صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ضمن سلسلة “دراسات التحوّل الديمقراطي”، التي تصدر عن مشروع “التحول الديمقراطي ومراحل الانتقال في البلدان العربية”، الذي دشنه المركز في عام 2016، كتاب “الدساتير والانتقال الديمقراطي: قضايا وإشكالات في سياق الربيع العربي”، في إطار رسالته الداعمة للجهود البحثية في قضايا تطور المجتمعات العربية وتحولاتها نحو الوحدة والديمقراطية، فضلًا عن قضايا الحكم الرشيد، وإدارة شؤون المجتمع، والمواطنة، والمشاركة السياسية، والتطور الدستوري، والتنمية والعدالة الاجتماعية، والاقتصاد السياسي وغيرها.
يحتوي الكتاب على عشرين دراسة تتمحور حول مواضيع الديمقراطية والانتقال الديمقراطي وإشكالات الربيع العربي، شارك فيه عشرون أستاذًا وباحثًا من المغرب وسورية وقطر وفلسطين وتونس والجزائر والسودان ومصر، وهم متخصصون في مجالات العلوم السياسية والقانون والقانون العام والقانون الدستوري والعلاقات الدولية والنظم السياسية والفلسفة الإسلامية وعلم اجتماع التنظيمات والسياسات المعاصرة. حرر الكتاب عبد الفتاح ماضي وعبده موسى البرماوي، وهو يقع في 816 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.
فحوى الدستور وماهيته
يُعدّ الدستور أهم أركان الحكم، فهو يُحدد طبيعة النظام السياسي، إلا أن الممارسة السياسية شهدت تفاوتًا بيِّنًا في احترام الدساتير، من دول تحترمُ دساتيرها إلى حدّ التقديس، إلى أخرى لا يُـمثّل فيها الدستور قيمة الحبر الذي كُتب به، كما في أنظمة الحكم الفردية والديكتاتورية. وفي أعقاب موجات التحول الديمقراطي في العالم تصاعد في سبعينيات القرن العشرين الاهتمام بدستورية عمليات الانتقال الديمقراطي، وشهد عقدا الثمانينيات والتسعينيات بداية اهتمام دول أوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية وجنوب شرق آسيا بصنع دساتير جديدة أو إدخال تعديلات جوهرية في دساتير دول ديمقراطية أصلًا، مثل بلجيكا وكندا وهولندا والسويد وسويسرا وإنكلترا. وفي أعقاب ثورات البلاد العربية التي لم تشهد قط دساتير ديمقراطية منذ استقلالها، امتد هذا الاهتمام إلى المنطقة العربية.
تتمثل أركان الدستور الديمقراطي في مبادئ لا يكون الدستور ديمقراطيًّا إلا بها؛ وضمانات لبقائه ديمقراطيًّا وملتزمًا بقواعده وإنفاذِها؛ وقواعد كلية تضبط جُزْئياته. وهذه الأركان الثلاثة لا يمكن في غيابها اعتبار الدساتير ديمقراطية، كما يمكن استنادًا إليها التفرقة بين الدساتير الديمقراطية في السويد وإنكلترا وجنوب أفريقيا، وغير الديمقراطية في دول مثل الكونغو الديمقراطية والصين والفدرالية الروسية. ذهب عزمي بشارة إلى أن الدستور الديمقراطي يستحق وحده تسمية دستور؛ لأن ضمانات تنفيذه وإخضاع عملية التشريع له متضمَّنة فيه، عبر الإجماع على احترام الدستور وتبنّي قيم الديمقراطية، موضحًا أن في هذا يكمن الفرق بين تقبُّل قيم الديمقراطية ولو لم تكن دستورًا مكتوبًا، وبين ضمانات مفروضة من إرادة الحاكم أو الحزب أو السلالة.
ولا بد في هذا المضمار من التنبيه إلى تجنب النظر إلى هذه الأركان بمنطق “تكون أو لا تكون”؛ إذ الوصول إليها يتم في جُل الحالات عبر عملية ممتدة في الزمن تشهد نقاشات وحوارات ومجادلات تنتهي في حال نجاحها إلى وضع دستور.
مرحلة الانتقال الديمقراطي
ما الهدف الرئيس للدول في خضمّ انخراطها في مرحلة الانتقال الديمقراطي؟ تتكون الإجابة عن هذا السؤال في ضوء الخبرة الديمقراطية السابقة للدولة، وشكل عملية التغيير المرغوبة؛ فتشيلي وكوريا الجنوبية وإندونيسيا وبنين وكينيا والمكسيك، أدخلت تعديلات دستورية جوهرية إلى الدستور القائم، أما الأرجنتين فأعادت في عام 1983 العمل بدستورها القائم منذ عام 1853، وفي الهند وماليزيا نُقل دستور الاستقلال من مرحلة الاستعمار إلى الديمقراطية مباشرة، أما معظم دول أوروبا الشرقية وإسبانيا والبرتغال وغانا، فقد اختارت وضع دستور جديد.
إن من الصعوبة بمكان وضع دستور في بداية الانتقال إلى الديمقراطية، فهذا يتطلب تعديل أكثر من نص دستوري، والاتفاق على إطارات ما يُطلق عليه “الدستور الصغير” أو “الدستور الانتقالي” أو “الدستور المؤقت”، لصعوبة التوافق في أقسام الدستور كلها دفعة واحدة، وبخاصة في ظل أوضاع غير مستقرة، وكذلك الاتفاق على الميزانية، والموارد، والأطر الزمنية، ومواقيت جلسات المشورة والاستماع، وإدارة المطالب المجتمعية وغير ذلك، وهو ما طُبِّق في دول عدة، ليتم بعدها الوصول إلى التوافقات المختلفة على أركان الدستور الديمقراطي الجديد بعد إجراء أول انتخابات ديمقراطية تسمى في علم السياسة “الانتخابات التأسيسية” (Founding Elections)، فعلى سبيل المثال عُقدت في جنوب أفريقيا مفاوضات متعددة بين الأقلية البيضاء والأغلبية السوداء، ثم أُجريت الانتخابات التأسيسية الأولى في عام 1994، ليتم بعدها وضع الدستور في عام 1996.
تعد عملية وضع دستور ديمقراطي مسألة شائكة؛ لتعقُّد العمليات المتصلة بها، فهي في الأساس جزءٌ من عملية التغيير السياسي، وتعكس ميزان القوى القائم، كما تتأثر بحالتَي الاستقرار أو اللااستقرار، وفي بعض البلدان يكون للأطراف الخارجية دور مؤثر فيها. وبناءً عليه، إنها ليست مسألة قانونية، أو مجرد نقل من الآخرين، أو اختيارَ نظامٍ من بين أنظمة الحكم المعروفة، بل تبدأ من الواقع السياسي والاقتصادي للمجتمع، ومن أولويات المرحلة، وتنهل من الإرث الدستوري للدولة ومن تجارب الآخرين، وتنتهي بمنح السياسيين والنخب اختيارات محددة لترجمة المطالب المجتمعية إلى مؤسسات تشكل مجتمعةً ملامح النظام السياسي المنشود، في ما يسمى “الهندسة السياسية” (Political Engineering).
ويتطلّب وضع دستور جديد تأجيلَ حسم القضايا الخلافية وحدًّا أدنى من التوافق المجتمعي يسمح بالرأي والرأي الآخر، وبحل القضايا الخلافية لاحقًا بمشاركة أوسع تعزّز الوحدة الوطنية وتدعم شرعية الدستور الجديد، في جو من الحرية والانفتاح، والتفاوض المباشر داخل هيئات وضع الدساتير، والوساطة، واللجوء إلى قادة القوى، والأحزاب الرئيسة، والمحاكم، والاستفتاء، والتصويت، وموافقة المجالس النيابية أو الوحدات الفدرالية … وغيرها، فالشقاق المجتمعي يزرع عقبات كثيرة أمام عملية بناء نظم الحكم الجديدة، وليس من أمثلة أدلّ على ذلك مما حدث في تجارب البيض والسود في جنوب أفريقيا، الذين لم يعالجوا قضاياهم الخلافية قبل انتخابات عام 1994، وتأجيل البولنديين حسم قضية الهوية في الدستور عدة سنوات، وتعديل البرازيل والمكسيك وجنوب أفريقيا وغيرها دساتيرها عدة مرات.
ويكتسب عنصر الشفافية أهميةً أيضًا، مثل إتاحة المعلومات وإذاعة جلسات النقاش داخل هيئات وضع الدساتير، التي قد تتكون من الخبراء أو الفاعلين السياسيين أو الجانبين معًا أو قد تكون منتخبة من البرلمان، وأهمها تلك المنتخبة من الشعب، ولكل من هذه الهيئات عيوب، إلا أنها تكتسب الشرعية من تمثيلها الواسع.
وقد تؤدي العوامل الخارجية دورًا مؤثرًا في عملية وضع الدساتير التي كانت بعد انتهاء الحرب الباردة جزءًا من عملية السلام وحلًّا للنزاعات داخل الدول التي شهدت صراعات وحروبًا بتأثير خارجي من الأمم المتحدة والولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، كحالات ناميبيا وكمبوديا وكوسوفو والبوسنة والهرسك، وحتى تركيا، العضو في حلف شمال الأطلسي، أجرت تعديلات دستورية واسعة وجوهرية طمعًا في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
والجدير بالذكر أن الأطراف الدولية كانت تحرص على أن تظهر هذه العملية وكأنها محلية أنتجت دستورًا وطنيًا خالصًا أيًّا يكن الدعم الذي قدمه خبراء أجانب أو هيئات أممية أو مراكز بحثية غربية.
وظائف الدستور الديمقراطي ومضامينه
من وظائف الدستور الديمقراطي تحديد طبيعة المؤسستين التشريعية والتنفيذية وخصائصهما وهياكلهما وطرائق انتخاب أعضائهما وطرائق صنع القرارات فيهما، وتحديد الفصل بين السلطات، وطرائق المشاركة السياسية، ومعنى المواطنة، وتبيين الحقوق والحريات، وشكل النظام السياسي الديمقراطي (البرلماني أو الرئاسي أو المختلط)، وشكل البرلمان (من غرفة واحدة أو غرفتين)، والضمانات للفصل بين السلطات واستقلال مؤسسة القضاء والأجهزة الرقابية، وتحديد شكل الدولة (مركزية أو فدرالية)، ونظام الإدارة فيها، وتحديد عمل المؤسسات السياسية وضمان عدم تجاوز أجهزتها مهماتها، وتحديد آليات المساءلة المختلفة، وحق المواطنين في محاسبة المسؤولين. وكذلك تحديد معالم العقد الاجتماعي بين المواطنين والدولة، وحقوق المواطنة وضمانات احترامها للأغلبية والأقليات على السواء، وتطبيق ما نصت عليه المنظومة الحقوقية الدولية في ما يخص حريات الأفراد والجماعات، كما في دساتير فرنسا وألمانيا والأرجنتين وغيرها. ومن وظائفه أنه يعزِّز بأطره القانونية والقضائية والرقابية والمجتمعية السلم الأهلي والمجتمعي، ولا سيما في الدول التي خرجت من صراعات مسلحة، أو انتقلت من حكم تسلّطي شمولي إلى الديمقراطية، وأن يدير بهذه الأطر عدم الثقة المتبادلة بين الفاعلين السياسيين ويدفعهم إلى التقيد بالطرائق السلمية في التعامل مع الآخر لأجل توليد الثقة بين مكونات المجتمع، وهي ثقة لا تُكَرَّس وتصبح تامة إلا بعد سنوات من ترسيخ الممارسات وتكرارها، وكذلك إيجاد هوية جامعة تعمل على منع حدوث أزمات نتيجة اختلاف الدين والعرق واللغة والمذهب والمكانة الاجتماعية والاقتصادية من دون القضاء على الهُويات الفرعية، باحترام الخصوصيات الثقافية للمكونات المجتمعية وترسيخ قيم التعايش والتعددية في إطار المواطنة الكاملة ودولة المؤسسات وضمان العدالة الاجتماعية وعدالة توزيع الأجور والدخول.
ومن وظائفه تحديد الأسس الفكرية والقيمية التي يستمد منها شرعيته، والتي تنبثق من ثقافة المجتمع ومعتقداته الدينية ومُثله العليا، وتحديد الأولويات المجتمعية، مثل تمكين المهمشين، وتحقيق المساواة، وتحديد اللغة الرسمية، والتراث التاريخي لمكونات الدولة، من دين وتاريخ ورموز وطنية.
والاتفاق على هذه الأمور يسبق في الدول الديمقراطية الليبرالية عادةً وضع الدستور، ويكون بتوافقات مجتمعية وفقًا لـ “المذهب الفردي”، كنص الدستور الفرنسي على تمسكه بإعلان حقوق الإنسان والمواطن، وبمبادئ الأيديولوجيا الليبرالية. والأمر مشابه في الدساتير التي استفادت من التجربة الغربية، كالدستور الهنغاري ونصوصه عن “الأمة الهنغارية” و”مبادئ الحرية والكرامة” و”الاعتزاز بتاريخ هنغاريا” و”دور الديانة المسيحية في حماية الأمة”، وكذلك الدستور الكندي الذي ينصّ على أن البلاد أُسّست على سيادة الله وحكم القانون، ومواد الدستور الألماني التي تشير إلى مبادئ الليبرالية والحريات المختلفة.
طرائق حماية الدستور الديمقراطي
من أهم طرائق حماية الدستور الديمقراطي: تسهيل إجراءات تعديل الدستور، وتثبيت حق المواطن في المراجعة القضائية والرقابة على دستورية القوانين (المحكمة الفدرالية العليا في الولايات المتحدة مثال بارز في هذا الإطار، ومحكمة العدل الأوروبية على المستوى الأوروبي)، وإقرار مواد تصعّب خروج السياسيين عن جوهر الدستور، وتضمن الرقابة المدنية الديمقراطية على القوات العسكرية والأمنية. وكذلك إقرار إجراءات محددة وواضحة لإمكان تعديل الدستور من القوى الرئيسة في المجتمع أيضًا وليس من السلطة التنفيذية فحسب. وتجريب الدستور فترة زمنية، لاستقصاء عدم خروج اللاعبين السياسيين على مواده وجوهره وضمان التزامهم بتداول السلطة وعدم الانقلاب على الديمقراطية، بالنص على حظر تعديل مواد معينة من الدستور هدفها حماية الدستور ذاته، كمادتي الدستور البرتغالي 288 (تمنع تعديل 14 مادة) و289 (تمنع تعديل أي مادة في حالة الطوارئ)، ومادتَـي الدستور الألماني 79 (تمنع تعديل المادة الأولى التي تتحدث عن احترام الكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان) و20 (تنص على طبيعة الدولة الفدرالية والديمقراطية وعلى ممارسة الأفراد السلطة بالانتخابات)، والمادة الأخيرة من الدستور الإيطالي (تمنع تعديل الشكل الجمهوري لإيطاليا)، والمادة 60 من الدستور البرازيلي (تمنع إلغاء الطبيعة الفدرالية للدولة، والتصويت العام والسري والمباشر والدوري، وفصل السلطات).
وفي بلدين عربيين لم تمنع آلية الحظر في دستورَيهما من تجاوز الدستور، في الأول وهو تونس، على يد رئيس منتخب ديمقراطيًا هو قَيس سعيّد، وفي الثاني وهو مصر، على يد عبد الفتاح السيسي الذي أفرغ الدستور من مضامينه وتجاهله في الممارسة ثم عدله لتكريس الحكم الفردي. وهذان “الانقلابان الدستوريان” اقتُبسا من ظاهرة كانت شائعة في الهند وأميركا اللاتينية وأفريقيا تمثلت باستهداف الصحافة الحرة وبقبضة أمنية حديدية ضد المعارضين، وفرض شروط تعجيزية أمام الترشح للمناصب العامة.
أما الرقابة على القوات العسكرية والأمنية، فتُعدّ من الضمانات ذات الأهمية لقيام دستور ديمقراطي، وتكون بالتركيز على إخراج العسكريين من السلطة وضمان وصول حكومة مدنية منتخبة انتخابًا حرًا ونزيهًا، تسن القوانين بحرية، وتحصر مهمة المؤسسات العسكرية بالدفاع عن حدود الدولة.
وأخيرًا، تجدر الإشارة إلى أن الجيل الأحدث من الدساتير يشتمل على آليات وضمانات وقواعد محددة وواضحة لاختيار الحكام ومراقبتهم ومحاسبتهم وإقالتهم عند الضرورة، وإجراءات وقواعد لاتخاذ القرارات ورسم السياسات العامة وضمان متابعتها وتقويمها وتغييرها عند الضرورة، وقنوات وضمانات لتمكين المواطنين من تحقيق مشاركة سياسية فعّالة في اختيار الحكام والنواب، وفي التأثير في القرارات السياسية. فالأمل في بعض أوطاننا العربية المنكوبة بدساتير كانت ولا تزال حبرًا على ورق أن ترقى إلى مثلها أو شبيهها.