وقفت امرأة تحمل كيسًا بلاستيكيا فيه بعض البسكويت وشاحن لهاتف محمول، تقول أمام شابٍ ثبَّتَ هاتفه وبدأ بتصوير بكائها قبل أن يسألها “شو صار معكم يا خالتي”، قالت المرأة بألم “هاد الأكل كنت جايباه لبناتي، أعطيتهم إياه في الليل واليوم الصبح لقوا بنتي مرمية هناك، استشهدت وتصاوبت أختها”، تواصل السيدة بكاءها بصوتٍ مسموع وهي تدعو أن يكسر الله إسرائيل. وتنتهي اللقطة.
في مشهدٍ آخر يأخذ مراسل إحدى الفضائيات شهادة ناجٍ من مجزرة راح ضحيتها ما يقارب الثمانين شهيدًا، يبكي الرجل بشهيقٍ لا دموع معه على زوجته وأطفاله وأشقائه وأبنائهم ووالديه فيما يكتفي المراسل بالقول “عظم الله أجركم” ويكمل رسالته. يدور الرجل حول المكان المهدم لا يفعل شيئَا، يواصل بكاءه بلا دموع.
مشهدان يلخصان حالة المواساة غير الكافية التي لا يجد المكلومين في غزة غيرها، ولا يختلف الواقع عن ما خلف الشاشات، ففي الوقت الذي لا يجد فيه الباكي من يحتضنه ويخفف دموعه، ولا يجد المفجوع بعائلته وقتًا للبكاء ويفر ناجيًا من الموت أو باحثًا عن أسبابٍ للبقاء يندر وجودها في غزة. نكتفي نحن بالبكاء بعيدًا أولا يبكي إلا من كان له أهل وأحباب في غزة, فيما يكتب الكثيرون تضامنهم كتعليقات بحروفٍ مكررة تعبيرًا عن غضبهم، أو تعاطفهم، ويعود الجميع ليتابع حياته ف”الحياة لا يجب أن تتوقف”.
“الحياة لا يجب أن تتوقف” هذه العبارة التي سئمت سماعها – وأنا المغتربة – من كل أساتذتي الذين تغيبت عن محاضراتهم عندما قتل الاحتلال الإسرائيلي أبناء شقيقتي الأربعة، ولربما كنت محظوظة بالتعبير عن نفسي بغضبٍ واضح وأنا أقول: “من يموتون هناك أهلي، إن الحياة تتوقف إن حدث لهم شيء حقًا” فيهزون رؤوسهم موافقين ومتأثرين ويعرفون أن مواساتهم باهتة وغير متسقة مع كل ذلك الوجع في غزة، فيما لا يسعف الحظ والوقت والموت المستمر أهل غزة نفسهم للنظر غاضبين طويلًا لنا، نهرنا والصراخ في وجوهنا، لا وقت عند غزة للسخط علينا حتى.
فقط يكتفي المفجوعون بالموت أو الإصابة بالحزنِ والبكاءٍ الذي تنقله الكاميرات المهتمة جدًا بالالتزام بشروط التصوير للمواقع الالكترونية، وتختزل كل ذلك الحزن بدقيقة وقليل، تراعي التنوع البصري ولفت انتباه المشاهد، وتكفي المشاهد لقطة قصيرة يبكي فيها من ماتَ أهله، أو يطلب المصاب فيها فرصة للعلاج.
نعم… هذه الحال، يجب أن نجذب انتباه المشاهد الناطق بالعربية أو بالإنجليزية الذي سيعلق بكلمات فيها أحرفٌ مضاعفة، داعيًا أن ينال شهدائنا الراحة في الموت، وهذه هي التعليقات التي يكتبها الناطقون بالإنجليزية على الفيديوهات المترجمة لموت أطفالنا في غزة، إنهم يقولون صراحة إن الأطفال في مكانٍ أفضل بعد الموت. لا أعرف إن كان الأمر طبيعيًا أم أنني أتعامل مع كل قضايا غزة بحساسية من عاش فيها وجرب حروبها، ويعرف أن الناس هناك تحارب في كل مرةٍ للبقاء لا للموت، وأنهم هناك وإن اتفقوا أمام الشاشات على أن ما يصيبهم هو قدرهم المكتوب، كانوا قبلًا يكافحون حرفيًا لمنح أطفالهم مستقبلًا حقيقيًا يشبه مستقبل أولئك الأطفال الذين يعرفون الموت عندما يكبرون فقط.
أعرف وأعترف وأُقر أن لمواقع التواصل الاجتماعي فضلًا لا يمكن إنكاره في إعادة التركيز على القضية الفلسطينية عالميًا ولفت انتباه الناس مرة أخرى إلى أنها صراع بين احتلال ومُحتل وأن من حق الفلسطيني الدفاع عن أرضه، حقٌ استكثره العالم علينا لأن عدونا كان يحظى بدعمٍ عالمي يستند لغياب صوتنا وعلو صوته، وهذا الصوت الذي عادَ مسموعًا على منصات التواصل الاجتماعي التي نشرت فيديوهات لشهداء غزة وعائلاتهم المفجوعة وللمصابين في مدة دقيقةٍ وقليل.
استغرقت وقتًا لا بأس به لأتقبل هذه الفكرة، لأتجاوز مشاعر السخط وأنا أعترف أن صوتنا صار مسموعًا بعد أكثر من 20 ألف و400 شهيد وما يزيد عن 54 ألف جريح ، غير أنني لم أتجاوز حتى الآن فكرة أن اللقطة لا تحتاج إلا لدقيقة فقط، دقيقة كافية للمشاهد ولا تكفي للمكلوم الذي لا يجد من يبكي في حضنه ومن يخفف عنه. ولا أعرف إن كان من الأخلاقي أصلًا التجاوز عن أن الحزن في غزة يجب أن يصبح مشاهدًا بهذا الشكل غير الإنساني حتى تستفيد القضية الفلسطينية كلها.
ما أعرفه يقينًا، أن كل ذلك الحزن في غزة هو قصة منشورة لم تكتمل، رواية يجب أن تُحكى من البداية حتى النهاية، بكل الأحرف والأرقام، بكل التفاصيل المملة والمثيرة، وأن تبدأ بصوتٍ طفولي لصغيرة ناجية من القصف تقول “أنا زعلانة يا عمو”، ولا يُنبه المشاهدون في البداية بأن الفيديو “ربما يحتوي مشاهد مزعجة” كما تكتب واحدة من الفضائيات الكبيرة على كل مقاطع الفيديو للضحايا في غزة، سنكتب المصطلحات المناسبة على كل مشهدٍ، سننصف الضحايا الشهداء منهم والأحياء ونعطيهم الوقت لينتحبوا، سنبكي معهم في نهاية الرواية وسيبكون، بدموعٍ ساخطة تكره العالم الذي لا يرانا إلا عندما نموت، ورغم ذلك يكتفي بالتخيل أننا سنكون بعد موتنا في مكانٍ أفضل.