لربما من الصعب أن ندرك فداحة الأجوبة التي كانت تبحث عنها جوسلين صعب خلال عملها، ولكن كبداية يمكننا أن نتخيل الأسئلة التي كانت تحاول طرحها من خلال عملها السينمائي، ولربما هذا أهم ما يدفعنا لفهم تاريخ أعمق لحقبة مهمّة من تاريخ لبنان، وهذا تحديداً ما يجعل من قدرة العمل الفني مساحة مفتوحة لإعادة بناء الصورة الكاملة لسؤال المعنى في ظل الحرب والموت والاجتياح، وحتى في النهاية التي كنا نبحث جميعنا في تفاصيلها، رحلت جوسلين صعب عن عالمنا في 2019 بعد أن عملت على مقاربة مهمة بين العمل الصحفي والمشروع السينمائي، بأعمال وثائقية وروائية وتجربية، كانت تحاول من خلالها أن تضيء على حيز مهم من معنى ما قد يستعيده التاريخ، وما تمثّله الذاكرة، حتى الخسارة والانقسام والفوضى، وعلى استعادة هاجس هش جداً يضم مقاربات تاريخية في فهم المدينة وعلاقات الشخصي مع العام، وما يمثله التداخل بين البحث عن أبعاد التفتت الاجتماعي والسياسي، وبين الروابط التي شكلت لبنان في مرحلة تمتد من السبعينات حتى رحيلها.
من هنا تأتي أهمية العمل السينمائي في قدرته على استنباط سؤال المعنى والذاكرة وما الذي يعنيه النسيان وإعادة التذكّر بين ماضٍ وحاضر تعيشه بيروت اليوم، ويؤكد التداخل الرهيب الذي طرحه جيل كامل من السينمائيين منهم ( برهان علوية، مارون بغدادي وجان شمعون ورندا الشهال…) وبالتأكيد أعمال جوسلين صعب منذ عملها الأول مع يورغ ستوكلين سنة 1975 في الفيلم الوثائقي الطويل “لبنان في الدوامة”، ثم التقارير والأفلام المتوسطة الطول “أطفال الحرب” 1976، “رسالة من بيروت” 1978، و “بيروت مدينتي” 1982، “كان يا ماكان، قصة نجمة” الذي عرض في السينمات اللبنانية في 1995، والذي كان يضم مشاهد من 24 فيلماً طويلاً لبناني وعربي، وعشرين فيلماً أحنبياً، صوِّرت أغلبها في لبنان من الانتداب الفرنسي وحتى الثمانينات، حتى الفيلم التجريبي الطويل والسريالي “شو عم بصير؟” 2009، تأتي هذه الأفلام اليوم لترميم مفهوم عميق في الذاكرة، مهما كانت الأجوبة معقدة وغير واضحة، ولكن الأسئلة التي تطرحها جوسلين صعب لا تنتظر الإجابات أبداً، بقدر ما تبحث عن أسئلة تعطي للتاريخ مفوهماً مناقضاً للتبسيط، بل يعرضه بتعقيداته ويحاول أن يكون من خلاله صورة أكبر لما تحاول أن تعرضه السياسة، مهما حاولنا أن نفهم معنى النسيان أو نتحايل على المعاني، فعرض هذه الأفلام اليوم، هو دليل على الحاضر، ليس بكونه تكراراً ساذجاً للتاريخ، بل بمعناه الأوسع بكونه دليلاً على التشظي والتفتت المتداخل لمعنى الدولة والمجتمع وحتى الظروف التي تربط الأفراد ببعضهم.
قدم مهرجان “اللقاء الثاني” من تنظيم جمعية “متروبوليس سينما” وذلك في إطار مشروع “سينماتيك بيروت” الذي عرض بعض الأفلام الكلاسيكية ليوسف شاهين وآخرين، بالإضافة إلى 12 فيلماً مرمماً للمخرجة جوسلين صعب، قد تم إنتاجها خلال الحرب الأهلية (1975-1990) قامت بترميمها جمعية “جوسلين صعب” على مدار أربع سنوات، استطاعت الجمعية أن تجمع الأفلام وتبدأ العمل على إعادة بناء لعوالم الزمن التي أثرت على جودة الصورة، بحيث تصل الجمعية إلى عرض الأفلام بجودة عالية وقريبة جداً من أول عرض سينمائي للأفلام، مع الحفاظ الكامل على مضمون الشريط ومضمون الصورة ومضمون الصوت، بالإضافة إلى معرض “جوسلين صعب أثناء العمل” الذي سوف يقام في غاليري المعهد الفرنسي، ويهدف المعرض إلى عرض مواد أرشيفية حول أفلام جوسلين صعب، تجتمع النصوص والصور ومقتطفات الفيديو لعرض بعض من الأرشيف، المرتبط بشكل مباشرة بسيرة جوسلين صعب، والذي يكشف بداية عمل المخرجة الإبداعية، كما يتضمن المهرجان عدداً من المعارض والندوات والحوارات تشمل الأفلام من تقديم ليزابونا رحمن، وماتيلد روكسيل، وأناييس فارين، كما يقدم هذا المهرجان بدعم من السفارة النرويجية في بيروت، و “شبكة الشاشات العربية البديلة” (“ناس”).
سياق البحث والترميم يعيد مفهوم الذاكرة في أغلب الأفلام التي يعرضها المهرجان، ويفتح أبواباً على مفهوم أعمق من التذكر يمكن من خلاله فهم السردية التاريخية وتأثيرها على الأفراد، ليس كونهم ماضياً فقط، بل في استعادتهم أيضاً اليوم في الحاضر، ضمن تراكم مستمر تمثله السينما تحديداً وتتكامل معه أسئلة التاريخ، لم يكن السؤال معقداً مثلاً في فيلم “نساء فلسطينيات” الذي افتتح به المهرجان أفلام جوسلين صعب، وكان يعتبر من الأفلام غير المطروحة حتى لحظة وفاتها، تم تصوير الفيلم عام (1974) في لبنان، ويضيء على جانبين مهمين من حياة جوسلين صعب وطريقة عملها وطريقة اختيارها لمواضيعها، وجانب أكثر إشكالية وهو علاقة النساء مع الحرب، وكيف تشكل التأثيرات المباشرة لأسئلة الواقع حياة النساء ضمن إطار توثيقي في ذروة الحركة الثورية الفلسطينية.
هذه الفردية التي يتبناها الفيلم في حياة النساء، تأخذنا في الأسئلة التي تطرحها جوسلين صعب على النساء في الجامعات والمخيمات وأثناء التدريب الفدائي في المعسكرات، لإدراك لحظة مهمة انتهت فيها البراءة، ومعاني استعادتها تكون فارغة من المعنى، لأنها لم تكن تبحث عن الإجابات فقط، بل عن شيء أعمق وهو ضحايا هذه الحرب من النساء اللاتي غالباً ما يتم نسيانهن، وهذا النسيان المتراكم للنساء، تراه المخرجة جوسلين صعب كسؤال جوهري ما زلنا نطرحه حتى اليوم، وهذا تحديداً ما يعني مضمون المساحة التي كانت تحاول جوسلين صعب تصويرها في أغلب أعمالها، وهي القدرة على مواجهة سؤال السياسة والسلطة والمجتمع، في إطار توثيقي، ومعنى هذه الأسئلة بالنسبة للناس، وأظن لذلك تم رفض عرض فيلم “نساء فلسطينيات” لأنه يهتم بما هو شخصي جداً بالنسبة للنساء ويواجه سؤالاً سياسياً وإشكالياً جداً ومثيراً للجدل، ولكن عرض الفيلم اليوم، كان الإضافة التي كانت تبحث عنها جوسلين صعب، برؤيتها الأخلاقية والفكرية، وهي ما تمثله الاستعادة لأسئلة التاريخ ضمن إطار توثيقي، يمكن من خلاله أن نعيد صياغة أسئلتنا عن الحاضر، وفهم علاقتنا مع المكان والتاريخ، في إطار أوسع من المساءلة، لربما هو البحث، البحث الدائم عن أسئلة يمكن أن نفهم من خلال علاقتنا مع إشكالية السياسة، وما مثلته دائماً في حياتنا، ولربما هذا تحديداً ما كانت تبحث عنه جوسلين صعب.
أخيراً قدمت لنا جوسلين صعب مثالاً صعباً عن الجرأة، ليس جرأتها الخاصة في اختيار ما تبحث عنه، بل بجرأتها الكبيرة في تعرية أدوات السلطة ومكر السياسة وفداحة طمس الذاكرة المكرر الذي تحاول من خلاله السلطة دائماً أن تبرر السياسية، لم تقبل جوسلين صعب بهذا التبرير، بل دخلت في أعمق فهم للتاريخ وهو من خلال الناس، وهذا تحديداً ما يجعل إعادة ترميم أفلامها وعرضها نقطة مهمة، يمكن من خلالها أن نبني أسئلتنا الخاصة حول مضمون العمل السينمائي والسياسي، وآلية فهم العمل الفني كونه أداة لشرح تاريخ بديل يجرد السلطة من أدواتها والسياسة من مكرها الساذج في الشرح.