صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ضمن “سلسلة ذاكرة فلسطين” كتاب “مخيم تل الزعتر: وقائع المجزرة المنسية” لمحمد داود العلي. يقع الكتاب في 463 صفحة، ويشتمل على قائمة ببليوغرافية وفهرس عام.
يوثق الكتاب الحوادث التي قادت إلى مجزرة تل الزعتر في آب/ أغسطس 1976، في ذروة الحرب الأهلية اللبنانية، حرب السنتين، محاولًا تأريخ المجزرة بأبعادها السياسية والعسكرية والإنسانية، ومسلطًا الضوء على السياقات القانونية والاجتماعية والاقتصادية للّاجئين الفلسطينيين في مخيمات اللجوء في لبنان. ويقدّم خلفية تاريخية عن العلاقات السورية – اللبنانية – الفلسطينية وتحولاتها خلال الفترة التي يغطيها.
يعرض الكتاب الوضع الإنساني لـ 30 ألف نسمة في المخيم والأحياء القريبة منه، في جسر الباشا والنبعة والكرنتينا، خلال فترة الحصار التمويني، ويتتبّع مشكلات نقص المياه، وانقطاع الكهرباء، وضعف الخدمات الطبية، وحوادث قتل المدنيين في الملاجئ، وحتى صعوبة العثور على مدافن للضحايا.
مخيم تل الزعتر والحرب اللبنانية
عززت حالة الاستقطاب في لبنان صورة تل الزعتر بوصفه “معسكرًا” لا مخيمًا للاجئين، فغابت صورة السكان المدنيين وطلبة المدارس والنساء والعمال الذين يتشاركون المكان مع مقاتلين ورجال ميليشيا ينتمون إلى فصائل مختلفة المشارب والولاءات، وبات سكان الأحياء المسيحية القريبة من المخيم ينظرون إليه عند مرورهم قربه باعتباره مصدر قلقٍ ورعبٍ دائمين، وبات المخيم مع مدنييه، قُبيل انفجار الحرب عام 1975، أشبه بجسم غريب مزروع في غير مكانه.
بالنسبة إلى تل الزعتر، فقد أتاح موقعه المشار إليه هامشًا واسعًا لوقوع سكانه المدنيين ضحايا عمليات الخطف في أثناء تحرّكهم من المخيم وإليه، وحدث ذلك بكثافة قبل انشطار العاصمة إلى نصفٍ غربي فيه غالبية مسلمة وشرقٍ مسيحي، وتقلُّص منافذ العبور بينهما بالتدريج إلى معبر واحد هو معبر المتحف. كان الضحايا في الغالب من المدنيين الفلسطينيين الذين كانوا يستغلّون فترات الهدوء للالتحاق بأعمالهم، أو خلال انتقالهم إلى بيروت الغربية. وفي المقابل، أتاح توسط المخيم بين عدة أحياء مسيحية ووقوعه على جانب طريق المكلس – بيت مري – برمانا الحيوي فرصة للتنظيمات الفلسطينية التي انزلقت بدورها إلى هذه الممارسة لاصطياد خصومها العابرين من هناك أو من منطقة سن الفيل القريبة. وفي حين كان المدنيون يختفون بلا أثر في بيروت، كانت الاتصالات بين القادة على جانبَي جبهات الحرب تُنهي احتجاز الشخصيات المعروفة على ضفتَي الحرب، هذا ما حدث لوليد جنبلاط الذي اختطفه مسلحون من ميليشيا نمور الأحرار في أيلول/ سبتمبر في الحازمية ثم أطلقوا سراحه. وحظي ياسين معتوق، مسؤول الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة، بفرصة مشابهة في شرق بيروت بعد ثلاثة أيام من اختطافه على حاجز طيّار لميليشيا حزب الوطنيين الأحرار، في طريقه من تل الزعتر إلى غرب بيروت. وتكرر الأمر مع رئيس مجلس الأمن الكتائبي، وليام حاوي، الذي أُوقف على حاجز قرب تل الزعتر في تشرين الأول/ أكتوبر، ثم أُطلق سراحه بعد اتصالات على أعلى مستوى. غير أن هذا الوضع برمّته ما لبث أن تغير مع تبدّل اتجاهات الحرب في النصف الثاني من كانون الأول/ ديسمبر 1975.
وفي قراءة للخلفية التاريخية حول العلاقات السورية – اللبنانية – الفلسطينية وتحولاتها خلال الفترة التي يغطيها الكتاب، يظهر الدور السوري في تشكيل مسار الأحداث، وكيف تطوّر هذا الدور عسكريًا وسياسيًا، منذ المبادرة السورية التي أُعلنت في 22 كانون الثاني/ يناير 1976، وانحياز القيادة السورية بداية الأمر إلى الحركة الوطنية اللبنانية والقيادة الفلسطينية. لكن في مرحلة لاحقة، تغيّر المشهد السياسي حين بدأت تستبدّ بالفصائل الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية بقيادة كمال جنبلاط مخاوف من تحسّن علاقات القيادة السورية مع المعسكر المسيحي سينتج منه تحجيم نفوذهما في لبنان، واتهامهما النظام السوري بتقديم غطاء سياسي لقوات الكتائب اللبنانية في المعارك التي شنّتها على مخيم تل الزعتر ومواقع القوات الفلسطينية – اللبنانية.
لقد كان هناك دور عسكري سوري مباشر في الأحداث بعد دخول القوات السورية إلى لبنان، ومزاعم بإرسال كتيبة دبابات سورية إلى محيط المخيم واتهامها بالمشاركة في الهجوم عليه، وفق بعض الروايات غير المؤكدة.
معركة تل الزعتر
كان أبرز ما حصل سياسيًا خلال حرب السنتين انهيار أجهزة الدولة، وانقسام الجيش اللبناني على نفسه، وفرار رئيس الجمهورية، سليمان فرنجية، إلى مقرّ مؤقت بعد سقوط قذائف مدفعية على مقره الرسمي. وجرّت تلك الأحداث سورية إلى التدخل في لبنان من أجل الوساطة بداية، ثم زجّت بجيشها على مراحل، وصلت في نهايتها إلى الانخراط في القتال.
عربيًّا، بذل الأمين العام لجامعة الدول العربية، محمود رياض، ومبعوثه حسن صبري الخولي، مساعيَ دبلوماسية لوقف الحرب، وأرسلت ليبيا والسودان والسعودية والإمارات واليمن وحدات عسكرية لحفظ الأمن، لينتهي أمر هذه البعثات – باستثناء الليبية – بالانضواء قليلًا من الوقت تحت راية القوات السورية، ضمن تركيبة قوات الردع العربية التي شُكّلت بقرار عربي جامع في 18 تشرين الأول/ أكتوبر 1976.
في خضمّ تلك الأحداث التي يتجنّب اللبنانيون الخوض في تفاصيلها، حصلت عمليات قصف عشوائي، وتهجير وإخفاء قسريّان، واختطاف وقتل على الهوية. وحُوصر مخيم تل الزعتر، أكبر مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وقتها، وشُرّد من تبقّى من سكانه في إثر مجزرة دموية لم تُوثَّق وقائعها بالكامل.
مرّ حصار تل الزعتر واقتلاعه بأربع مراحل: حصار تمويني نفّذته ميليشيات اليمين المسيحي اللبناني مطلع عام 1976 استمر سبعة أشهر، تلاه هجوم عسكري مُحكَم من الجهات الأربع مدة اثنين وخمسين يومًا، ثم خروج متزامن للمقاتلين في اتجاه الجبال، وللمدنيين نحو خطوط الميليشيات، وفي المرحلة الرابعة الأخيرة، ارتكبت تلك الميليشيات داخل مناطقها وعلى نقاط التفتيش مجزرة في حق المدنيين والفِرق الطبية التي استسلمت لها في 12 آب/ أغسطس 1976، ثم رُحّل من تبقّى من الأحياء، وغالبيتهم نساء وأطفال، إلى الشطر الغربي من العاصمة.
عسكريًا، كان الهجوم الأخير على تل الزعتر ثمرة خطة أعدّها المقدّم حينها ميشال عون، ونفّذتها ميليشيات اليمين المسيحي ووحدات الجيش اللبناني الموالية لها، وواجهها المدافعون عن المخيم بالصمود على الرغم من شراسة الهجوم، لكن مقاومتهم انهارت بعدما خسروا خطوطهم الدفاعية المتقدمة وآخر مصدر للماء لديهم، فتضاعف العبء على المقاتلين من جرّاء وجود أكثر من 13 ألف مدني داخل المخيم، وعندما استسلم السكان وانسحب المقاتلون عبر الجبال، ارتكب رجال الميليشيات وأنصارهم مجزرة لم يُقرّ أحد إلى اليوم بالمسؤولية عنها، كما لم يُعرَف بعد مصير آلاف المدنيين الذين فُقدوا خلالها.
التدخل العسكري السوري وآثاره
حضر ياسر عبد ربه وياسر عرفات – الذي كان قد عاد سرًا إلى لبنان عن طريق مرفأ صيدا – ذلك الاجتماع عن الجانب الفلسطيني، وعن الكتائب حضر عضوا المكتب السياسي ميشال سماحة وكريم بقرادوني، ومثّل سورية في اللقاء وزير خارجيتها عبد الحليم خدام وقادة عسكريون رفيعو المستوى، ورعاه مبعوث جامعة الدول العربية حسن صبري الخولي، وسط توتر وجو مشحون بين الطرفين. تحدّث بقرادوني أولًا “بلهجة المنتصر عن قرب القضاء على تل الزعتر، وعن المعاملة الإنسانية التي ستمارَس (مع سكانه) بعد الانتصار المؤكد”، وردّ عليه عبد ربه بكلمة هي مزيج من الوعيد وتفنيد الإنسانية المزعومة لدى أحزاب اليمين وميليشياته، ودعاه إلى فك الحصار عن تل الزعتر، “وبعد ذلك نبدأ نفتّش عن حل سياسي وبمساعدة الشقيقة الكبرى سورية”. وبعد مداخلة مقابلة لبقرادوني، رفض فيها رفع الحصار ووقف إطلاق النار، وأبلغ عرفات إصرار الكتائب على مواصلة العمليات في تل الزعتر، تولّى عرفات الرد بعدما ظل صامتًا خلال الاجتماع، فسخر أولًا من جرأة بقرادوني غير المعهودة بالنسبة إليه، ثم وجّه لومه إلى المسؤولين السوريين الجالسين جانبًا “اللي قاعدين بيحموك وبيساعدوك”.
لم يُفضِ الاجتماع إلى أيّ نتيجة، وكان مجرد منازلة كلامية كشفت فيها القيادة الفلسطينية عن معرفتها بانحياز القيادة السورية ووقوفها في صف الميليشيات اليمينية، كما كشفت الكتائب عن إصرارها على الحسم العسكري، وغياب أيّ احتمال لحل وسط من شأنه أن يوقف صراع الإرادات السورية – الفلسطينية حول تل الزعتر وسائر الجبهات المشتعلة داخل لبنان.
بعد انتهاء الهجوم العسكري على تل الزعتر بسقوطه في 12 آب/ أغسطس، بقيت فرضية مشاركة الوحدات السورية في الأعمال العسكرية المباشرة ضد المخيم – مثلما كانت قبله – غير قابلة للتصديق، بسبب غياب الأدلة الدامغة عليها، علمًا أن حدّة الصراع بين القوات السورية والقوات المشتركة وقتئذٍ لم تُعطِ مخيمات اللاجئين الفلسطينيين الأخرى حصانة من القصف السوري؛ فقد استُهدف مخيم شاتيلا ومحيط صبرا غرب بيروت، بالقصف المدفعي والصاروخي في 14 حزيران/ يونيو 1976، وتعرّض مخيما عين الحلوة والمية ومية شرق صيدا لقصف مماثل في 29 من الشهر ذاته. أما في تل الزعتر، فظهرت رواية لم تؤكدها مصادر سورية أو لبنانية عن مشاركة وحدات سورية في قصف المخيم أول أيام هجوم ميليشيات اليمين المسيحي عليه. وقد دعم هذه الرواية العميد مريد الدجاني، مدير مكتب أبو الهول.
وذهب المؤرخ حنا بطاطو إلى تبنّي الرؤية ذاتها، مشيرًا إلى اكتفاء الجيش السوري بتعطيل الهجمات الفلسطينية الهادفة إلى كسر الطوق حول تل الزعتر. وكتب مفسّرًا في هذا الصدد “أن الأسد بتثبيته القوات الفلسطينية في الجبال حرر الميليشيا اليمينية، الأمر الذي مكّنها من القيام بهجوم شامل على تل الزعتر أدى إلى سقوطه في 12 آب”.
حظيت نظرية بطاطو التحليلية الاستنتاجية عن اكتفاء القيادة السورية بتثبيت القوات المشتركة في أماكنها بتأييد عضو اللجنة التنفيذية في منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عبد ربه، فقال إن القوات السورية كانت تحاول “ألا نتمكن من تطويق الطوق الكتائبي من الجبل”. وقدّم الباحث يزيد صايغ عينة توضيحية للتكتيك الميداني المستخدم لتحقيق هذا الغرض عند إشارته إلى أن المدفعية السورية قامت في 2 تموز/ يوليو 1976 من موقعها في عين الصحة، بتعطيل عملية تسلل 250 مقاتلًا من فتح مزودين بأسلحة إسناد عبر منحدرات قرطاضة باتجاه تل الزعتر. كان ذلك يجري بالتزامن مع خوض الميليشيات اليمينية قتالًا شرسًا إلى جانب الجيش السوري في منطقة أخرى هي أعالي كسروان، انتهى بانتزاعهما مرتفعات فاريا – عيون السيمان من يد القوات المشتركة في 29 حزيران/ يونيو 1976. وفي مقابل امتناع مسؤولين من الفصائل الفلسطينية المختلفة عن تأكيد المشاركة السورية المباشرة في القتال في تل الزعتر، فقد كانوا مُجمعين على وجود ضباط سوريين كبار في غرفة عمليات الميليشيات المسيحية المشرفة على الهجوم على المخيم.
وتشير وقائع تلك الحقبة إلى أن التنسيق بين الطرفين ما لبث أن انتقل إلى دمشق في 5 آب/ أغسطس 1976، عشيّة استسلام حي النبعة ذي الغالبية الشيعية للميليشيات اليمينية بحسب ما أفاد لوسيان دحداح، صهر الرئيس سليمان فرنجية ومستشاره. وحضر لقاء دمشق قائد ميليشيا الكتائب بشير الجميّل، وأمين الدفاع في حزب الوطنيين الأحرار داني شمعون، بحثا خلاله “قضايا عسكرية”. وإذا كان اجتماع دمشق قد خُصص لبحث القضايا العسكرية التي تتطلب مرجعية على أعلى مستوى قيادي، فقد ظلّت طبيعة التنسيق بين الضباط السوريين والميليشيات في الميدان اللبناني غامضة إلى أن تحدّث عنها مسؤولون عسكريون وسياسيون في أحزاب اليمين المسيحي.