نشر في “بالستاين كرونيكل” في ٨١٢٢٠٢٣.
عوداً إلى أوروبا في أواخر القرن التاسع عشر، من المرجَّح جدَّاً أنَّ المفكِّرين والزعماء الأوائل للحركة الصهيونيَّة تخيَّلوا، أو تمنّوا على الأقلّ، أن تكون فلسطين أرضاً فارغة، أو، في حال وجود أحدٍ هناك، فأن تكون قبائل بدويَّة غير متجذِّرة في المكان؛ أي من غير السكَّان في جوهر الأمر.
لو جرى الأمر على هذه الشاكلة، لكان من المحتمل جدَّاً أنَّ يُنشئ اللاجئون اليهود الذي شقَّوا طريقهم إلى تلك الأرض الفارغة مجتمعاً مزدهراً، ولربَّما عثروا أيضاً على سبيل يمنع الاستقطاب القائم ضدَّهم في العالم العربيّ. لكن في واقع الأمر، نعرفُ أنَّ عدداً لا بأس به من مهندسي الحركة الصهيونيَّة الأوائل كانوا يدركون تماماً حقيقة أنَّ فلسطين لم تكن أرضاً فارغة.
وعلى غرار بقيَّة أوروبا، كان مهندسو الصهيونيَّة هؤلاء عنصريِّين ومستشرقين إلى درجة أنَّهم لم يدركوا مدى تقدُّم المجتمع الفلسطينيّ مقارنةً بغيره في تلك الحقبة، إذ ضمَّ نخبةً حضريَّة سياسيَّة متعلِّمة ومجتمعاً ريفيَّاً يعيشان في سلامٍ ضمن نظام أصيل أساسه التعايش المشترك والتضامن.
كان المجتمع الفلسطينيّ على مشارف الحداثة، مثل العديد من المجتمعات الأخرى في المنطقة؛ بمزيجٍ من التراث التقليديّ والأفكار الجديدة. وكان من شأن هذا أن يُشكِّل الأساس لهويَّةٍ وطنيَّة ورؤية للحريَّة والاستقلال على تلك الأرض نفسها التي سكنوها على مدى قرون من الزمن.
الأكيد أنَّ الصهاينة كانوا يعلمون مسبقاً أنَّ فلسطين أرضُ الفلسطينيّين، لكن اعتبروا السكَّان الأصليّين عقبةً ديموغرافيَّة لا بدَّ من إزالتها لكي ينجح المشروع الصهيونيّ في بناء دولةٍ يهوديَّةٍ في فلسطين. هكذا دخلت العبارة الصهيونيَّة “مسألة فلسطين”، أو “مشكلة فلسطين”، إلى المعجم السياسيِّ للسياسة العالميَّة.
في نظر القيادة الصهيونيَّة، لا يمكن حلّ هذه “المشكلة” إلَّا عبر تهجير الفلسطينيِّين واستبدالهم بمهاجرين يهود. علاوةً على ذلك، كان لا بدَّ من اجتثاث فلسطين من العالم العربيّ وبنائها كقاعدة طليعيَّة تخدم تطلُّعات الإمبرياليَّة والاستعمار الغربيّين من أجل السيطرة على الشرق الأوسط برمَّته. وهكذا بدأ الأمر، بسياسة “هوما وميجدال”؛ ومعناها الحرفيّ سور وبرج مراقبة.
“سور وبرج مراقبة”
يُنظَر إلى هذين العاملين باعتبارهما الأبرز ضمن معالم “العودة” اليهوديَّة إلى الأرض الفارغة المزعومة، وما زالا حاضرين في كلِّ مستعمرةٍ صهيونيَّة إلى يومنا هذا. لم يسبق أن كان للقرى الفلسطينيَّة أسوار أو أبراج مراقبة، ولم يتغيَّر الوضع عمَّا كان عليه إلى اليوم. كان الناس يتنقَّلون بحرّيّة، دخولاً وخروجاً، ويستمتعون بمشاهدة القرى على طول الطريق، فضلاً عن توفُّر الطعام والماء لكلِّ عابر سبيل.
على النقيض من ذلك، كانت المستعمرات الصهيونيَّة تحرس بساتينها وحقولها، من مُنطلَقٍ دينيّ، وتعتبرُ أيَّ شخصٍ يقتربُ منها لصّاً أو إرهابيَّاً. هذا هو السبب وراء عدم إنشائهم لموائل بشريَّة عاديَّة منذ البداية، بل حصون بأسوار وأبراج مراقبة، على نحوٍ أفضى إلى طمس الاختلاف ما بين المدنيّين والجنود في مجتمع المستوطنين.
حظيت المستوطنات الصهيونيَّة، لفترةٍ وجيزة، باستحسان الحركات الشيوعيَّة والاشتراكيَّة حول العالم؛ إذ كانت ببساطة أماكن شهِدت تجريباً متطرِّفاً وغير ناجح للشيوعيَّة. بيد أنَّ طبيعة هذه المستوطنات قد بيَّنت لنا، منذ البداية، معنى الصهيونيَّة بالنسبة إلى الأرض وشعبها.
كلُّ من جاء بوصفه صهيونيَّاً، سواءٌ أكان يأمل بالعثور على أرضٍ فارغة، أو عاقداً العزم على تفريغها، جرى تجنيدُه في مجتمعٍ عسكريٍّ استيطانيّ غير قادرٍ على تحقيق الحلم بالأرض الفارغة إلَّا عبر استخدام القوَّة القاهرة.
رفض السكَّان الأصليّون العرض بـ “نقلهم” إلى بلدان أخرى، على حدِّ تعبير ثيودور هرتزل. على الرغم من خيبة أملهم الكبيرة جرّاء تراجع بريطانيا عن وعودها المبكِّرة بصدد احترام الحقّ في تقرير المصير لجميع الشعوب العربيَّة، إلَّا أنَّ الفلسطينيّين كانوا لا يزالون يأملون أن تحميهم الإمبراطوريَّة من المشروع الصهيونيّ للإحلال والتشريد.
بحلول ثلاثينيَّات القرن المنصرم، أدرك زعماء المجتمع الفلسطينيّ أنَّ آمالهم لن تتحقَّق. وبناءً على ذلك انتفضوا، فكانت النتيجة أن سَحقَت الإمبراطوريَّة، التي كان من المفترض بها حمايتهم، انتفاضتهم بوحشيَّة تحت غطاء “الانتداب” الذي حظيَت به من عصبة الأمم.
وقفَت الإمبراطوريَّة أيضاً متفرِّجةً عندما نفَّذت الحركة الاستيطانيَّة عمليَّة تطهيرٍ عرقيٍّ ضخمة في سنة 1948، أسفرَت عن طرد نصف السكَّان الأصليِّين خلال النكبة.
مع ذلك، في أعقاب النكبة، كانت فلسطين لا تزال ملأى بالفلسطينيِّين، كما رفضَ الذين طُردوا قبول أيّ هويَّة أخرى وقاتلوا من أجل حقِّهم في العودة، مثلما يفعلون إلى يومنا هذا.
إبقاء “الحلم” حيَّاً
ظلَّ أولئك الذين بقوا في فلسطين التاريخيَّة دليلاً على أنَّ الأرض لم تكن فارغة، وأنَّ المستوطنين كانوا بحاجةٍ إلى استخدام القوَّة لتحقيق هدفهم المتمثِّل في تحويل فلسطين العربيَّة والإسلاميَّة والمسيحيَّة إلى أخرى يهوديَّةٍ أوروبيَّة. وعاماً تلو آخر، ازدادت الحاجة إلى استخدام المزيد من القوَّة من أجل تحقيق هذا الحلم الأوروبيّ على حساب الشعب الفلسطينيّ.
بحلول عام 2020، كنَّا قد أكلمنا بالفعل مئة عامٍ من المحاولة المستمرَّة، عن طريق القوَّة، لتنفيذ الرؤية بصدد تحويل “أرضٍ فارغة” إلى كيانٍ يهوديّ. علاوةً على ذلك، ولأسباب ديموقراطيَّة وبعض الأسباب الثيوقراطيَّة، بدا أنَّه لا يوجد إجماع يهوديّ على هذا الجزء من “الرؤية”.
كانت هناك حاجة، ولا تزال، إلى المليارات والمليارات من أموال دافعي الضرائب الأميركيّين، من أجل إبقاء الحلم بأرض فلسطين الفارغة مستمرَّاً، وكذلك لصالح السعي الصهيونيّ المحموم وراء تحقيقه.
كان لا بدَّ من اللجوء إلى سجلٍ غير مسبوقٍ من أدوات العنف والوحشيَّة التي تُستخدم يوميّاً ضدَّ الفلسطينيّين، وقراهم ومدنهم، أو ضدَّ قطاع غزَّة بأكمله، في سبيل مواصلة هذا الحلم. كانت التكلفة البشريَّة التي دفعها الفلسطينيّون مقابل هذا المشروع الفاشل هائلة، قرابة مئة ألف ضحيَّة حتَّى الآن. وأمَّا أعداد الجرحى والمصابين بصدماتٍ نفسيَّةٍ من الفلسطينيِّين، فهي شديدة الارتفاع إلى درجة أنَّ في كلِّ عائلةٍ فلسطينيَّة على الأرجح فردٌ واحد، على الأقلّ، سواءٌ أكان طفلاً أو امرأة أو رجلاً، ضمن هذه القائمة.
تعرَّضَت الأمَّة الفلسطينيَّة -التي كان رأسمالها البشريّ قادراً على تحريك الاقتصادات والثقافات في جميع أنحاء العالم العربيّ- للتمزيق والحرمان من استغلال إمكانيَّاتها الهائلة لصالحها.
هذه هي خلفيَّة كلٍّ من سياسة الإبادة الجماعيَّة التي ترتكبها إسرائيل اليوم في غزَّة، وكذلك حملة القتل غير مسبوقة في الضفَّة الغربيَّة.
الديموقراطيَّة الوحيدة؟
مجدَّداً، تضعنا هذه الأحداث المأساويَّة أمام اللغز العميق التالي: كيف بمقدور الغرب والشمال العالميِّ الزعم بأنَّ من يضطلع بتنفيذ هذا المشروع العنفيّ، القائم على القمع المستمرّ للملايين من الفلسطينيّين، هي الديموقراطيَّة الوحيدة في الشرق الأوسط؟ والأهمّ من ذلك، ربَّما، هو ما الذي يجعل الكثير من مؤيِّدي إسرائيل، وكذلك اليهود الإسرائيليّين أنفسهم، يؤمنون بأنَّ هذا المشروع قابل للاستمرار في القرن الحادي والعشرين؟
الحقيقة هي أنَّه مشروع غير قابل للاستمرار.
تكمن المشكلة في أنَّ عمليَّة تفكيكه قد تكون طويلةً وشديدة الدمويَّة، وسيكون الفلسطينيّون ضحاياها في المقام الأوَّل. ليس واضحاً أيضاً ما إذا كان الفلسطينيّون مستعدّين لتولّي زمام الأمور، كحركة تحريرٍ موحَّدة، في أعقاب المراحل الأخيرة من تفكُّك المشروع الصهيونيّ.
هل سيكون بمقدورهم التخلُّص من مشاعر الهزيمة وإعادة بناء وطنهم كبلد حرّ للجميع في المستقبل؟ شخصيَّاً، لديَّ إيمانٌ عميق بالجيل الفلسطينيّ الشابّ، وبأنَّه قادرٌ على فعل ذلك. من الممكن أن تكون هذه المرحلة الأخيرة أقلّ عنفاً؛ من الممكن أن تكون بنَّاءةً وإنتاجيَّة لكلا المجتمَعين، أعني المستوطنين والشعب المستعمَر، لكن فقط في حال تدَّخلت المنطقة، والعالم، على الفور.
في حال كفَّت بعض الدول عن إغضاب ملايين البشر بمزاعمها أنَّ مشروعاً عمره قرن من الزمن -هدفه إخلاء أرضٍ من سكَّانها الأصليِّين باستخدام القوَّة- هو مشروع يعكس ديموقراطيَّةً تنويريَّة ومجتمعاً متحضِّراً. لو حدث هذا، لكفَّ الأميركيّون عن طرح سؤال “لماذا يَكرهوننا؟”. ولما عاد اليهود حول العالم مُضطرّين للدفاع عن العنصريَّة اليهوديّة من خلال توظيف كلٍّ من معاداة الساميَّة وإنكار الهولوكوست كسلاح. بل ربَّما هناك أمل حتَّى بعودة الصهاينة المسيحيّين إلى المبادئ الإنسانيَّة الأساسيَّة التي تدافع المسيحيَّة عنها، والانضمام إلى طليعة التحالف العازم على وقف تدمير فلسطين وشعبها.
من المؤكَّد أنَّ الشركات متعدِّدة الجنسيَّات، وشركات الأمن والصناعات العسكريَّة، لن تنضمَّ إلى تحالفٍ جديد يعارض مشروع تفريغ الأرض. بيد أنَّ الوقوف في وجهها أمرٌ ممكن. المطلب الوحيد لتحقيق كلِّ ما سبق هو أنَّه لا بدَّ لنا، كشعوب بسيطةٍ لا تزال مؤمنة بالأخلاق والعدالة، مجسِّدةً مناراتٍ في عصر الظلمات هذا، من الفهم العميق لفكرة أنَّ وقف محاولة إفراغ فلسطين يمثِّلُ انطلاقة عصرٍ جديد، وعالمٍ أفضل بكثير للجميع.
إيلان بابيه هو أستاذ في جامعة إكستر. عمل سابقاً كمحاضرٍ رئيسيّ في العلوم السياسيَّة في جامعة حيفا. من مؤلَّفاتِه: “التطهير العرقيّ في فلسطين”، و”الشرق الأوسط الحديث”، و”تاريخ فلسطين الحديثة: أرضٌ واحدة، وشعبان”، و”عشر خرافات عن إسرائيل”. عمل بابيه أيضاً كمحرِّر مشارك، مع رمزي بارود، لمجلَّد “رؤيتنا للتحرير”. يُعتبَر بابيه أحد “المؤرِّخين الجدد” الإسرائيليّين، المشغولين بإعادة كتابة تاريخ تأسيس إسرائيل في عام 1948، وذلك منذ نشر الوثائق البريطانيَّة والإسرائيليَّة ذات الصلة في أوائل ثمانينيَّات القرن الفائت.