«ميزان الأذى» لجولان حاجي: فزع بشري

2017-03-08 07:00:00

«ميزان الأذى» لجولان حاجي: فزع بشري
لوحة لجيروم بوش

لئن كان للأذى ميزان، فإن الفزعَ أجلى مصادره في مجموعة "ميزان الأذى" (دار المتوسط، 2016) للشاعر السوري الكردي جولان حاجي. ربما انطوى على مجانية ولزوم ما لا يلزم اللجوءُ إلى القاموس؛ لإضاءة معنى كلمة، أو بديهة، من كلماته، وهي كلمة "فزع". 

هذه الكلمة، باشتقاقيها الأصغر والأكبر عند ابن جني، المبذولة والنشطة في الواقع، غير مضبّبة ولا معقدة بحال، فأسبابها واضحة وكثيرة في هذه الحياة. 

لكننا سنستغيث بالكلمة ذاتها، لا من أجل تصعيد السخرية السوداء، بل من باب انتشارها وسيادتها في المجموعة؛ سيادة تحتّم علينا التصعيد بين المتقابلات بمنظورٍ بنيوي. 

الفزع، إذاً، ككلمة وكممارسة، وحتى كحضور كلمات مرادفة لها على امتداد القصائد؛ هي العلامة الشائعة والضاجّة. 

يقابل ذلك، على سبيل المثال، حدثٌ مثاليّ، متجانس، رائق، نادر، خفيف، وعابر، لكنّه حدثٌ جليل، على بساطته واستنارة الحالمين به وخيبتهم في نفس الوقت، جلالة كونه طارئاً في مجال النظر أو الإرادة المفتقدة، وجلالة كونه وحدة الإصغاء بالصورة.

"فدنوتُ أصغي

فراشٌ بيضاءُ تلاعب فراشةً بيضاء

هكذا أريد أن أحيا" ص52.

إنه التجلّي النادر لهامش يَهمسُ بالإرادة المفتقدة. هذا الحدث النافل، المنسحب فوراً، المصاب بعدوى مذاق الهايكو أو بكلمة الفراشة وصفتها، الفردوس بمعنى أشمل وأعمّ، والفردوس عدوى كلمة" ص16. 

وضع ضئيل أمام أوضاع جسام، لكنه وضعٌ مُغرٍ ومُعذّبٌ لروحٍ قلقة ينفذ إليها ويَخلطُها بمصائرَ جبارة. إنه "الحظ" في قصيدة تحمل هذا الاسم - وتسبق قصيدة "اللوحة"- وفيها: "الضئيل ينجو، والحياة أمامه طويلة" ص30. وفي "اللوحة" نرى: 

"الشعاعُ  نفسه يُضيءُ الإبرة التي غرزتها امرأة في كرة الصوف. (و) يلمعُ خيطُ عنكبوت في أصيص الصبّار؛ لا بد من الضعف، لا بد من نسمةٍ لترى مثل هذه الرقة في خيطٍ يلخّصُ مصيرك" ص 32.

لكن وقوفنا خاشعين، مُخدَّرين بترف رومانسي، لوهلة أولى، مثالُه الفراشةُ والشعاعُ والرقة، أو متعلقين بصيت الفردوس؛ أمام أحداث لطيفة ونادرة تقع، فجأةً، في مجال النظر، أحداث نُحيطها بهالةٍ من رجاء أن نتمثلها..؛ لكن وقوفنا هذا كلّه، على حاجتنا إليه، لن يُخدّرنا بالأمل. فالشاعر يُحذّرُنا بجرسه، هنا، إذ يُعنون الباب الثاني من كتابه: "احذر النور المبهر". هذا ما لا يترك لنا فرصة مأمونة للمراهنة على حدث أو صوت ثانويّ مُبشّر بالراحة والهناء. 

يُسمعُ صوتٌ، هو أنتِ، 

سيَخلطُ شعاعَ الشمس -هذا النادر المفتقد- 

بالحبر والغبار، هذين الكثيرين العريقين"، ص11.

الشاعر "المُتلصص"، ليس على ما يمتّع، المختبئ، المذعور، صاحب الفرص الضائعة المُجمّلة بودائع الشعر المصطدمة، أبعد من توبيخ ورثاء الحياة، بضوء الوجود العابث واللاهي بنا وعلينا. 

من ثقبين في قلب الشجرة، 

ينظر إلينا الضوءُ مثل طفل يلهو بالصور 

اسمه الموت" ص13.

سنكون، إذاً، أمام زحفٍ بطيء ومخيفٍ لصور مركبة تركيباً فظيعاً ومتشائماً وشيطانياً، في أصلاب وأطراف قصائد جولان حاجي، الذي يقول لنا بصريح العبارة: 

"أنا الآن أمقتُ ما أتذكّر في السرّ، وأحنّ إلى ما يفزعني" ص64. 

الشاعر الذي يمكن وزن عنوان كتابه ذي الثقل الزائد على عناوين مجموعات أخرى لشعراء آخرين، مثلا: "تشكيل الأذى" للشاعرة ميسون صقر المستعيرة عنوانها من تجربتها في فن التشكيل، و"تاريخ الأسى" للشاعر طالب عبد العزيز المُصاب بتاريخ العراق. 

الأسى أو الأذى، من السهل على اللسان تصحيف هذا وذاك، دون اختلال المعنى. لكن ما يهمّنا، هنا، أن العنوان آلة، وفي نفس الوقت هو شعار مرئي. بعد قليل، سنعرف ماذا يعني أنه مسموع. سنعرف التحولات المرعبة والإختفاءات التي جرت على ما سميّناه، في أول المقالة، وحدة أو اندماج الإصغاء بالصورة.

"أنا خبزُ اللامرئيين:

كم تفزعني عيونُ المفزوعين،

كلّ خائف يُفزع خائفا آخر" ص68.

"تفاجأ أصحابي بكثرة أيامي،

دنوتُ فأفزعهم وجهي كغطاء النعش" ص72.

"السماءُ صفراءُ لأنها مرآةُ المفزوعين،

ولا عذرَ لهذا الفم الشفّاف،

لا مأمن للمستلقي هنا في ملجأ" ص74.

"في هذا المكان المقفل،

حيث لا أعرف أحداً،

ما خفتُ إذا استفاقوا

فأفزعتهم الظلمةُ التي مزّقت بمناقيرها حرير شعري،

أو أجفلتهم الأفواه التي أحرقت فراشي المحشوّ بالشوك

ولفّتْ بالألسن الطوال عنقي" ص80.

بالعودة إلى عنوان المجموعة، محلّ قراءتنا هذه، ولبيان كونه آلة وشعاراً مرئياً ومسموعاً، في نفس الوقت؛ علينا أن نضيء، غاية في تصعيد اللهجة البنيوية من جديد، كلّ ما هو مفكك: مرئياً كان أو مسموعاً. لقد "رفعوا بطرف الحربة عنواناً خاطئاً: الهاوية أو الجدار" ص17. 

حيث سمات النصّ الشعريّ الجِسام، لدى جولان حاجي، هي في كون المخيلة تتناهبها أو تتصارع فيها أصوات وصور في شكل ملغز لكنه شكل مضاءٌ بدرْبة شعرية نافذة، لا سبيل لتتويجها إلا بالغبطة. 

ففي مقابل الزحف الصُّوَريّ، على نحو مرعب، هناك فزع بشري وغير بشري ناتج، أيضاً، عن الميزان كآلة، وهو يَرجح، مرة واحدة وخاطفة وإلى الأبد، أو يَجفل و يَنزل إلى الأسفل، في شكل ضاج ومفزع وصارم وغير عادل، لا لعب فيه. 

إنه أذى، وليس "نملة يَحملُها ظلُّها". لا ألم، بل شِعر، في كون الظلّ عتالاً هنا. الألم يَعظمُ بالشعر، أيضاً، عند قراءة هذا مقطع النملة كلّه: 

نملةٌ يَحملها ظلّها

حملتني إلى قيلولة أمي

بعد أن جرّتني ساعاتٍ طوالاً

من قبر أبي" ص59.

ذلك الثقل، الذي ينزل، إنّما ينزل إلى أعماق النفس التي تعيش مصيرها الفردي والجمعي..، تسردُ الصور الجحيمية بقسوة لا تحدّ. كما لو أننا أمام رسومات جيروم بوش، لا أمام مقاطع فيديو من أعمال بيل فايولا التي استلهمها الشاعر ليكتب سلسلة مقاطع "ضوء في الماء"، وذلك بعد زيارته معرض فايولا الاستعادي في القصر الكبير بباريس سنة 2014، كما يشير في نهاية مجموعته. "لا مسخ أفظع منّي ليتجسّد فيّ" ص75، يقول الشاعر. 

هكذا، إذاً، يتجلّى الأذى كمتضاعف شعريّ في قصائد جولان حاجي، التي نُقبل على قراءتها انتصاراً لها، أولاً، كونها تمثيلاً بارزاً ووازناً للفنّ الشعريّ؛ يستحقُ، في هذا الزمان، الإحتفاء، ضدّ الأذى الذي لحق ولا يزال يلحق بالشعر، بسبب الموضوع السوري الذي تلعب به أيادٍ كثيرة مرئية ولا مرئية.

هل نختم هذه المقالة، إذاً، بشيء من قصيدة "الزناة" التي وددنا لو كانت فاتحة المجموعة؟

تلك القصيدة الطويلة التي تُفصح عن ذروة شعرية تُوصل إلى ذرى متتابعة. لكن صاحبها ترك لنا إشارات، في أخر كتابه الجديد هذا، حول عملية ترتيب "ميزان الأذى".

"اسمعيني، أنا خائفٌ،

تمثالٌ مقلوبٌ نُقِشَ في جبهته "مُتْ".

وهذا غباري يعلو هاتفاً كالأبكم في أذنيكِ،

لا تهلعي.

اسمعي الصوتَ يرفو جرحاً ثم يبلع الإبرة.

اسمعي العجلاتِ تمرّ.

النباحَ. الوشوشاتِ. حفيفَ الصنوبرات.

الأبواقَ. الألمَ. الهديلَ.

لن أكترثَ بعبور الكلمة.

سأستريح كقصاصةٍ في جيبي تحمل اسمَكِ،

وبيننا ملاكٌ أعمى يُغضبه الفجرُ

بيديه وهبْتِني هذه الأحجية،

هذا التلاشي" ص 41.

لكن يحلو لنا أن نختم الحديث عن "ميزان الأذى"، بمقطع سردي من مجموعة "الجرذان التي لحست أذنيّ بطل الكارتيه" (دار المتوسط، 2016) للشاعر والقاص الفلسطيني مازن معروف؛ باقتباس ما يدور تحت "أوضاع مروعة"، وهو أوّل عنوان فرعيّ لسرديةً من سرديات القسم الأخير في كتابه القصصي المَبنيّ، في جلّه، على مُتخيّل فانتازي مُغاير، فاتن وجارح؛ كونه يضرب في عمق الإنسان، والذي جعل عنوانه نفس عنوان القسم الأخير. 

"في المدرسة، تقول المعلمة للتلاميذ بأن يتخيلوا بأنهم في وضع مروع، وعلى أساسه يقرروا أي حيوان سيتحولون إليه؛ كي ينجوا بأنفسهم. التلاميذ الذين تتحدث إليهم المعلمة أطفال. في الرابع ابتدائي. ابني من بينهم. بُنْيتُه جيّدة نسبةً إلى باقي زملائه الصغار. لكنه يجلس دائماً في الزاوية، متكوراً على نفسه. يشبه البيوت التي تُطوى، ويكمن حملها في حقيبة على الكتف. لا أعلم إذا كانت بيوت كهذه موجودة حقأ، لكن ابني يشبه هذا النوع من البيوت بالفعل.

المُعلّمة توزّع على الأطفال صوراً لأهوال منتقاة بشكل عشوائي من مناطق مختلفة. بعضها حدث فعلاً، الآخر متخيّل. هي ليست صوراً فوتوغرافية، بل رسومات. كارتونز أهوال، بطريقة أقرب إلى البوب ستايل. حتى إن فيها شيئاً يدعو للارتياح. يدعو إلى التفكير بأنّ ثمة إنساناً واحداً على الأقل أنت ممتنٌ له. ممتنٌ له بالفعل، وتريد أن تنهض من كرسيك الصغير وتقول له "شكراً". كما لو أنها أهوال حدثت في شارعٍ فرعيّ صغير على كوكب آخر. كوكب بعيد جدّاً عن هذه المدرسة، والناس الذين يعيشون عليه مخلوقات من أقلام تلوين. وأنّ هذه الصور تسرّبت على يد جماعة فضائية ناقمة، تشبه جماعة ويكيليكس التي ستظهر بعد ثلاثين عاماً على هذه الحكاية. لو نظرت إلى تلك الصور، فلن تشعر بالهول أو الرهبة. لن تُحزِّقَ أو تشهق أو تتصلّب أو تطلب كوب ماء، أو تتمنى لو بقيت نائماً. لا شيء من هذا سيحدث لك، بل ستحسّ كما لو أن أحداً وضع مُفرقعةً صغيرة تحت مخيلتك، أو أن باباً صُفق بقوة قرب دماغك الذي ارتجّ كنبتة صبّار متشققة.

المُعلّمة تضع الصور أولاً على الطاولات أمام الأطفال، وعليهم أن يمعنوا النظر فيها. ثم تعيد توزيعها بطريقة أخرى. تكرّر الأمر ثلاث مرات أو أربع مرات. فأمامها كل الوقت. ساعتان ستكونان كافيتين جداً لثمانية أطفال؛ كي يتخيّلوا أوضاعاً مُروّعة، هم فيها، ثم ينتقوا الحيوان الذي يعتقدون بأنهم لو صاروه، سينقذون من المأزق. المُعلّمة تقدمُ لهم تلميحاً نفسياً للمساعدة: "تخيلوا أنكم مفزوعين. في أي مكان. في البيت، في الدكانة، في ملعب كرة القدم، وعلى مدخل المدرسة، أو حتى في حفلة عيد ميلادكم. ركّزوا على شعوركم بالفزع. اجعلوه هائلاً، وانتقوا مكاناً في الوقت نفسه. أيّ مكان يخطر ببالكم، وألّفوا قصة". 

مع ذلك، تضيف لتطمئنهم، وهي تثبّت عينيها على علبة بونبون بالفواكه والكراميل على الطاولة: "اعلموا فقط أن ما سوف تتخيلونه لن يكون حاصلاً في هذه اللحظة. ليس حاصلاً لكم. بل لآخرين. في مكان بعيد جداً من هنا. أما أنتم؛ فأنتم حقاً بخير حتى إن بإمكانكم تناول بونبون بالفواكه والكراميل متى شئتم". 

المُعلّمة تريد بالصور، التي وزّعتها على الأطفال، أن تجعل للأوضاع المروّعة التي سيتخيلونها سياقاً بريئاً نوعاً ما. تطلب منهم أن يغمضوا أعينهم، وأن يسردوا مُغمضين ما يتخيّلونه. والأطفال يمتثلون فوراً لأوامر المُعلّمة. أعينهم الصغيرة تُغلق بسرعة. ويسود الصمت. كما لو أنهم مُتحمسون للتعرّف على الشعور الحقيقي للفزع. وبعد دقائق، ينطلق الأكثر جرأة بينهم في سرد ما تخيّله. يقول إنه تخيّل نفسه يتسلّق شجرة، لكنه تاه بين فروعها وأوراقها الكثيفة رغم أن الشجرة صغيرة. لم يعد بإمكانه الخروج منها. يقول إنه يظنّ بأنه أصيب فعلاً بالذعر. إلا أن قصته تتوقّف هنا، لأنه في حيرة من أمره. يفتح عينيه عند هذه النقطة، ويقول إنه لا يعرف أيّ حيوان عليه أن يصيره؛ ليخلُص من هذا المأزق. لو تحوّل إلى قطة، فإن أخاه الكبير سينظر إليه من تحت، وسيقول له: "كيف هو مذاق القطة؟"، لأنّ أخاه دائماً هكذا. كلما صادف كلباً أو قطة، يبدأ التفكير فوراً في مذاق لحمها. "لا يمكنني أن أصير قطة. لو صرت قطة فسأخاف أكثر مما أنا خائف الآن"... 

إلى هنالك من أوضاع مروعة، تضرب في عمق الإنسان الناضج، يتخيلها أطفال آخرون لدى مازن معروف.