الطريق إلى تدمر ليس طريقاً عادياً. إنه أفعى أسطورية تتلوى وتتثاءب وتتطاول.
حضرني الشاعر المتنبي في قوله:
نحن أدرى وقد سألنا بنجدٍ = أطويل طريقنا أم يطولُ
كان شوق المتنبي إلى مبتغاه يُشعِره بطول الطريق.. أمّا نحن فإن ما يُطيل طريقنا هو المجهول، وما ينطوي عليه من فداحات يصعب تصوّرها.
ما من شكّ أن اقتحام الخطر، أقل وطأة من ترقّبه، وتدمر لا تريد أن تصل.
ـ آ ا ا ا ا ا ا خ..
ما أوجعها من صرخة تشبه عواءً مجروحاً وممتدَّاً على طول هاوية سحيقة.
ـ إخرس ولك شرموط.. شو في عندك؟
ـ الكلبشة.. الكلبشة انزلقت، وعمتضغط عالعضم.
ـ روح أبو شريك دبِّر له الكلبشة بمعرفتك.
ـ طخّْ..
ارتطام أخمص البندقية بالرأس، كتَمَ الصرخة، وتركها معلَّقة عند منتصف الهاوية، ثم شيئاً فشيئاً أصبحت السماء والأرض منطبقتين تماماً، لا يفصل بينهما سوى خيط من الأنين، وربما خيط من الدم، وفحيح اشطمان الميكرو.
يا إلهي كم يبدو الزمن بطيئاً ودبقاً وكريه الرائحة!!
ـ قدّيش باقي تانوصل؟
سأل أحد أفراد الدورية، فأجابه آخر:
ـ ما أكتر من نص ساعة.
ـ نص ساعة والعكاريت بعدهم نايمين. نايمين يا عكاريت ما هيك؟! من شوية كنتوا بالفرع عاملين لي قبضايات! هلق منشوف زلوميّتكن.. قال شو..؟ ما بتعرف خيرو لتجرِّب غيرو.. والله تا تْشوفوا نجوم الظهر هلق.. بتستاهلوا.. ما بعرف شو كان بدكن بهالشغلة الوسخة.. كلَّيتكن مثقفين وعايشين وعين اَلله.. رْفَسْتوا النعمة لشو؟! ولك شو يللي ما عاجبكِن بسيادة الرئيس آ ا ا؟ منين بدكن تجيبوا رئيس أحسن منُّو؟! أحكوا.. هاتوا تاشوف.. منين؟ صدقوني إذا بتبرموا الدنيا شرق وغرب، ما رح بتلاقوا رئيس بيجي لضفر من ضافيرو.. والله لو تفهموا وتقدروا بس، تا كنتوا تركعولو وتصلُّولو ياعكاريت.. قولولي بس شو يللي ما عاجبكن فيه ؟! ولك والله شخاختو دوا.. ولك والله والله خريتو مزار..
كانت كلمات المحاضرة تخرج من فم العسكري مهتوكة ومشرَّمة ومليئة بالتأتأة والنبر في غير أماكنه، وبين الجملة والأخرى كانت أخامص البنادق، تكمل عرض براهينها المفحمة بالدقّ على رؤوسنا حتى توقَّف الميكرو.
ـ سمعوني كيِّس. هلَّق وأنتو نازلين بتتركوا الطمّيشات عند باب الميكرو، هيدول طمّيشات الفرع.. مَتسمعوا شو مَقول؟ بتنزلوا وعيونكن مغمَّضة وروسكن بالأرض، وكل واحد إيدو بإيد رفيقو.
صفّان من أفراد الشرطة العسكرية مع سياط عريضة وسميكة ينهالون بها علينا مترافقة مع لكم وركل وأصوات بهيمية زاجرة.
بعد زمن يشبه الغيبوبة، وجدنا أنفسنا محشورين في غرفة صغيرة على ثلاثة أنساق، واجمين ووجوهنا إلى الحائط.
أوقفونا على ثلاثة أنساق، ولسبب ما طلب مني أحدهم أن أقف منفرداً بمحاذاة الجدار، ثم ران صمت موحش كتيم.
تساءل أحدنا:
ـ هل انتهت التشريفة؟
جاءه الصوت من الخلف كضربة سوط:
ـ بلا حكي يا منيوك.
ران الصمت من جديد.. ثم فجأة أحسست بيد صلبة، تسحبني من كتفي.. التفتُّ لأرى نفسي أمام رقيب أشقر فاقع، يرفع رأسه على نحو استنكاري، وهو يحدجني بنظرة حجرية، تقدح إنذاراً ما.
هززت رأسي مستفهماً عما يريده، فقال لي:
ـ غمَّض عينيك.
لم أكن أعرف، أن إغماض العينين في تدمر، هو الدرس الأول، الذي يتلقاه السجين فور وصوله.
تذكرت كلمات رئيس الفرع:
ـ يا كلاب.. فور ما تنرفع الطميشة عن عيونكم، بتصيروا تبحلقوا بوجه المحقِّق بطريقة.. بطريقة.. حتى القحبات ما بتقدر عليها.
أعاد الرقيب أمره لي بنفاد صبر، كما لو أنه الإنذار الأخير قبل إطلاق النار.
فكَّرت أني لو استجبتُ له فسأعطيه إشارة واضحة إلى إمكانية ترويضي، وذلك ما لا ينبغي أن يحدث.
كان يحدِّق بي بنوع من الاستغراب والاستهجان، وكأن من الطبيعي أن أكسر نظري أمامه. اقترب مني أحد العساكر..
ـ كل شي عم يقوله حضرة الرقيب أمر عسكري مُنزل من عند اَلله، ورفض التنفيذ، يعني كفر وتمرد.. نفّذ أحسن لك.
همسات بعض الرفاق تصلني راجية ومشجعة ومستغيثة ومؤنبة ومواسية كي لا أكبِّر الموضوع.
أغمضتُ عينيّ لعل الرقيب يكتفي بذلك.
– أغمض جيداً.
أغمضتُ بقوة، لعلي أقنعه بأنه انتصر، غير أن صفعة كافرة طرقع صوتها تاركاً في فضاء الغرفة صمتاً مدوياً، أعقبه طنين شامت، شعرت معه أنني أقف على نصل حادّ، يشقُّني بين رغبتين: الانتحار أو البكاء.
بعد قليل نقلونا بضعة أمتار إلى الداخل، وأبلغونا أن من يسمع اسمه عليه أن يقول “حاضر” ثم يذهب مع العسكري إلى غرفة الذاتية لتسجيل قيوده وتسليم الأمانات من ذهبٍ أو خواتم ونقود وساعات إلخ.
ـ فلان الفلاني..
ـ حاضر.
ـ يا ابن المنتاكة.. قل حاضر حضرة الرقيب، وبعدين تحرّك.
ولأن مجموعتنا تضم خليطاً من حماة ودمشق وحمص وطرطوس واللاذقية والرقة، علَّق أحدهم:
– باينتكم يا عرصات متل برنامج إذاعة دمشق تبع “من كلّ قطر أغنية”.
انتهينا من الذاتية فساقونا خطوات إضافية إلى الداخل، ثم طلبوا أن نخلع أحذيتنا ونجلس مع شبك أيدينا حول ركبنا.
شحاطة راشد جديدة. أحد رفاقنا في فرع فلسطين أهداها له. مرّ بقربنا أحد عناصر السخرة أو “البلدية” حسب تسمية السجن، فلبس شحاطة راشد وترك له شحاطاً مهترئاً ومبللاً بالشحوم والزيوت. اعترض راشد، وليته لم يعترض. تجمّعوا عليه مثل قطيع ذئاب هيَّجتها رائحة الدم.
هُوَّة عميقة من الصمْت، ثم بدأت من الخلف ماكينة حلاقة يدوية راحت تتقدّم باستهتار وهي تفلح رؤوسنا وشواربنا.
بعد نتف أحد شاربيّ في فرع فلسطين، ها أنذا أتذكر مرة ثانية فيلم الأرض، أعني مشهد التماع بريق الدمع في عيني الممثل الكبير محمود المليجي، حين عاد إلى قريته مكسوراً بعدما تعرض للسجن والإهانة الكبرى بحلق شاربيه.
نظرة سريعة كافية لتؤكد أننا لسنا نفس المجموعة التي كنّاها قبل قليل، فالآدميّ بشعر وشاربين، ليس هو نفسه بدونهما.
ـ بلدية..
صرخ الرقيب
ـ خذوهم إلى باحة التشريفة.
يا دين دينكم!
إذن ليس كل ما مضى سوى تحضيرات للتشريفة؟!
ـ إخلع كامل ملابسك.
الأوامر مسنونة قاطعة، لا بل هي كالطلقات لا تقبل رجوعاً بعد إطلاقها. تبخَّرت جميع أفكارنا التي تداولناها في فرع التحقيق بشأن رفض التشريفة.
بدأنا بخلع ملابسنا ونحن نتلكَّأ بفك الأزرار، كمن يحاول تأجيل قدر محتوم، ولو لبضع ثوان إضافية، لعل معجزة ما، تغيِّر مجرى الحكاية.
ـ نخلع الكلاسين أيضاً؟
ـ لا تترك عليك شيئاً سوى جلدك، فنحن بحاجة إليه.
وهكذا راحت السياط تتلامح وتتوامض وهي تشهق ثم تشخط الهواء بزفيرها. رأيت الكثير من أفلام الرعب والمغامرات، وكنت أنتبه جيداً إلى الموسيقا التصويرية، ولكني لم أسمع أبداً ما يمكن أن يقارب هذه الأصوات الممزقة بين الصراخ والعواء، وما يشبه الولاويل، ثم شيئاً فشيئاً صارت الأصوات بحّاء متهدّجة، وهي تجرّ وراءها أنيناً مخطوفاً، تتخلله شهقات دامية متقطعة.