“لن يشع فينا الحلم مرتين.
كم تشبثنا به قبل تلاويح النهار.
كم ترجيناه أن يجري بنا عبر القفار
لمكان لا تراه الشمس لا تعرفه عين الدهور”
سلمى الخضراء الجيوسي
بعد حضورها الكامل في الثقافة العربية، والمحاولة المستمرة على مدار سنوات عمرها في الترجمة والكتابة والعمل الأكاديمي والأدبي، رحلت الأكاديمية الفلسطينية سلمى الخضراء الجيوسي عن عمر يناهز الخامسة والتسعين في العاصمة الأردنية عمان، بعد تجربة طويلة أضافت فيها حضوراً طاغياً في المشهد الثقافي العربي والغربي.
ومنذ أول تجربة أدبية خاضتها سلمى خضراء الجيوسي، في مدينة عكا، عندما كتبت أول قصيدة بعمر العشر سنوات، بعد اغتيال الملك غازي عام 1939، حتى عملها الأخير في عمر التسعين على مشروع “السرديات العربية القديمة”، لا يمكننا أن نصف تجربتها فقط بالمنجز البحثي والثقافي الذي عملت عليه، بل أيضاً بقدرتها على الانتباه، وصناعة المعنى العميق لثقافة حرصت على نقلها ونقدها، وخلق مساحة للتجديد في رؤية المنجز الشعري، والأهم أثرها الكبير في رؤية الأدب ضمن سياق عالمي، مفتوح على حوار الثقافات وشمل الماضي في مراحل مختلفة، وتأمل الراهن في بعض التجارب.
ولدت سلمى خضراء الجيوسي في مدينة السلط في الأردن، من أب فلسطيني “صبحي الخضراء” بذل جهوداً نضالية كأحد السياسيين الفلسطينيين، خاصة في تأسيسه لحزب “الاستقلال”، وأم لبنانية، “أنيسة يوسف سليم” التي خاض أولادها نضالاً ثورياً ضد الاستعمار الفرنسي، وتفاوت تاريخ ميلادها ضمن ثلاث تواريخ 1926 1927 1928، ولكن التجربة الأوضح في نشأتها تنعكس بشكل أساسي على مستقبلها، خاصة في طفولتها التي عاشتها بين مدينة عكا والقدس في منتصف الثلاثينات، مرحلة النضال ضد الانتداب البريطاني، التي اكتشفت معه كلمات كبيرة في سن صغير، مثل الإضراب والاعتقال والتظاهر، هذا الاشتباك اليومي ضمن المدن الفلسطينية، خاصة بعد اعتقال والدها بسبب نشاطه السياسية، وخوضها تجربة التظاهر في مدينة عكا.
هذا الوعي ضمن سياق الانتداب والاشتباك المستمر مع واقع معقد، شكل بطريقة ما رؤية أوسع لإدراك الحاضر والعمل من أجل المستقبل، واكتشفت أن جيلها كان يعرف عن تاريخ الغرب وحضارته أكثر مما كان يعرفه عن تراثه وتاريخه، وكان هذا يؤلمها.
في مقابلة سابقة لها في الجزيرة نت بعد تسلمها وسام الثقافة والعلوم والفنون في عام 2019، قالت عن رؤيتها الأوضح لمشروعها: “إننا في صراع مع عدو لئيم يستعمل المعرفة والثقافة وسيلة للسيطرة والهيمنة، وقد مر من خلال الجهل، وبالتالي فإن الرد هو العلم والإبداع في الثقافة والأدب والفنون”.
اتضح مشروع الأكاديمية سلمى الخضراء الجيوسي في الستينات، عندما نشرت مجموعتها الشعرية الأولى عام 1960، التي كانت بعنوان “العودة من النبع الحالم” عن دار الآداب، والتي قال عنها الكاتب غسان كنفاني في مقال “النبع الحالم..وحزن الهزيمة!“: ” ليس طفرة حماس سطحية، ولكنه فهم إنساني، عميق وحزين وشجاع، لذلك فإن إعطاء المقاييس العادية للديوان خطأ محض.. وعملية دراسية يجب أن تتم كما تمت عملية تكوينه: انفتاح غير محدود على الإنسان في قوته وضعفه، في إيمانه وجحوده، وفي كل لحظة يتعرض لها إحساس هذا الإنسان الذي لا يستطيع أن يكون فوق المنبر كل لحظات حياته، ولا بد له من أن يعيش مع الناس.. ويفهم كيف يعيشون..”.
انتقلت سلمى الخضراء الجيوسي إلى بيروت للدراسة في الجامعة الأميركية لدراسة الأدب العربي والإنكليزي، المرحلة التي بدأ المشروع الأدبي والثقافي بشكل أوسع من كتابة مقالات وترجمة الكتب من وإلى العربية، مثل “إنجازات الشعر الأميركي في نصف قرن” للكاتب لويز بوجان و”إنسانية الإنسان” للكاتب رالف بارتون باري، و”الشعر والتجربة”، الجزآن الأول والثاني من رباعيّة الإسكندرية للكاتب لورنس داريل “جوستين” و”بالتازار”.
كما خاضت نقاشات حقيقية حول الشعر والحداثة والتجريب والتي قالت عن رأيها في تلك المرحلة ” “كنتُ في قلب الحركة الحداثية، لكنّني كنت أحترم التراث، ولا أجد أنّ الانتقال إلى الحداثة يتطلّب نسخ التراث ونسيانه. كنتُ، بشكل حسّاس وغريزي، أفهم استمرارية الأدب وكيف أنه يُجبَل بدم الإنسان وذاكرته، ولم يكن من الممكن الانفصال عن ذلك التراث الغنّي الذي اقتربتُ منه في مكتبة والدي (تلك المكتبة التي نُقلت إلى دمشق قُبَيل النكبة)، لكنّني وقعتُ في حبّه حين كبرت ودرسته”.
قبل أن تنتقل إلى لندن لدراسة الدكتوراه، والتي حصلت على شهادتها بأطروحة حول “الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث” Trends and Movements in Modern Arabic Poetry” التي صدرت بالإنكليزية عن دار بريل، والتي صدرت ترجمتها العربية في عام 2007 عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت.
كما خاضت سلمى الخضراء الجيوسي تجربة التدريس في عدد من الجامعات العربية والأجنبية، الخرطوم إلى الجزائر العاصمة وقسنطينة، ثم الولايات المتحدة، وعملت على العديد من الترجمات، من كتب وأنطولوجيات مهمة باللغة الإنكليزية، من بينها “المسرح العربي الحديث” (بالاشتراك مع روجر ألن)، “الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس”، “الشعر العربي الحديث”، “أدب الجزيرة العربية”، “القدس مدينتي: دراسات، قصائد، ذكريات”، “القصة العربية الحديثة” ، “موسوعة الحضارة العربية الإسلامية في صقلية”.
بعد أن أسست مشروعها “بروتا” للترجمة الذي استقدمت إليه مجموعة متميزة من المترجمين والأكاديميين والمؤلفين، والذي عمل على موسوعات وكتب في الحضارة العربية الإسلامية، وروايات ومسرحيات وسير شعبية وأنطولوجيات شعرية وغيرها من العربية إلى الإنكليزية، من بينها “موسوعة الأدب الفلسطيني المعاصر” بالإنكليزية.
“حاولت إدخال أفضل ما عند العرب من إبداع ضمن الموسوعة، وأظن أن كل إضافة تأخذ مكانها، وتنعكس على مكانتنا الثقافية”
سلمى الخضراء الجيوسي
يقول الكاتب والباحث الأردني فخري صالح لمجلة رمان الثقافية “تمثل الشاعرة والناقدة والباحثة الفلسطينية الراحلة سلمى الخضراء الجيوسي حالة متفردة بين النساء الفلسطينيات، بل في المجتمع الفلسطيني كله. فقد كانت واحدة من النساء الفلسطينيات اللواتي تعلمن قبل النكبة، ولم تمنعها حالة الشتات التي بعثرت الشعب الفلسطيني في جهات الأرض الأربع أن تكمل تعليمها في الجامعة الأمريكية في بيروت، وأن تسافر إلى لندن للحصول على شهادة الدكتوراه. هي مثال للمرأة الفلسطينية التي آمنت بالعلم والمعرفة لإبقاء الذاكرة الفلسطينية متقدة. كما أنها كانت صوتًا فاعلًا في الحداثة الشعرية والنقدية العربية، بقربها من جماعة شعر، وافتراقها عن هذه الجماعة في الوقت نفسه، من حيث إيمانها الراسخ بكون الأدب والكتابة جزءًا من النشاط الاجتماعي السياسي للأفراد والمجتمعات. لقد اهتمت بالشكل الشعري، وبتطور الأشكال في الأدب، لكنها لم تنس البحث عن الحاجات الاجتماعية والسياسية التي أدت إلى تطور هذه الأشكال. وفي مقلب آخر، عملت سلمى على إيصال الأدب والثقافة العربيين، وعلى رأسهما الأدب الفلسطيني، إلى قارئ اللغة الإنجليزية، فحررت عددًا من الموسوعات التي لا غنى عنها لأي دارس للأدب العربي في الغرب، ورعت ترجمة عدد كبير من الأعمال الأدبية العربية إلى اللغة الإنجليزية، وكتبت مقدمات لكثير من هذه الأعمال. لقد كانت مؤسسة في إهاب فرد، وقدمت خدمات للأدب والثقافة العربيين لم تقدمها مؤسسات عربية، تملك من المال والإمكانات أكثر مما كانت تملك الراحلة، دون أي شك. لقد عملت على مشروعها الكبير لترجمة الأدب العربي إلى الإنجليزية حتى اللحظات الأخيرة من حياتها”.
أما الناقد الفلسطيني عادل الأسطة فيعلّق لرمان الثقافية بأن سلمى الخضراء الجيوسي “أرادت أن تكون جسراً ثقافياً بين الشرق والغرب، وأرادت خدمة الأدب العربي، وساعدها على ذلك التبرعات التي استطاعت الحصول عليها، وللحقيقة كان ذلك على حساب مشروعها الشعري، الذي تنازلت عنه لصالح الدراسات والترجمة، ولا أظن أنها تقل قامة علمية عن المستشرقة الألمانية التي خدمت الثقافة الإسلامية العربية (آنماري شيمل)، وأنها كانت تحرص على الاستشارات المتكررة في عملها، “وكانت الاستشارات دأبها في مشاريعها كلها، وكانت بناء على ذلك تقيم صلات مع الدارسين وتلتقي بهم بتواضع جم”.