جديد | “ماكس فيبر: الشغف بالتفكير”

رمان الثقافية

مجلة ثقافية فلسطينية

تتبّع المؤرخ الألماني رادكاو في سفْره الضخم، على نحو غير مسبوق، سيرة فيبر للوصول إلى الإجابة عن سؤال جوهري، هو: ما الذي يبقي فيبر بعد قرن من وفاته معاصرًا وحيويًّا وفاعلًا؟

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

14/04/2024

تصوير: اسماء الغول

رمان الثقافية

مجلة ثقافية فلسطينية

رمان الثقافية

صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ضمن سلسلة “ترجمان”، كتاب “ماكس فيبر:الشغف بالتفكير” Max Weber: Die Leidenschaft des Denkens، وهو سِفْرٌ ضخم في السيرة ألّفه يواخيم رادكاو، وقد تناول حياةَ عالِم ألماني موسوعي هو ماكس فيبر. وتهتم فصول هذا الكتاب، التي بلغت اثنين وعشرين فصلًا، والتي توزعت على أقسام ثلاثة، بطفولة فيبر وتأثير أسرته فيه، وخصوصًا أمَّه وأخاه ألفرد. ويناقش الكتاب شخصية فيبر الموسوعية التي “قطفت من بستان كل علم وردة”، ويتعرض لمرضه المبكر الذي لازمه طوال حياته، لكنه لم يُقعِدْه عن التطور العلمي، ويعرِض لحياته السياسية وعلاقته بالقيصر، كما يسلط الضوء على العلوم الكثيرة التي كتب فيها ببراعة حتى بدا كأحد جهابذتها، ويعقد مقارنةً بينه وبين علماء عاصروه وسبقوه، ويستعرض موقف كتاباته عن الدين وأمور كثيرة أخرى حواها هذا المؤلَّف الموسوعي الضخم. ترجم الكتاب خليل الشيخ، وهو يقع في 1376 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.

أسفرت مراسلات يواخيم رادكاو، خلال عمله على جمع مادة علمية عن ماكس فيبر، عن كتاب منفصل هو السِّفْر الضخم الذي بين أيدينا: “ماكس فيبر – الشغف بالتفكير”، وقد مرَّت أجزاء من نصه قبل أن يظهر تحت مجهر مقترحاتٍ وتلميحات وقراءات نقدية لمجموعة كبيرة من العلماء الأفذاذ، تقبَّلها رادكاو بطيبة نفسٍ، بل ضمَّنَ كتابَه شكرًا لموجِّهيها، وخص كلًّا منهم بالاسم، عادًّا منهم تسعين شخصًا (ص 27 و28)، وحسبُك بهذا العدد أيها القارئ الكريم دليلًا على مدى الجهد المبذول في سبيل إخراج هذا العمل الضخم، الذي شغل في ألمانيا 924 صفحة في دارٍ و1008 صفحات في دارٍ أخرى، و1376 صفحة في النسخة المترجمة إلى العربية، وقد استمرت هذه الترجمة ما ينوف على ثلاث سنوات؛ ليس بسبب ضخامة هذه السيرة فحسب، بل لأنها من أكثر سِيَر فيبر ثراءً معرفيًّا في المجالات الفكرية المختلفة وشمولًا وإحاطة وموضوعية.

ثم يخص المؤلِّف بالشكر كلًّا من توبياس هيل وإغينهارد هورا، المحاضرَين اللذين أثارا ذكر هذا الكتاب في دروسهما، وفرانك إيكوتر، الذي عمل بدقة لا هوادة فيها تحت إشراف هيل وهورا على مراجعة مخطوطات العمل، التي تحتوي على مجموعتَين من أعمال فيبر رُمز إليهما بـ “MWGI” و“MWGII”، وصور من رسائله المحفوظة في أرشيف البروفيسور ريتشارد غراتهوف (أورلينغهاوزن) تحت مختصر “SG” (أي: Sammlung Grathof، أو: مجموعة غراتهوف). وتعود هذه الصور، وفقًا لإديت هانكه، إلى مخطوطات أُعدَّت لمركز أبحاث ماكس فيبر في هايدلبرغ. أما التوثيق بـ “Ana 446”، فيقصد به أن المادة موجودة في تركة فيبر بمكتبة ولاية بافاريا – ميونيخ. وأما بشأن مصادر الاقتباس من أعمال فيبر، فقد ذكر منها المؤلف واحدًا وعشرين مصدرًا (ص 29-30، النسخة العربية).

الهدف “الرادكاوي” من سيرة فيبر

تتبّع المؤرخ الألماني رادكاو في سفْره الضخم، على نحو غير مسبوق، سيرة فيبر للوصول إلى الإجابة عن سؤال جوهري، هو: ما الذي يبقي فيبر بعد قرن من وفاته معاصرًا وحيويًّا وفاعلًا؟

سَمّى المؤلّف هذه السيرة “الشغف بالتفكير”؛ لما يشكّله الشغف في شخصية فيبر نفسِه خلال انغماسها في الحياة حتى إدبارها عنها. ونظرًا إلى أن شغفه الأساسي كان التفكير، فقد نحا منحًى موسوعيًّا، ولهذا استعصى تصنيفُه داخل حقل معرفي بعينه؛ فهو من مؤسسي الدراسات الاجتماعية، ومحلّلٌ اقتصادي، ومنظّر سياسي، ومن محلِّلي الأديان الشرقية، وناقدٌ موسيقي، وأول مَن نظَّر للصلة بين البروتستانتية ونشأة الرأسمالية، وتأثير كاريزما الدين في الحياة السياسية … إلخ؛ فكان كما وَصَفَه المؤلّف: “عابرًا للحدود بين التخصصات”، حتى إنه ساهم نوعيًّا في كل مناحي العِلْم.

عظمة فيبر تتجلى في أن أعظم منجزاته العلمية وُلدت في ظلال المرض الذي أصابه في سن مبكرة، وأن المرض ظل ملازمًا له حتى آخر حياته، مع ما صاحَبَه من إحباط واكتئاب. وعلى الرغم من ذلك، ظل مقبلًا على بثِّ العلم، متسلّحًا بشغف “التفكير”، حتى تحولت حياته سجالات و”معارك” كلامية فكرية مع مفكري عصره ومثقفيه طُبعتا بسمات الحدة والعنف، وكشفتا عن قدرة استثنائية لديه على الجدال، وهو شغف “يشرّحه” المؤلّف في كتابه هذا على نحو مفصَّل، خائضًا حوارات عميقة مع دارسين قدموا قراءات مغايرة لفيبر وفكره، ثم إنه يوظفها في بناء رؤية تأملية مبتكرة في العالم الألماني العبقري تعيد موضعته من جديد.

كتب رادكاو سيرةَ شخصيةٍ كبيرة في تاريخ الشعب الألماني هو أدولف هتلر، لكنه لم يصرِّح فيها كما فعل إثر كتابته سيرة فيبر وتأثره العميق بالرجل فكريًّا ونفسيًّا: “أنا لستُ فيبر.. وما أبعد المسافة بيني وبينه.. إنه شعور تولّد لدي أثناء العمل، فما أسرع استقرار هذا الرجل في العقل الباطن، وهي تجربة لستُ أولَ مَن عاشها، وهو عيش دفع بعض عشاق فيبر إلى إعلان ’غضبهم‘ من أسرها الكابوسي الطابع”.

إنها صيحة تشير إلى عمق الانجذاب إلى سحر شخصية فيبر الآسرة، والتصميم على الانعتاق من أَسْرها في آنٍ؛ فهذه السيرة تجيء جوابًا علميًّا عن إشكالات تاريخية لا تقبل الاختزال، لأن ما تقدّمه من أفكار ليس أشلاءً لا نسق يجمع بينها، بل هي نسقٌ كلّيٌّ يجمع الأجوبة الأكثر تنافرًا عن الأسئلة الأكثر تباينًا.

أظهر رادكاو في كتابه ماكس فيبر حضور المفكر الألماني القوي فيبر وانتشار أفكاره؛ ليس في ألمانيا فحسب، بل في الغرب قاطبة، على الرغم مما كان يعانيه من مشكلات جسدية ونفسية. وعند مقارنته بكارل ماركس، يبيّن المؤلف أن فيبر بقي حاضرًا رغم انعدام حزب يتبنى أفكاره كمؤسِّس الشيوعية، وقد أظهره عبقريًّا استجاب لروح العصر وتحدى مواضعاته.

تأثير برلين وإرفورت مدينة لوثر

يُبيِّن رادكاو أن نشأة فيبر في إرفورت أثّرت كثيرًا في شخصيته؛ ليس بوصفها مسقط رأسه، بل لأنها المدينة التي بدأ فيها مارتن لوثر حركته الإصلاحية في عام 1517، والتي ترجم فيها الكتاب المقدس إلى الألمانية، وهو ما اعتُبر نقطة البداية في بناء شخصية الأُمة الألمانية ولغتها، وكذا شخصية فيبر، الذي خطَّ مقولات عن البروتستانتية وصِلتها بالروح الرأسمالية.

أما برلين، التي عاش فيها ماكس فيبر منذ عام 1869، فكانت المرحلة الأكثر بروزًا في تكوين فكره، وفيها تعرّف – في منزل والده عضو البرلمانَين البروسي والألماني (الرايخستاغ) وعضو الحزب الديمقراطي الليبرالي – إلى كثير من شخصيات ألمانيا الفاعلة سياسيًّا وثقافيًّا.

كانت والدة فيبر، هيلين فالنشتاين، ذات صلة بالبروتستانتية الفرنسية، وكانت علاقته بأبيه متوترة على الدوام، وقد قضى الأب نَحْبه في إثر سجالٍ عنيف دار بينهما، قبل أن يتمكن ماكس الابن من مصالحته. أما علاقته بأُمه، فكانت أكثر توافقًا واستمرارية، وإن لم تخلُ من صراع. ويتوقف المؤلّف في كتابه عند السجلّ المرَضي لهذه الأُسرة في ضعف الأعصاب والاضطراب النفسي، وكيف أنّ أمُّ فيبر خافتْ، عند إصابته بالتهاب السحايا في طفولته، من تبلُّده على المستوى العقلي، إلا أن فيبر فاجأ ألمانيا والأوروبيين بفكره الموسوعي، وهو أمرٌ ينطوي على شهادة حيّة عن التفريق بين بُعدَين: تاريخ الجسد، وتاريخ الفكر؛ إذ يتوقف عند التحولات التي أصابت نشاط فيبر العلمي في إثر وهن جسده بسبب المرض مبكرًا، وكيف أنه اضطر إلى الحدّ من دروسه الجامعية أولًا، ليتوقف عن التدريس ثانيًا، ثم عن كرسي الأستاذية ثالثًا.

ويتطرق المؤلّف إلى تجربتين مهمتَين في مرحلة شباب فيبر: دراسته في جامعة هايدلبرغ وإسرافه خلالها في الطعام ومعاقرة الكحول وإفراطه في التردد على الحانات، وابتعاده عن بيت الدعارة خوفًا من الإصابة بالزهري. ويتوقف عند ما سماه “ذروة التجربة البدنية” عند فيبر، يوم ذهابه إلى الخدمة العسكرية، التي أثّرت في تكوينه الجسدي بالتدريب، والتدريب النفسي الذي لُمس في رسائله إلى أمِّه، التي احتوت على كثير من السخرية من تجربة الجيش، وشعور بالمتعة والخوف من ضياع الوقت، لكنها كانت تجربة محدودة التأثير؛ إذ بمجرد الفراغ من تأديتها، أقبل فيبر بعدها على تناول الطعام وشرب الخمور بإسراف.

حب خارج إطار الزواج

في إثر زواج ماكس فيبر بماريانا شنيتغر، وهو زواجٌ استمر قرابة ثلاثين عامًا، أقام علاقتَي حبّ خارج البيت، على الرغم من أن ماريانا وقفت إلى جانبه، وأنفقت على علاجه عندما أُصيب بالإنهاك العصبي وأوصابٍ أخرى. ولم تهتمَّ به أثناء حياته فحسب، بل بعد مماته أيضًا؛ إذ قامت على نشر تراثه الفكري، وظلت تعقد حلقات بحثية عنه، فكانت مثالًا للإخلاص حقًّا. كانت علاقة فيبر الغرامية الأولى مع اليهودية إلسي يافه، زوجة السياسي والباحث في الاقتصاد القومي ووزير المال الألماني إدغار يافه، وقد استطاعت ضبط العلاقة معه ومع أخيه ألفرد الذي وقع في غرامها أيضًا. ويكشف الكتاب، من خلال هذه العلاقة، عن جوانب إيروتيكية غامضة في شخصية ماكس فيبر. أما علاقة الحب الثانية، فكانت مع عازفة البيانو السويسرية مينا توبلر، ولعل هذه العلاقة قادتْه، وهو عالم الاجتماع الذي لم يمارس الموسيقى، إلى تأليف بحث في الموسيقى سمّاه “الأُسس العقلانية والسوسيولوجية للموسيقى” Zur Musiksoziologie Nachlaß 1921، وقد نُشر كتابًا بعد موته، ولا عجبَ ولا غرابةَ؛ ففيبر، كما سبقت الإشارة إليه، “موسوعي الفكر”.

ويتوقف المؤلّف في حياة فيبر عند مراوحتها بين اللذة والمتعة الممزوجتين بالمعاناة الجسدية مع توقُّدٍ فكري متنوع ودائم لا يخبو؛ فقد كانت أطروحته للدكتوراه من جامعة برلين عن الشركات التجارية في العصر الوسيط، وأُطروحته للأستاذية عن التاريخ الزراعي للإمبراطورية الرومانية، وأنجز أيضًا دراسة مَسْحية عن العمال الزراعيين في شرق الألب. وإلى جانب التجارة والزراعة، شغل فيبر كرسي الاقتصاد السياسي في جامعة فرايبرغ، وأضاف إلى هذه العلوم الثلاثة علمًا رابعًا هو علم الاجتماع؛ إذ أَسّس مع إدغار يافه وفرنر زومبارت “أرشيف العلوم الاجتماعية”، ثم علمًا خامسًا هو علم الأديان، فضلًا عن تأليفه كتابًا آخر، بعد زيارته الولايات المتحدة، ذاع صيتُه كثيرًا، هو: الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية Die protestantische Ethik und der Geist des Kapitalismus.

السياسة في حياة ماكس فيبر

تتبع المؤلّف سجالات فيبر السياسية مع القيصر والنظام القيصري أيامَ الحرب العالمية الأولى، التي ظهر في كتاباته خلالَها مصطلحا “البيروقراطية” و”الكاريزما”، وتوجُّهٌ واضح في الكتابة عن سوسيولوجيا الحُكم والسيطرة وسوسيولوجيا الدين. وتتبع كذلك كتاب فيبر الشهير الاقتصاد والمجتمع Wirtschaft und Gesellschaft الذي أسس فيه سوسيولوجيا شاملة لمظاهر النشاط الاجتماعي وسيرورتها نحو العقلانية. وعلى الرغم من أن فيبر لم يكن يؤمن بالتفسير المادي للتاريخ، فإنّ المؤلّف يقيم مقارنة بينه وبين كارل ماركس؛ بتخيُّل حوارات يجريها فيبر مع ماركس، ومع غيره من الفلاسفة والمفكرين، في دراسة لجوانب التفكير الاجتماعي لدى فيبر ورؤيته العلمية القاضية بضرورة خضوع عالِم الاجتماع لقوانين صارمة تشبه قوانين العلم الطبيعي، من دون التبسيط العلمي الذي كان أوغست كونت ينادي به، ويدحض المؤلّف القول بأن نظريات فيبر الاجتماعية استُثمرت أثناء الحُكم النازي لمصلحة مفهوم “الزعيم الكاريزمي” وأَرهَصت بقدوم أدولف هتلر، وناقش السجالَ النقدي الذي دار حول ماكس فيبر في الولايات المتحدة الأميركية، بعدما ترجمه المهاجرون الألمان من الأكاديميين الرافضين للحُكم النازي إلى الإنكليزية، وكذا الموقفَ السلبي لنقاد مدرسة فرانكفورت في الولايات المتحدة – كهربرت ماركيوزه – من كتابات فيبر.

“ماكس فيبر – الشغف بالتفكير” سيسدّ فجوةً مهمة في المكتبة العربية؛ فهو مؤلَّف شامل في سيرةِ عالِم ملأ الدنيا الألمانية والأوروبية وشغل ناسهما في زمانه، وفي الوقت الراهن أيضًا، وهي شمولية اقتضت من كاتبه الجمع بين النقائض؛ إذ يبيّن عبقرية ماكس فيبر المفكر العبقري من جهة، ويُلقي أضواءً كاشفة على تكوينه النفسي المُحبَط والمملوء قلقًا واضطرابًا واكتئابًا من جهة أخرى. وإنّ ما يشهد بقوة على معرفة يواخيم رادكاو الموسوعية بأدبيات فيبر هو الهوامش التفصيلية التي وضعها على الكتاب، والتي تكاد تشكّل في حدّ ذاتها كتابًا مستقلًّا؛ ما يمنح هذه السيرة صبغة العمل الفكري الاستقصائي الذي لم يكتفِ، كما في علم السِّيَر، بالكشف عن حياة صاحبها فحسب، بل سعى إلى تصوير روح العصر الذي عاش فيه فيبر؛ فجعل منه ذلك العالم الألمعي الذي أثّر في جيله وفيما تلاه من حِقَب زمنية.

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع