صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب سيد فارس “ثقافة الحركات الاجتماعية الجديدة: مقاربات أنثروبولوجية”، وهو يتألف من 376 صفحة، ويشتمل على ببليوغرافيا وفهرس عام.
صارت الحركات الاجتماعية جزءًا من الحياة المعاصرة في عدد من المجتمعات، ومصدرًا رئيسًا للتغير السياسي والثقافي عالميًا. ويشهد المجتمع المصري، منذ ثورة 25 يناير 2011، فترةً من النشاط الاحتجاجي المتزايد؛ إذ تتسع دوائر الاحتجاج، ثم تنحسر وتنتقل من المجال العام إلى المجال العام الرقمي تحديدًا. وقد قادت الحركات الاجتماعية الجديدة في مصر إلى تغيرات مثيرة وفجائية؛ ما جعل من بحثها ومقاربتها (مصدرها، والمشاركون فيها، ونجاحاتها وإخفاقاتها) ضرورة ملحّة، خاصة بعد أن صار الارتياب السياسي، والاحتجاج، وفعل الاحتجاج الجمعي، سمات بارزة تميز الحياة السياسية المصرية المعاصرة.
يتوخى هذا الكتاب مدخلًا جديدًا في مقاربة الحركات الاجتماعية متمثلًا في المدخل الأنثروبولوجي الثقافي الذي يسعى لدراسة الحركة الاجتماعية الجديدة دراسةً كلية شاملة، مع التركيز على السياقات الماكرو-سياسية، والماكرو-اقتصادية. ويحقق تسليط المقاربة على الثقافة في دراسة الحركات الاجتماعية ربط أنشطة وسلوكيات الحركات الاجتماعية بالأحداث اليومية العادية، وبالبدهي والاعتيادي وروتين الحياة اليومية. وتشكّل هذه الثقافة اليومية الواقع الخفي المغمور الذي يمثّل الجانب غير المنظور للفعل الجمعي.
أنثروبولوجيا الحركات الاجتماعية
تؤكد الأنثروبولوجيا السياسية المعاصرة تغلغل السياسة والقوة في جميع مناحي الحياة، وتُعتبر حساسية الأنثروبولوجيا إزاء شمولية القوة والسياسة وتخللهما إحدى نقاط قوة هذا الفرع. وتتعامل أنثروبولوجيا ما بعد الحداثة مع السياسة الموجهة بالفاعل Agent-Driven، ومن الموضوعات التي تركز عليها الهيمنة والمقاومة. ويسود في الأنثروبولوجيا السياسية تصور مفاده أنّ الشعوب تسحقها قوة الدولة. لذلك، يوجّه الأنثروبولوجيون انتباههم، على نحو متزايد، إلى الطرائق التي يقاوم الناس من خلالها على نحو عنيفة أو غير عنيف. وقد أفضى ذلك، في الآونة الأخيرة، إلى بروز موضوعات “أنثروبولوجيا الديمقراطية”، و”أنثروبولوجيا المواطَنة”، و”أنثروبولوجيا الحركات الاجتماعية”.
لقد بدا دمج المتغيرات الثقافية في دراسة الحركات الاجتماعية مفقودًا فترة طويلة. ومنذ ثمانينيات القرن المنصرم، تتخذ دراسة الحركات الاجتماعية والفعل الجمعي في الولايات المتحدة “منحًى ثقافيًا”. ومنذ ذلك الحين، ذاع مفهوم الثقافة وراج في الأدبيات الأكاديمية، واتجه الباحثون إلى تطوير اتجاهات فَهْم الثقافة والحركات الاجتماعية ومراجعة هذه الاتجاهات.
ومن شأن نظرية التأطير وفكرة الهوية الجمعية ودراسة أدوار الانفعالات في أفعال الحركة وأنشطتها، والنتائج أو المصاحبات الثقافية للنشاط السياسي، أن تعكس الاندماج والتشابك بين الثقافة والفعل الجمعي. وقد صارت دراسة البيئة الثقافية التي تظهر فيها الحركة الاجتماعية وكيفية تشكيل هذه البيئة للفعل الجمعي أمرين مهمين كثيرًا. ويشمل ذلك إقصاء الحركة الاجتماعية الواحدة عن المركز باعتبارها مستوى للتحليل، والاهتمام المتزايد بالكيفية التي من خلالها توجِّه إتاحة الموارد الثقافية المشروعة مسارات نشاط الحركة وتكبح هذا النشاط وتقيّده.
تتجه بحوث الحركات الاجتماعية المعاصرة إلى النظر في ثقافة الحركة الاجتماعية، وتتجلى في ظواهر عدة، مثل الهوية الجمعية والرموز والخطاب العام والحكايات والبلاغة، وتركِّز على المدى الذي تتجسد فيه الثقافة في الأفراد والجماعات، خصوصًا بعد أن شهدت الحركات الاجتماعية تحولًا من التركيز على الطبقة والسلالة وقضايا سياسية تقليدية أخرى إلى الخلفية أو الأساس الثقافي. لقد كانت الثقافة دومًا محورية في أنواع العمليات التي يتناولها باحثو الحركات الاجتماعية بعامة، مثل تعيين هوية مشتركة وتنمية التضامن وفعل التعبئة. والحقيقة أن الحركات الاجتماعية هي المواقع التي تتشكل فيها الموارد الثقافية الجديدة، مثل الهويات والأيديولوجيات، على نحو متكرر.
تتجلى الثقافة بطرائق متعددة ومتنوعة في ظهور الحركة الاجتماعية وتشكّلها، وكذلك فعالياتها وأنشطتها وسلوكياتها. وتتجلى أهمية الثقافة في جميع جوانب الحركات الاجتماعية تقريبًا. ويتشكّل نشاط أعضاء الحركة بالأوضاع الثقافية، وتشكّل الحركة ثقافة فرعية خاصة بها، وتؤثر في الخطاب العام، وتجلب تغيرات ثقافية إلى المجتمع. ويفضي ظهور ثقافة جديدة إلى ظهور أنواع جديدة من الحركات الاجتماعية. ويمكن القول إنّ الحركات الاجتماعية لا تتشكل بالثقافة فحسب، بل إنها تشكّل الثقافة وتعيد تشكيلها أيضًا. وتُكيف الرموز والقيم والمعاني والأيقونات والمعتقدات وتصاغ لتلائم أهداف الحركة، ثم تُغرس في الثقافة السائدة عن طريق المأسسة والصيغ المتكررة.
المقاومة الثقافية
يطور الأفراد داخل الجماعات والتنظيمات أنماطًا خاصة بهم من قيم ومعايير وسلوكيات يومية، إلى جانب ثقافة المجتمع العامة السائدة Mainstream. وتُصنَّف هذه الثقافات الجماعيةGroup Cultures عادةً وفقًا لتمايزها عن الثقافة العامة السائدة؛ باعتبارها ثقافات مضادة، وثقافات فرعية، وجماعات أسلوب حياة Lifestyle Groups. ووفقًا لأعداد الجماعة التي ترتكز عليها الأنماط الثقافية، ووفقًا لتماسك هذه الجماعة أيضًا، ثمة اتجاه معاصر إلى وصف حتى العلاقات الاجتماعية المحدودة وغير المستمرة وتشخيصها، باعتبارها تمتلك ثقافات خاصة تميزها. ومن المفاهيم الشهيرة والعتيقة، مثل الثقافات الفرعية والثقافات المضادة، إلى فكرة تمفصل الثقافات الفكرية Ideocultures التي ترتكز على ميادين تفاعلية زائلة وعابرة، يمكن أن تطبَّق أبعاد التحليل الثقافي على جميع أنواع تجمعات الحركة الاجتماعية – من الخلايا الثورية Radical؛ حيث كثافة الثقافات الفرعية، إلى حركات الإجماع، فإلى “حركات دفتر الشيكات”؛ حيث الثقافات متناثرة جدًّا، وجميع تنظيمات الحركة بينية.
يصوغ الناشطون في تنظيمات الحركة الاجتماعية ثقافات فرعية أو داخلية ثرية تساعد على تدعيم التضامن والالتزام وإدامتهما، وتحقيق تكامل جماعة الحركة واستمراريتها. وتؤثّر هذه الثقافة الداخلية في نمو الحركة وبقائها واستراتيجياتها التنظيمية، وتدعم تشكّل هويات جمعية تؤثّر في ظهور الحركة، والتجنيد والتعبئة والتكتيكات والمخرجات أو النتائج. ويصوغ ناشطو الحركة تعريفات حدود جماعية يفهمون من خلالها أنفسهم، وارتباط بعضهم ببعض، ومكانهم السياسي في العالم، ويطورون أُطرًا وخطابات لفهم القضايا التي يدافعون عنها، تذاع وتُنشر علانيةً وجماهيريًا؛ لاستقطاب أعضاء جدد، وإحداث التغيير المنشود. ومع ذلك، لا تقوم الحركة بذلك في عزلة، بل ينشئ أعضاؤها هويات جمعية وأطرًا وخطابات داخل سياق الثقافة السائدة والتفاوتات البنائية القائمة.
وتمثّل الثقافة هوية جماعة الحركة الاجتماعية. وتتسم الجماعة بهوية ثقافية مشتركة، وبأنها قادرة على الانخراط في فعل جمعي. وربما يتزايد الاندماج الثقافي Cultural Compactness بمرور الزمن. وتُعَدّ الحركات الاجتماعية بمنزلة البوتقة التي تتشكل فيها الموارد الثقافية الجديدة، مثل الهويات والأيديولوجيات. وتتألف ثقافة الحركة من الأهداف والأيديولوجيا والمعتقدات ورؤى العالم والقيم والمعايير والرموز والهويات والحكايات والذكريات الجمعية والشعائر والأغاني والفن، وغير ذلك مما يُنتج التضامن والتماسك، ويحفز أعضاء الحركة، ويديم الفعل الجمعي.
الجسد المحتج والجنسنانية
مع أن الأجساد الأنثوية تضبطها وتنظمها خطابات السلطة الأبوية والإسلاموية وسياسات الدولة، فإنها مواقع للمعارضة والثورة أيضًا؛ فالنظرة إلى أجساد النساء باعتبارها وسائل لغايات سياسية، اعتمدها الإسلاميون والليبراليون والجماعات الداعمة للحكومة والمؤيدة لها. وقد تنافس هؤلاء جميعًا في تعريف الجسد الأنثوي باعتباره معتديًا وجامحًا وغير منظّم، أو غير نقيٍّ وغير ورعٍ، بما يتوافق مع أجنداتهم. وفي المجال العام، لا تُنظّم أجساد النساء، ولا تُضبط من خلال “النظرة الذكورية المحدقة” فحسب، بل إنها تُنظم وتُضبط أيضًا من خلال سلطة الدولة والسلطة الدينية اللتين تضمنان بقاء ذكورية المجال العام محميةً من الفوضى المحتملة التي قد تُحْدثها الأجساد غير الذكورية المتعدية، وتُعاقَب الأجساد الأنثوية غير الممتثلة لمتطلبات المجال العام.
إن تصورات النوع تمثّل جزءًا لا يتجزأ من ثقافة الحركة الداخلية التي تساهم في تدعيم التضامن والالتزام، وتحقيق تكامل جماعة الحركة واستمراريتها، وتدعم تشكّل هويتها الجمعية. وتمثّل ثقافة الحركة الاجتماعية وممارساتها أداةَ مقاومةٍ ثقافية لتصورات النوع وخطابه السائد، وغياب العدالة الجندرية. والسلوك الاحتجاجي للمرأة في مستواه الكامن هو تحدٍّ للتوقعات الثقافية السائدة بشأن الامتياز الذكوري والسلطة الأبوية. ويجسد السلوك الاحتجاجي للمرأة أداةً لنقل رسائل عن تمردها على المجال الخاص، وولوجها المجال العام. وتُعَدّ أجساد النساء مواقع للسيطرة الاجتماعية ومستودعًا للقوة الانضباطية؛ إذ يمتلك الجسد الأنثوي قدرةً متأصلة على مقاومة الهيمنة وعلاقات القوة، وهو أداة لمقاومة النظام الأبوي وتصورات النوع وتوقعاته التي تكبله وتقصيه عن المجال العام، ثم إنه أداة لنقل رسائل الحركة المتعلقة بالظلم والقمع والقهر.
والجسد المحتج هو أيضًا أداة لتغيير صورة الجسد باعتباره موقعًا للتحكمات الثقافية والسياسية. ويتفق ذلك مع رؤية بيير بورديو الذي أشار إلى الطريقة التي من خلالها تفرز عادات الجسد السمات الثقافية والبناء الاجتماعي وتولّدها. إن من نتائج الحركات الاجتماعية تشكيل صور عامة تربك الشفرات الثقافية القائمة. وعندما يكون التعبير عن الاحتجاج عن طريق الجسد، ولا سيما الجسد الأنثوي، يصعب التسامح حياله لأنه يتحدى النظام الأبوي القائم. ويمثل الجسد الأنثوي المتمرد على المجال الخاص والجنسانية وتدنيس المكان أدوات لقمع الاحتجاج عمومًا. وتمثّل الانتهاكات الجنسية وكشوف العذرية والتحرش الجنسي، من منظور أعضاء الحركة، أدوات سياسية يتوسل بها النظام الأبوي الذكوري لقمع الاحتجاج من خلال قمع الجسد الأنثوي وانتهاكه وترهيبه.