صدرت عام 2023 عن نوفل، دمغة الناشر هاشيت أنطوان.
القسم الأول
– إنّها هنا معي، لم تبرَحْ هذا المنزل قطّ، وكشف الغطاءَ عن مومياء محنَّطة.
كأنَّ انفجارًا حدث للتوّ في صدري، فتبلَّدتُ في مكاني ولم أعُدْ قادرًا على تحريك شيءٍ من جسمي؛ سوى أنّ تفّاحة آدم بدأت تصعد وتنزل في حلقي مثل حجر وعيناي مفتوحتان بنظرةٍ ثابتة نحو الجثّة. تَمتمَ حينها بكلماتٍ لم أسمعها بوضوح، عن مشرحة وجثّة بديلة، وأنا بقيت على نفس الهيئة للحظات. ربَّت ركبتيَّ فجأة ليطمئنني؛ غير أنّه على العكس ممّا كان ينوي أفزعني بحركة يده.
دخَّنَّا بعدها بضع سجائر بصمت. كنت بين اللحظة والأخرى أعاود النظر إلى المومياء. لم آلف منظرها رغم أنّني لم أعد خائفًا كما كنت قبلَها بقليل، بيد أنّني بدأت أشمُّ رائحةً كريهة. لا أدري إن كانت رائحةً حقيقيّة أم مجرَّدَ وهمٍ من جرّاء رؤية إنسانةٍ مرّ على موتها قرابة ثلاثة عقود، وما تزال ممدَّدةً على سريرها.
بعد صمتٍ طويل دلّني على المطبخ، وطلب منّي أن أجلب له القليل من الماء. فتحتُ الباب ولم أجد جثّةً أخرى ممدَّدةً على الأرضيّة كما سوَّلت لي نفسي. كذلك الثلاجة التي فتحتها ولم أجد فيها رأسًا مقطوعًا تقطر الدماء منه.
ملأت كوب ماء وغادرت المطبخ مسرعًا، ثمّ ناولته إيّاه، فرشف منه ورماه على الطاولة، عندها قلت له:
– ألم يكن من الممكن دفنها وتجاوز الأمر؟
بعد صمتٍ أجاب:
– حدث كلّ شيء بسرعة، لم أفهم كيف سار الأمر بالضبط! ولكنّني حاولت تجاوز الأمر. نعم، حاولت! أيّ أحد في مكاني كان سيفعل، إنّه الخطأ الغريزيّ الذي نرتكبه جميعًا، نستبدل حزننا بشيء آخر، ننسى دائمًا أنّ ذلك الشيء نفسه قد يبدأ بالاتّساع إلى أن نفقدَ السيطرة عليه.
– اعذرني، لكن ليس لك الحـ…
– وفّر نصائحك! بنيّ، أردتك أن تكون هنا لا لشيء، ولكن كي تأخذ بيد روحي وهي تغادرني. لم أشأ أن يكون موتي تافهًا لدرجة أن أموت ويدي فارغة، ثمّ لا تنسَ أنّك تتحدَّث إلى رجلٍ بقيت لديه من الوقت ساعةٌ على الأكثر. مهما كان ما ستقوله فلن يُحدِثَ فرقًا بالنسبة إليَّ. وأردف قائلًا: أو لها.
كدت أقول شيئًا فقاطعني مجدَّدًا:
– آدم، بنيّ! أرجوك!
التفتَ إلى المومياء وعلى وجهِهِ ابتسامةُ اليائس وتابع الكلام:
– انظر إليها! تفحَّمت وهي تنتظرني بفارغ الصبر، دعني أجهّز نفسي للقائها.
صمتنا مجدَّدًا للحظات، عندها عاود الكلام:
– حاولت أن أنكر الأمر مرارًا. جرّبت أن أعيش من دونها، فأصبحت كمراهقٍ مضطهَدٍ أخذت حياتُه بالتدريج تفلتُ من يده، وأخذت منحًى أكثرَ فوضويّة. كوكايين، قمار، تعارك مع السكارى في الملاهي الليليّة على أسبابٍ تافهة، القيادة بسرعاتٍ هائلة حيث تفصلني لحظةٌ واحدة، أجزاءٌ من الثانية عن الهلاك، ثمّ أنجو. ذلك عقابٌ قاسيته كلَّ ليلةٍ لقرابة ثلاثين عامًا: أن أعيش يومًا آخر.
– من أين عرفت اسمي؟
هزّ رأسه وعلى وجهه نظرة المتفاجئ.
– ذكرتَ اسمي قبل قليل… من أين عرفته؟
بقيَ صامتًا للحظات ولم يجب عن سؤالي، فقلت كي أريحَه من اقتفاء ذاكرته:
– مع هذا فإنّك لم تستبدلها بتلك الأشياء، أعني القمار وتعاطي المخدّرات والتهوّر، بدليل أنّها ما زالت هنا، أنت لم تصدِّق فكرة موتها!
– هل أبدو لك مجنونًا؟ من قال لك إنّي لم أدرك أنّها ماتت؟
– إذن؟
– إذن ماذا؟ كلُّ ما في الأمر أنّني لم أحتمل فكرة أن تُدفَن بعيدًا عنّي!
– هل انتحرت؟
مدَّ يده نحوي فأمسكتُ بها ثمّ استعان بي لينهضَ عندها وقال: «خذني إلى الشرفة».
وقفنا هناك، حدّقت فيه طويلًا بانتظار أن يجيبَ عن أسئلتي، ولكنّه ظلَّ شاردًا يتأمّل المدينة. مرّ وقتٌ ولم يقلْ شيئًا. بدأت ألاحظ أنّ جسدَه يرتخي وقد بدأ العرق يتصبّب منه.
– هل نرجع إلى الداخل؟
نطق بنبرةٍ مخنوقة:
– ما أجمل تلك الأضواء! لم يعد يصلني منها سوى خيوطٍ من الشعاع، دع عينيَّ تشبعان من رؤية النور، لن أراه ثانية.
بقي لدقائق أخرى يتأمّل الأضواء المنبعثة من السيّارات وشبابيك المباني القريبة، ثمّ عاود الكلام بنبرةٍ مشفقة:
– أتسمع؟ إنّه ضجيج الحياة!
فكّرت في أن أعفيه من الشعور القاسي؛ فأمسكت بيده وعدت به إلى الداخل. ساعدته كي يستلقيَ على السرير، وعندما استقرَّ على وسادته مال برأسه ووضعه على كتف المومياء، ثمّ بدأ يبكي وهو يردّد عبارةً واحدة: «أنا قادمٌ إليكِ، أنا قادمٌ إليك». كرَّرها مرّات عدّة، ثمّ صمت وعيناه شاخصتان نحو السقف، ظننت لوهلةٍ أنّه مات، لكنّه بعد لحظات فاجأني بقوله:
– أتجيد العزف على البيانو؟
– لا.
– احكِ لي نكتةً إذن!
انكسر شعوري الغاضب من جرّاء تحنيطه للجثّة وأشفقت عليه.
– بربّك إدغار! إنّها لحظاتك الأخيرة!
– وما عساك تستطيع أن تُقدِّمَ لي شيئًا أكثرَ أهمّية من نكتة في لحظةٍ لعينة كهذه؟ احكِ لي واحدةً ولتكن مضحكة…
مسحت الدموع عن خدّيه بيدي في الوقت الذي سقطَتْ فيه بضع دموع على خدّيَّ أنا أيضًا، تجاهلتها متأثِّرًا، ثمّ استجمعتُ رباطة جأشي وقلت: «كان هناك شحّاذ يدَّعي العمى؛ أوقف رجلًا وقال له: «ساعدني أنا أعمى» فقال له الرجل: «وكيف أعرف أنّك أعمى؟» فأشار له الشحّاذ قائلًا: «أترى ذلك العمود هناك؟ أنا لا أراه». بقي إدغار صامتًا للحظات، ثمّ أخذ يبحث عن يدي إلى أن أعطيتها له، فشدَّ على أصابعي وقال بصوتٍ خافت مختنق: «لستَ مثلَها، لقد كانت بارعةً في قول النكات».
عاود النظر إلى السقف وصمتَ مجدَّدًا. لبث قليلًا ثمّ ارتخت يده فجأةً وسقطت من يدي. تأرجَحَت لوهلةٍ ثمّ استقرَّت على طرف السرير.