مقدمة
“إننا محكومون بالأمل وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ” هكذا أنهى الكاتب المسرحي الراحل سعد الله ونوس رسالته في يوم المسرح العالمي لعام 1996 بعد صراع مع المرض دام لأربعة أعوام، إلا أن عبارته المقاومة بقيت تدوي من بعده لتعرف العالم بأن المسرح ما كان يومًا فنًا يسهل طويه وتلاشيه وإنما سيبقى حاضرًا كأملٍ لن ينقطع، حتى لو انحسر ما قدِّر له أن ينحسر، فتولدت عبارته من اتخاذه الكتابة وسيلة لمقاومة مرضه الذي ما فتئ أن يبدد الحياة في جسده، فكان المسرح من حظي بالنصيب الأكبر من إبداعه الأدبي في زمن بدأ فيه المسرح بالإنحسار حتى بات مهددًا بالاختفاء، وفي الوقت الذي كان فيه السرطان يدفعه للخيبة استقى الأمل من عطش الأمة العربية للحوار فعكف لأن يجعل من المسرح يوتوبيا الحوار المنشود باستشعار لذة الشعور بين الجماعة وإفصاح الذات عن جوعها لمن يشاطرها ذات الجوع.
لم يكن السرطان ما أودى بحياة ونوس حد التدهور والوفاة بقدر ما فعل شعور الخيبة الذي بلغ ذروته وتعاظم مع هزيمة حزيران عام 1967 وما تلاها، ما أسس داخله لمرضٍ لا علاج له سببه ضياع فلسطين على إثر العدوان الإسرائيلي والتخاذل العربي عن الثورة لأجلها، حتى كانت الهزيمة ضياع يستحق أن يتم الوقوف عنده بين خيبة وأمل في أن لا يكون ما كان، وهو ما دفعه لأن يغرس الأمل في مسرحه بأن يجعل له قضية ينادي بها حتى استحضر فلسطين والقضية الفلسطينية على خشبة المسرح، ليعلن المسرح ولائه للوطن الذي خُذل من قبل الواقع العربي، فكيف نقرأ راهنية مسرح ونوس في ضوء ما يحدث في فلسطين على إثر استمرار العدوان الإسرائيلي من خلال مسرحية “الاغتصاب”؟
لحظة هزيمة حزيران
رحل ونوس في 15 مايو عام 1997 مخلفًا ورائه إرثًا مسرحيًا نتتبّع فيه حتى اليوم آثار الخذلان والخيبة ونستقرء فيه ملامح المضطهدين والمقموعين، كانت هزيمة عام 1967 الحدث الذي شطر مسرح ونوس لثلاث مراحل؛ مرحلة ما قبل النكسة ومرحلة النكسة وما بعدها ومرحلة المرض، فكانت الحدث الذي وضع بصمة أسى لا تنسى في حياة ونوس كما في حياة الفلسطينيين الذي عدَّ نفسه واحدًا منهم وهو يوثق ما آلت إليه الهزيمة بحيث انعكست آثارها النفسية بوضوح على أعماله، ما دفعه لأن يكتب مسرحية “حفلة سمر من أجل 5 حزيران” التي انتقد فيها التخاذل العربي على إثر ضياع فلسطين، فاتسمت المسرحية بالنقد مما منعها من العرض في بادئ الأمر حتى عرضت لاحقًا إلا أن عرضها زاد من وتيرة الخيبة داخله، يقول ونوس : “حين عرضت المسرحية بعد منع طويل، كنت قد تهيأت للخيبة، لكن مع هذا كنت أشعر بمذاق المرارة يتجدد كل مساء في داخلي ثم ينتهي تصفيق الختام، ثم يخرج الناس كما يخرجون من أي عرض مسرحي، يتهامسون أو يضحكون أو ينثرون كلمات الإعجاب، ثم ماذا؟ لا شيء آخر أبداً، لا شيء، لا الصالة انفجرت في مظاهرة، ولا هؤلاء الذين يرتقون درجات المسرح ينوون أن يفعلوا شيئاً، إذ يلتقطهم هواء الليل البارد عندما يلفظهم الباب إلى الشارع حيث تعشش الهزيمة، وتتوالد”، فكان للتخاذل عن الانتفاضة من أجل فلسطين صدى انعكس على إنتاجه المسرحي كما انعكس بالشعور بالمرارة والمرض في حياته، فيما استدعت لحظة الهزيمة التأسيس لتسييس المسرح حتى عكف ونوس على التطرق للواقع السياسي والاجتماعي في مسرحه بحيث جعل من الإنسان محور التجربة الإبداعية حتى قدم من خلاله معالجة جديدة تدعو لأن يكون المسرح ساحة حوار وبث الوعي ومرآة للواقع المرير.
الواقع الفلسطيني في المسرح السياسي، قراءة في مسرحية “الاغتصاب”
إن المسرح السياسي الذي قدمه ونوس قام على إدراكه لجوع الشعوب إلى الحوار وخلق وعي بالواقع السياسي والاجتماعي ، وهو ما كان السبب وراء التجديد الذي قدمه للمسرح العربي، يقول ونوس في رسالته ليوم المسرح العالمي: لو جرت العادة على أن يكون للاحتفال بيوم المسرح العالمي، عنواناً وثيق الصلة بالحاجات، التي يلبيها المسرح، ولو على مستوى الرمزي، لاخترت لاحتفالنا اليوم هذا العنوان “الجوع إلى الحوار”، وهو ما جعل الحوارية إحدى خصائص المسرح الذي دعا إليه في مخاطبة الجمهور كمحور فاعل في المسرح ، وهي ما دفعت باستمرار إرثه قراءة وتحليلًا حتى اليوم، حتى كان إنتاجه المسرحي بمثابة سجالات حوارية استعرضت القضايا السياسية والاجتماعية وعكست الواقع المعيش، لنتتبع هذا الأثر في مسرحية “الاغتصاب” التي تكمن أهمية التطرق إليها في الوقت الراهن بالتدليل على استمرارية لم تنقطع للأحداث التي استعرضتها منذ العدوان الاسرائيلي على فلسطين حتى اليوم، فلم يتوقف ونوس عن التفكير بالواقع الفلسطيني تباعا للنكسة، حتى كان للأحداث التي عصفت بفلسطين فيما بعد بصمة في أعماله، فانتفاضة الحجارة عام 1987 دفعت بتحريك مخيلة ونوس الإبداعية ووضع ما اصطُلح عليه بالصراع العربي الإسرائيلي على خشبة المسرح في مسرحيته التي قدمها عام 1990 تحت عنوان “الاغتصاب”، وهي مسرحية شكلت راهنية في التطرق للقضية الفلسطينية وواقع العدوان الإسرائيلي.
وبالرغم من تعرض مسرحيته للنقد الشديد إلا أنها شكلت حلقة إبداعية في تاريخه المسرحي وتاريخ المسرح العربي كذلك؛ وذلك لما أبدع في عرضه للشخصية الصهيونية التي فكك على لسانها الصهيونية بشكلها الإرهابي والتي تستهدف الفلسطينيين وتنكل بهم بالمعتقلات الإسرائيلية، كما وتطرقت المسرحية بدءً من عنوانها بشكل واضح لقضية التنكيل بالنساء واغتصابهنَ بأسوء الطرق البشعة في المعتقلات ما رسم صورة حيَّة لأساليب التعذيب المتبعة بالسجون الإسرائيلية والتي تستهدف الفلسطينيين شبابًا ونساءً حتى الموت، وهو ما أضفى على المسرحية واقعية أفصحت عن وحشية السجون الإسرائيلية وبالتالي التذكير بمرارة واقع الفلسطينيين المعيش تحت سطوة الاحتلال.
إن أهمية معاودة قراءة هذه المسرحية في الوقت الراهن يكمن في تتبع المعالجة التي قدمها المسرح السياسي وتحديدًا فيما يتعلق بالواقع الفلسطيني، والتي دفعت بدورها المشاهد والقارئ لأن يدركا الواقع وبالتالي استنكار ما يحدث واكتشاف مدى سعي الوجود الإسرائيلي لتجهيل الإنسان العربي بواقعه وهو ما دفع بالمشاهد والقارئ لأن يدركا حضورهما الوجودي، ليأخذ المسرح بعدًا تعليمًا في نشر الوعي بالذات، يقول ونوس :” إن إلهام المسرح الحقيقي لم يكن في يوم من الأيام الحكاية بحد ذاتها، وإنما المعالجة الجديدة التي التي تتيح للمتفرج تأمل شرطه التاريخي والوجودي”.
عتبة النص، مفكرون رحلوا وتوارثت مقاومتهم
تعد العتبة المحيطة بالنص مع العنوان بمثابة جزء لا ينفصل عن النص السردي وبالتالي فهي تدفع بالقارئ لسبر أغوار الكاتب والنص معًا واستدراك ما يجمعه بهما، وقد جاءت العتبة الفرعية ما بعد العنوان على هيئة إهداء يستحضر فيه ونوس ثلاث من المفكرين الذين حمل إنتاجهم الفكري مقاومة لا تنسى”إلى ناجي العلي، ومهدي عامل، وفواز الساجر الذين اغتالهم الظلام والزمن الصعب”، فناجي العلي الذي أبدع في إدخال شخصية حنظلة للتاريخ في الفن الكاريكاتيري كشخصية مقاومة للعدوان الإسرائيلي تتسللت لوعي ونوس ببعدين تمثل الأول في كتابة هذه المسرحية بشكلها المقاوم للعدوان الإسرائيلي حتى اتخذ موقفا مقاومًا بما لا يقل مقاومةً عن الفن الكاريكاتيري الذي قدمه العلي، أما البعد الآخر فهو ما يرى في أعمال ونوس الأخرى كمسرحية “رحلة حنظلة من الغفلة إلى اليقظة” ليتأثر بشخصية حنظلة بشكل مباشر والتي ينجح في توظيفها في مسائلة الوعي العربي عن واقعه وموقعه من هذا الواقع، لتمثل شخصية حنظلة فيما قدمه العلي في الكاريكاتير وما قدمه ونوس في المسرح صورة مقاومة فاعلة في الفن، أما مهدي عامل الذي اشتهر بمقولة “لست مهزومًا ما دمت تقاوم” فقد شكلت كتاباته تهديدًا لما تتسم به من نزعة مقاومة فكان يوقع مقالاته تحت اسم مستعار بدايةً على إثر العدوان الاسرائيلي على بيروت عام 1982 حتى اغتيل لاحقاً بسبب كتاباته الفكرية، ويعد فواز الساجر من مشكلي النهضة في المسرح العربي بصورة سار فيها على خطى المفكر الألماني بروتولت بريخت في السعي لإلغاء الهيمنة المفروضة على المسرح من قبل المجتمع البرجوازي ليصبح مسرحاً ينادي بواقع الكادحين وهو ما اتفق فيه مع ونوس ليشكلان ثنائي متميز في عالم المسرح القائم على التجريب ويتعرض صراحةً للواقع السياسي والاجتماعي، وفي استحضار ونوس لأسماء الثلاث مفكرين عتبة تدفع بالقارئ لتوقع رسالة النص وهي رسالة مقاومة مفادها أن صاحب الكلمة المقاومة لا يموت، بل تتوالد كلماته لينعكس صداها في نصوص ومواقف الحاضرين وهو ما ينعكس في نص مسرحية “الاغتصاب” من مقاومة تتظافر مع استحضار مقاومتهم ليكون للمسرح الذي قدمه ونوس دور مقاوم وتحديدًا في الوقوف ضد الاستعمار الاسرائيلي.
روايتان والحقيقة واحدة
إن الحوار كعنصر لا ينفصل عن النص والأداء المسرحيين تمثل في مسرحية “الاغتصاب” بطرحها لروايتين إحداها فلسطينية والأخرى إسرائيلية، وبهذا فقد قدمت مواجهة على خشبة المسرح بين الروايتين بالتقابل بحيث تميز التجديد الذي قدمه ونوس في طرحه لقضية الصراع العربي الإسرائيلي في مسرحية “الاغتصاب” بطرحه للشخصية الإسرائيلية التي تناقض فكرها وذاتها، وبالرغم من تعرضه للنقد على إثر هذا التقابل، إلا أنه سطَّر انجازًا لما وفق فيه من تفكيك فكر الصهيونية القائم على القتل والاغتصاب والتهجير على لسان الشخصيات التي تجسد الرواية الاسرائيلية والتي كشفت أبعادًا للإرهاب الصهيوني الممارس على الفلسطينيين، وهو ما خطَّ تجديدًا أيضا لا مثيل له في تطرقه لوجود من هم معارضين للصهيونية من الإسرائيليين ذاتهم وتمثيل ذلك في مسرحه، فوالد إسحق يُقتل من قبل عشيق زوجته المخلص للصهيونية لأنه يرى في السلام عدم خدمة الفكر الصهيوني الذي ينتهك الفلسطيني ليدرك أن الاسرائيليين لا ينبغي لهم أن يستوطنوا فلسطين، أما الدكتور الإسرائيلي”منوحين” فيفصح “لا تظن أنني أخاف من إعلان رأيي. إن ولائي ليس للقانون بل للعدالة. وليس فيما تفعلوه أي عدل. وليس في احتلال الأراضي أي عدل. وليس في التزمت الصهيوني الذي تأسست عليه دولة إسرائيل أي عدل…”، وتأتي واقعية التصريح الذي تصرح به الشخصيات في الكشف عن وجه من أوجه المعارضة للصهيونية سببه بنيتها ومبادئها الإرهابية، وهو ما يتقابل مع عرض المسرحية لواقعية ضياع فلسطين بسبب خيانات العرب الذين يتعاملون مع الصهاينة وهو ما تمثل بشخصية والد دلال الذي يتبرأ من ابنته بسبب اختيارها الارتباط بإسماعيل أحد رجال المقاومة الذي يتم قتله لاحقا تحت التعذيب بعد أن تغتصب زوجته أمام عينيه من قبل الصهاينة الإسرائليين.
تعود المسرحية إلى تقنيات المسرح الملحمي الذي أسس له بريخت في المقطع الأخير المعنون ب”سفر الخاتمة” متبوع بعتبة “لافتة: حوار محتمل بين الدكتور منوحين وسعد الله ونوس”، بحيث يجعل ونوس من نفسه شخصية فاعلة في المسرحية وهو بذلك يعمد للولوج لتقنيات المسرح الملحمي الذي قدمه بريخت فيما يتعلق بهدم الجدار الرابع الذي يقتضي تقسيم المسرح لوحدات لا تتجاوز حدودها بين ممثلين وجمهور، في حين أن دخول ونوس لخشبة المسرح في حوار مع إحدى شخصيات المسرحية يسقط التسميات الثابتة بأن الكاتب هو فقط كاتب والممثل هو فقط ممثل والجمهور هو فقط جمهور، ليجعل من المسرح السياسي منطلق الحوار والتحرر من قيود المسرح التقليدية ومنطلق الإفصاح عن موقف الذات أيًا كان موقعها، ما ينعكس في مسرحية “الاغتصاب” بمحاورة الوعي العربي ومسائلة الذات العربية عن موقفها ، فيكتب ونوس نهاية الدكتور منوحين على خشبة المسرح أمام الجمهور ويؤكد على عداوة الصهيونية، يقول الدكتور منوحين:”والآن كيف تتخيل خاتمتي في هذه المسرحية؟”، يرد ونوس “إنهم يأتون بلطف، يبتسمون، يحشرونك في القميص ثم يمضون بك إلى إحدى المصحات”، يعاود الدكتور السؤال “وأنت.. ماذا ينتظرك؟” ليجيب ونوس “عداوة الصهاينة الإسرائيليين والصهاينة العرب”.
تلقي مسرحية “الاغتصاب” بالضوء على واقع الصهيونية الإرهابي التي تنتهي بمعاداة الصهيونية من قبل أشخاص ينتمون إليها لا يلبث أن يتحول وعيهم بها بالسخط عليها ومعارضتها، فشخصية اسحق الذي يشارك في حفلات الاغتصاب التي ينتهك فيها الاسرائيليين الفلسطينيات ويتم فيها إخصاء الفلسطينيين تدفعه لأن يصل لحقيقته المعادية للصهيونية بعد أن يصاب بعجز جنسي على إثر الممارسات الإرهابية بالنساء كما وتغتصب زوجته الاسرائيلية بالمقابل من قبل زميله المشارك معه في تلك الانتهاكات لتدرك هي بذلك طبيعة عمل زوجها ما يدفعها لأن تعادي أيضا الفكر الصهيوني، ما يرسم صورة معادية للصهيونية قائمة على إدراك جوهرها الإرهابي حتى يدرك كل من راحيل وإسحق ضرورة مغادرة فلسطين. أما المصير الفلسطيني فيتمثل بتوسع دائرة المقاومة حيث يُقتل اسماعيل المقاوم والذي يرفض أن يشي للصهاينة بأي معلومات عن المقاومة فيما يولد الاغتصاب الذي وقع على زوجته دلال التحاقها بصفوف المقاومة لتسير على خطى زوجها، وهو ما يفضي بحقيقة تولُّد المقاومة نتيجة العدوان الاسرائيلي الإرهابي القائم على القتل والتهجير واغتصاب الجسد والأرض، وأن هذه المقاومة هي نتيجة حتمية للتخلف عن توحيد الصفوف العربية من أجل الثورة لأجل فلسطين، لتنتهي المقابلة بين الروايتين بوجود حقيقة واحدة وهي فلسطين ووجه إرهابي وهو الصهيونية بصورة إسرائيل.
مستويات اللغة، خطاب مقاومة
إن الخطاب المسرحي في رواية “الاغتصاب” شكَّل خطابًا مقاومًا ومناهضاً للصهيونية ولعل ما عكس مقاومة الخطاب تمثل بتبني تقنيات المسرح الملحمي في المراهنة على الوعي السياسي بحيث يكون الجمهور على دراية بما يجري خارج حلبة المسرح وتغريبه بحيث يكون كل ما هو عاديًا ومألوفًا قابل لإعادة التفكيك والمسائلة، أما البعد الآخر فهو كامن ببنية النص اللغوية التي عمد ونوس لتعدد مستوياتها بين عامية وفصحى وهو ما يمثل أداة الشخصيات في إفصاحها عن أبعادها وأفكارها الأيدولوجية وأداة الكاتب في بلورة الفكرة الهدف من النص، على اعتبار أن اللغة أداة الفكر وتصوير الواقع بأبعاد الصراع الذي يختزله بحيث تحرر النص من وجود سلطة عليه وتكوين خطاب يفضح المسكوت عنه وما هو على المحك في الواقع، وتنعكس مستويات اللغة في مسرحية “الاغتصاب” باللغة العامية والتي عادةً ما تكون قريبة من المتفرج والقارئ بحيث تقترب من وعيه لغويًا وأيدولوجيًا، فيتراوح النص بين مستويين لغويين بحيث تكون العامية حاضرة جنبًا إلى جنب مع الفصحى، كما وتأخذ أبعاد الحوار صور تنحى نحو حضور الشعارات المقاومة، تقول المسرحية على لسان دلال “الأرض لا تتسع لنا ولهم. إما نحن وإما هم” أما العامية فتنعكس في ترديد عبارة تندد بإسرائيل ” زيت زعتر، زعتر زيت يلعن أبو الشين بيت” لتوضح لزوجة اسماعيل بأن “الشين بيت” هو الجهاز المسؤول عن الأمن الإسرائيلي في أراضي فلسطين المحتلة وهو من يتولى سجن وتعذيب وقتل الفلسطينيين.
وتعد البنية اللغوية هامة في تتبع بنى الزمن والمكان وهو ما يعتبر هاما في إثبات راهنية التطرق لهذه المسرحية اليوم في عرضها لواقع العدوان الإسرائيلي في فلسطين، فنجد أن المسرح ينفتح على تصوير تعدد البنى المكانية في المسرحية كالدار، الغرفة، العيادة، المكتب.. وهو ما يؤول إلى أن المسرح فضاء مغلق في شكله الخارجي ولكنه مفتوح على إمكانية تصوير الفضاءات المكانية المتعددة ما يجعله في أصله فضاءً منفتحًا، وتأتي قوة اللغة في المسرحية في وصف المكان الذي يتم فيه احتجاز الفلسطينيين وتعذيبهم واغتصابهم بتسميته بالمعتقل إلا أنه ما يلبث أن يُسمى بالمسلخ في موضع آخر في وصف الأحداث المروعة التي عادةً ما تحدث فيه من قتل وتعذيب واغتصاب، في حين أن الزمن انعكس بالتاريخ الذي لم يحدد بحقبة زمنية محددة وإنما التاريخ ببنيته المفتوحة على كل ما يحدث وما سيحدث ما طرح القضية الفلسطينية في سياق تحولاتها الراهنة بدءً من العدوان الإسرائيلي على فلسطين حتى اليوم، وهو ما نرى فيه استمرارية حتى اليوم للانتهاكات الإسرائيلية التي تعرضت لها المسرحية من توسع في الاستيطان الاسرائيلي وتتابع النكبات على الشعب الفلسطيني، تقول المسرحية على لسان رئيس المعتقل “لا حل لكم إلا بالاستيطان المكثف والترويع..علينا أن نضغط، ونضغط حتى نجبرهم على الرحيل..”.
تعد مسرحية “الاغتصاب” للراحل سعد الله ونوس من المسرحيات التي استشرفت أفق المستقبل على ما سيشهده الواقعين الفلسطيني والعربي، فقد حررت التاريخ من قالب الماضي لتضعه في أبعاد مستقبلية، يقول ونوس في سفر الخاتمة: “إن للصهيونية الآن امتدادها العضوي في النظام العربي الراهن” وهو ما يمكن تتبعه بأثر الصهيونية في الواقع العربي من خلال تتبع أثر تطبيع الواقع العربي مع إسرائيل وتجاهل ما يحدث في الواقع الفلسطيني، وهو ما يحيل لوجود استعمار ممارس على الواقع العربي كله وأن مطامع إسرائيل لا تتوقف عند فلسطين فقط، بل تتجازوها لتكثيف التفكيك والتقسيم بين الشعوب العربية. إن ما قدمه ونوس من إرث للمسرح العربي يستحق أن يذكر في صفوف الإرث الفكري المقاوم للقمع والاضطهاد والاستعمار، وهو ما سيبقى يثير فن المسرح على امتداد التاريخ في السياقات المعاصرة والتي تشهدها الشعوب المقاومة لسياسة التجهيل بالذات، ما دام الأمل الذي راهن عليه قبل وفاته كامن في جذورنا الفكرية الرافضة للذل والخنوع وفي وعينا الذي لم يعِ يومًا سوى وجود حقيقة واحدة وهي فلسطين.
المراجع: