موضوعات وعناصر أدبية في الديستوبيا الفلسطينية والعالمية

علاء رشيدي

كاتب من سوريا

تنتقد رواية "حرب الكلب الثانية" الزيف الإنساني، فقناعة "راشد" أن البشر في الحسد المستمر: "من دراسته لطبائع البشر لاحظ راشد شيئاً آخر مهماً: أن ليس هناك من إنسان إلا ومصاب بمرض ما، أو أمل ما، وأن كل واحد منهم يريد أن يكون مثل فلان، الواحدة مثل فلانة"،

للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
10 أفلام عظيمة عن الوحدة (ترجمة)
عن السيرورة والصيرورة

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

31/01/2023

تصوير: اسماء الغول

علاء رشيدي

كاتب من سوريا

علاء رشيدي

إن دراسة التقاطعات بين الديستوبيا في الأدب الفلسطيني كما صورها الروائي إبراهيم نصر الله في روايته “حرب الكلب الثانية” والديستوبيا في الأدب العالمي في رواياتها الأشهر: “1948” لجورج أورويل و”فهرنهايت 451″ لراي برادبوري و”آخر العوالم”لألدوس هسكلي، تبين حضور مجموعة من العناصر والموضوعات المتماثلة بين الأدب الكابوسي المستقبلي الفلسطيني من جهة، وبين الأدب الاستشرافي الكابوسي في أبرز تجلياته في الأدب العالمي.

التحكم بالذاكرة، بسرديات الزمن والتاريخ

تحتل علاقة الإنسان أو الأفراد بالزمن حضوراً أساسياً في كل الروايات المذكورة سابقاً. فتفتتح رواية “حرب الكلب الثانية” بالاقتباس التالي: 

“فأنت في الماضي والمستقبل أكثر مما أنت في الحاضر”

من كتاب أضلاع الحكمة الناقصة.

وتعرف الرواية التاريخ السياسي التي تفتتح فيه الأحداث بأنه: “في وقت بدا فيه أن خلاص العالم لن يحدث إلا بانضمام ما تبقى من دول إلى اتفاقية إلغاء الماضي”. والحبكة الأساسية في الرواية تقوم على محاولة منع وقوع حرب الكلب الثالثة، وفي إشارة واضحة إلى عدم تعلم الإنسان من التاريخ وتكراره المستمر لانتهاكات الحروب، تقول أحد الشخصيات في بداية الرواية: “حرب الكلب الثانية، التي لو لم تقع، لما تم وضع سلسلة القوانين الرامية لمحو الماضي، بعد أن توصل الحكماء إلى حكمة جديدة تقول إن الإنسان لا يتعلم من أخطائه، وإن فناءه لا بد سيحدث ما دام مصراً إلى هذا الحد على تكرارها، أعني الأخطاء”. وتفصل الرواية بتصميم نظام التعليم الشمولي الديستوبي القائم على تكنولوجيا التحكم بالمعلومات: “كان التقدم في مجال التعليم، قد أفاد كثيراً من المخترعات التي خصصت، زمنا طويلاً للأمن، فإدارات مدارس النخب أصبحت قادرة على إضافة أية معلومة، أو حذف أية معلومة من أدمغة الطلبة. الأسرة والخزائن وصنابير المياه وحتى الجدران مصممة كأجهزة إلكترونية تقدم المعلومات والإجابات للطلبة”.

ويظهر التحكم بالتاريخ كموضوعة مركزية في رواية “1948” لجورج أورويل وتعود للرواية العبارة الشهيرة: “من يسيطر على الماضي، يسيطر على المستقبل، ومن يسيطر على الحاضر، يسيطر على الماضي”. وتعمل الشخصية الرئيسية “وينستون سميث” في وزارة الحقيقة، يشتغل في أرشيفاته، وهو من الموظفين الموكلين بمحو الماضي والمستقبل لمصلحة الحاضر. كذلك الشخصية الرئيسية في “فهرنهايت 451” لراي برادبوري موظف دفاع مدني “غاي مونتاغ” الذي يعمل مع السلطات، تحديداً بوصفه رجل النار، رجل إحراق الكتب. ومن هنا نراه في الأقسام الأولى من الرواية ضمن دوريات تجول بين الأحياء والبيوت لتضرم النار في أي كتاب أو مكتبة يتم العثور عليها. يقول “بيتي” المسؤول الأعلى عن عمل “مونتاغ”، حيث يكتشف سرقته للكتب: “ثمة أمر واحد أخير. كل رجل إطفاء يصاب بأزمة فضول واحدة على الأقل خلال حياته المهنية. يتساءل عما تقوله الكتب. آه، كيف يشبع هذا الفضول؟ إيه حسناً يا مونتاغ. ثق في كلامي، لقد كان عليّ أن أقرأ كتباً قليلة في زمني لكي أعرف ماهية الأمور. الكتب لا تقول أي شيء. لا شيء تستطيع تعليمه أو الإيمان به. إنها عن أناس لا وجود لهم، عن شطحات خيال إذا كانت روايات. وإن لم تكن روايات فهي أسوأ من ذلك. أستاذ يقول عن أستاذ آخر إنه معتوه. فيلسوف يملأ بصراخه بلعوم فيلسوف آخر. يتراكضون جميعاً هنا وهناك، يحجبون النجوم ويطفئون الشمسي. ينتهي الأمر بك ضائعاً”. ويقول غرينجر: “لكن حتى عندما كانت الكتب بين أيدينا قبل زمن طويل لم نستخدم ما استخلصناه منها”.

وفي رواية “حرب الكلب الثانية” تتحكم القلعة بالعلاقة مع الماضي، يكتب عنها طارق عبود: “القلعة فتفرض على المواطنين التخلّص من الماضي، وتتحكم السلطة بذاكرتهم، عبر قوانين حديدية مسحت منها كل الماضي وأخفت كل سجلات حرب الكلب الأولى وإحصاءاتها وأسبابها، وما تخللها من قتل ودمار أحرق البلد برّمته. هذا المسح للماضي كان بهدف منع الناس من التعلّم من أخطاء الماضي، لكي يبقوا أسرى التخلّف والجهل، ولكيلا تزعج الحاكم أي ثورة أو وعي مفترض”.

وبذلك فإن الأعمال الديستوبية الثلاثة تركز على محاولات الأنظمة الشمولية التحكم بسردية التاريخ، وبتدفق المعلومات بين الماضي والحاضر، وكذلك تحجب وسائل المعرفة مثل الكتب، لكنها أيضاً تركز على عدم استفادة الإنسانية من التاريخ، وتكرارها للأخطاء المدمرة باستمرار.

وزارات أوقيانوسيا في رواية جورج أورويل:

وزارة الحقيقة، وزارة السلام، وزارة الحب، وزارة الرفاه.

شعارات الحكم في أوقيانوسيا:

الحرب هي السلام، الحرية هي العبودية، الجهل هو القوة.

المتمرد: تحولات الشخصيات بين البطل والعميل، بين الوعي والاستلاب

الشخصيات الرئيسية في الروايات الديستوبية تجتمع على خصوصية التحول، لكن لكل منها رحلة مختلفة بين الخير والشر، بين الوعي والاستلاب، بين الانتصار والهزيمة. الطبيب “راشد” في رواية “حرب الكلب الثانية” شخصية انتهازية، تتحرك من المعارضة النزيهة، والنزيل الدائم في السجون والأقبية بسبب أفكاره ومعارضته للسلطة، يقرر تغيير مصير حياته ومسارها، ولذلك يقرر أن يكون قريبًا من السلطة، واختار أن يناسب الضابط الذي كان يقوم بتعذيبه، وينخرط الدكتور راشد باللعبة، ليصبح هو العقل المفكّر لكل المشاريع الشريرة التي لم تخطر على بال الحكام، وعلى رأسها الإتجار بالبشر. ولكنه سينتهي بالموت تحت التعذيب، دون أن يدرك هويته ودوره الحقيقي في معارضة أو مساندة النظام الحاكم. إن “راشد” يظهر كشخصية انتهازية في تحوله داخل الرواية: “كان قد توصل إلى حكمة تقول: ما دمت قد عرضت نفسك في السوق، فلتسع للحصول على أفضل ثمن يدفعونه لك مقابلها”، لكنها تؤول إلى نهاية ملتبسة تجعل من راشد إما ضحية وإما عميل.

في رواية “1948” تتحول شخصية “ويينستون سميث” من الموظف في وزارة تزوير الحقيقة، إلى ثائر متمرد عاشق، ما يلبث أن يمارس عليه القمع ليعود موطناً مستلباً، يكتب عن مصيره إبراهيم العريس: “سيقدم سميث على اقتراف جريمة الحب سيغرم بجوليا، وهكذا يخرق القواعد الحزبية وحين ستخلع جوليا ثيابها للمرة الأولى سيرى أنها نزعت عنها حضارة الحزب الزعيم بأسرها. لكن سميث وجوليا يعتقلان ذات يوم، وإذ يضرب سميث ويعذب لا يجد أمامه إلا أن يصرخ: “مارسوا هذا على جوليا وليس علي” وبهذا يكون قد تحطم وانتهى أمره. ولما كانت جوليا قد خانته يطلق سراحهما ويعودان مواطنين صالحين في دولة الأخ الأكبر والحزب. ويصغي سميث في النهاية إلى بيان انتصار يذاع يحس بأن شكوكه تحولت إلى يقين سعيد”.

أجمل مصائر الشخصيات الديستوبية نراها في رواية “فهرنهايت 451″، فغاي مونتاغ موظف إحراق الكتب والمكتبات، تقع عينه على عبارة في كتاب، ستمارس عليه أثراً عميقاً، تحوله من حارق الكتب إلى قارئ الكتب، في فقرة رائعة في تصويرها الروائي من قبل الكاتب “برادبوري” في لحظة إحراق مكتبة تسقط الأوراق على عيني “مونتاغ”: “انهالت الكتب كقنابل على كتفيه وذراعيه ووجهه الناظر إلى أعلى اشتعل كتاب فيما يشبه امتثالاً لأوامر، استعل كحمامة بيضاء في يديه ترفرف بجناحيهما. كانت إحدى الصفحات معلقة ووجهها مفتوح في النور الخافت المتذبذب، كانت مثل ريشة ثلجية اللون رسمت الكلمات عليها بأناقة، وفي خضم العجلة والحماس لم يحظ مونتاغ إلا بلحظة واحدة لقراءة سطر. لكن هذا السطر انطبع في عقله في الدقيقة التالية وكمأن حروفه اختمت هناك بفولاذ متوهج. “نام الزمن في ضوء شمس الأصيل”. رمى الكتاب على الأرض، وسقط فوراً كتاب آخر بين ذراعيه”.

انتقاد ظواهر من الحضارة الإنسانية: الاستنساخ والأفلام السينمائية والكتب

تنتقد رواية “حرب الكلب الثانية” الزيف الإنساني، فقناعة “راشد” أن البشر في الحسد المستمر: “من دراسته لطبائع البشر لاحظ راشد شيئاً آخر مهماً: أن ليس هناك من إنسان إلا ومصاب بمرض ما، أو أمل ما، وأن كل واحد منهم يريد أن يكون مثل فلان، الواحدة مثل فلانة”، ومن هنا تحضر فكرة عالم الأشباه، حيث العالم الديستوبي في الرواية يعيش تكاثر الأشباه، وهذا ما يقلق (راشد) باستمرار من أن يجد شبيهاً له:

– هل صادفت من قبل أحداً يشبهك؟

– أنا؟ أبداً، أضنني سأقتله لو حدث ذلك.

– تقتله؟

– أكيد، أظن أن مرآة واحدة تكفيني.

وتحضر لعبة الأقنعة وحقيقة الوجوه والهويات حتى نهاية الرواية: “لم يعد راشد قادراً على النوم حين اكتشف أنهما أثبتا بالدليل القاطع أنه شبيه لهما: المدير العام والضابط. أما ما أثار دهشته فهو ذلك الوحش الذي كان كامناً فيه، ولم يسبق له أن انتبه إلى وجوده: إنه قادر على لعب دور السجان بالقوة نفسها التي استطاع فيها أن يلعب دور السجين”. وتنتقد الرواية عالم الإنتاج السينمائي العالمي الذي تعيد استنساخ الأفلام القديمة: “بالنسبة إليه، كما كثير من مشاهدي الأفلام، أصبحت هذه العروض أكثر إثارة من الأفلام نفسها الأفلام التي تعيد استنساخ الأفلام القديمة. لقد قامت شركات الإنتاج السينمائي أيضاً، بسحب الماضي من الحاضر كي يبدو الحاضر في عيون المتفرجين الجدد هو الأصل. وتبدو السينما وكأنها اختراع جديد، ولا شيء أكثر إثارة للبشر من اختراع جديد”. 

وفي رواية “فهرنهايت 451″ تكون التعامل الإنساني مع الكتب هو محور الانتقاد الثقافي، يقول (بيتي): في القرن العشرين، أصبحت الكتب أقصر، صارت لها ملخصات، مقتطفات، موجزات مكثفة. أصبح كل شيء يتركز على المغزى، على النهاية السريعة. أعمال كلاسيكية تختصر لحشرها في برامج إذاعية من خمس عشرة دقيقة، ثم تقصقص ثانية لتملأ ركن كتاب من دقيقتين، ثم تنتهي في آخر الأمر كموجز معجمي من عشرة أسطر أو اثني عشر سطراً”.

تنتقد رواية “أفضل العوالم” لألدوس هسكلي العامل الميكانيكي، الصناعي، فالعصر هو عصر السيد فورد، بل تحديداً في العام 632 بعد ميلاد سيدنا فورد، كقياس لغوي على سيدنا لورد ومن ناحية ثانية استناداً إلى فورد مخترع السيارة، يصفه إبراهيم العريس: “عالماً كهذا يفرغ فيه المرء من كل عاطفية وفكر مستقل، تسود فيه السعادة مهيمنة على الجميع. وهكذا إذ يموت الأفراد وهم في حوالي الستين من عمرهم، لمجرد أن يخلوا الأماكن لآخرين قادمين، يموتون سعداء، لا هم يشغلهم ولا قلق يعتريهم: لقد تحمل المجتمع عنهم كل أعبائهم وليس لهم، هم، إلا أن يعيشوا وينتجوا في سعادة ما بعدها سعادة. لقد كتب هسكلي هذه الرواية في العام 1932، في وقت كانت فيه البشرية تقف على مفترق طرق حائرة بين التكنولوجيا والإيديولوجيا. إنه يريد أن يندد بكل يوتوبيا، تحاول أن تفقد الإنسان الفرد حس المبادرة والتفرد لحساب أفكار جماعية، تجرد الفرد من إنسانيته لحساب تكنولوجيا طاغية قمع سياسي يساندها همها الأساس توفير أقصى فاعلية لمجتمع همه الإنتاج أكثر وأكثر”.

دور الحب في تشكيل الوعي

تحضر المرأة بتجليات مختلفة في الروايات الديستوبية، المرأة موضوع تلاعب والجمال نتاج الصناعات والعلوم في رواية “حرب الكلب الثانية”، راشد يحقق حلمه الجمالي في العمليات التي يجريها على سكرتيرته: “التحول الذي ظهر على السكرتيرة بعد العملية، اتحدت حرارتها القديمة مع ذلك السر الخفي لجمال زوجته، ليشكلا معاً كائناً ثالثاً، تتكون من أجمل ما في المرأتين من سحر”. لكن الحب محرك الوعي الأساسي عند الشخصيات في رواية “1948”، وفي رواية “فهرنهايت 451″، وكذلك في رواية “أفضل العوالم”.

ويختلف المصير النهائي للشخصيات، “راشد” في “حرب الكلب الثانية” يموت تحت التعذيب دون أن تدرك هويته الأصلية، ويفقد “سميث” في “1948” ذاكرته الثورية ويعود ليكون مواطناً مستلباً، بينما يصل قارئ الكتب “غاي مونتاغ” خلال هروبه إلى منطقة نائية تعيش في مأمن نسبي من السلطات الصارمة في رقابتها، فيقابل رجالاً ونساء كل واحد منهم/ن يحفظ كتاباً عن ظهر قلب، استعار لنفسه اسم كاتبه. وعليه يجب أن يحفظ في ذاكرته كل صفحات الكتاب، وإلا فقدت البشرية هذا الكتاب. ومن هنا فإن هؤلاء الأشخاص يكونون فيما بينهم مكتبة حية. 

https://www.youtube.com/watch?v=r6VUExA5UKA

الكاتب: علاء رشيدي

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
عن السيرورة والصيرورة
10 أفلام عظيمة عن الوحدة (ترجمة)

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع