن أصوات الشعب الفلسطيني الذي أصبح مهمشًا على إثر الاحتلال ما أدى إلى لجوئه ونزوحه في المخيمات والشتات، فكانت شخصية حنظلة في رسوماته بمثابة تأكيد على العودة وإحالة للهوية الفلسطينية الجمعية ما دعى الكثير لأن يقرأوا ذواتهم فيها، فالكاريكاتير في السياق الفلسطيني تميز بخصوصية تمثلت في إبراز الخطاب المسكوت عنه إعلاميًا، وبالتالي فكل ما يعبر عن ما هو مخالف للأطر المحددة من قبل سلطة سياسية أو إعلامية هو بالضرورة يعبر عن ما هو مهمشًا، ولما برز فن الكاريكاتير الفلسطيني فقد ظهر ليعبر عن مظاهر التهميش التي عانى ولا زال يعاني منها الشعب الفلسطيني ولإبراز القضايا المأساوية التي تبعت الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين من تطهير عرقي ومجازر وانتهاك للحقوق الإنسانية فتجلت قضية التهجير في حي الشيخ جراح بصورة واضحة في الصورة الكاريكاتيرية وكذلك ما خاضته العديد من الحكومات العربية من تطبيع مع الاحتلال حتى كان الفن منفذ التعبير عن الموقف الرافض والمضاد للسياسات العربية التي همشت موقف الشعوب وتناست القضية الفلسطينية، حتى كان للصورة جل الأثر في إحداث فارق على الساحة الإعلامية خصوصًا وقد تعددت لاحقًا منصات التواصل الاجتماعي ما أبرز صوت الأفراد وانتهاج العديد للفن في التعبير عن الواقع الفلسطيني المعيش.
إن الهوية الفنية للكاريكاتير لا بد وأن تتحدد بمطلق أيديولوجي وفكري ينبع بالضرورة من الواقع المعيش، خصوصا وأن الواقع أصبح مليئًا بما يمكن التعبير عنه من قضايا أصبحت تتجاوز الفرد لتشمل الجماعة، وهنا تتضح خصوصية ما قدمه السياق الفلسطيني من فن كاريكاتيري والذي عكس خصوصية هوياتية وجدت حضورها من خلال الفن كمنفذ للإبداع والتعبير، وهو بالضرورة تعبير لا يغفل عن توثيق موقف جمعي ورفض قاطع للاحتلال الاسرائيلي وتأكيد على الهوية المرتبطة بالأرض، فالأسلوبية الحوارية لفن الكاريكاتير الفلسطيني قائمة على استدعاء الشعوب لأن ترى ذاتها في حدود صورة، وكذلك فهي أسلوبية نقدية استدعت بالضرورة إقصاء المركز المتمثل بالسلطة على الإبداع ومخالفة التيار الذي يقضي بتجريد الشعب الفلسطيني من هويته ووطنه.
الهوامش