إميل حبيبي لمحمود درويش والياس خوري: أنا هو الطفل القتيل (٢/٢)

رمان الثقافية

مجلة ثقافية فلسطينية

وأنا متأكد الآن من أن القضية ليست في أسلوب الشعارات، كما يسمونه، إنما هي قضية صدق العمل الأدبي أو عدم صدقه. ولقد تمكنت، أثناء وجودي في الخارج، من أن أتعرف على الأدب الفلسطيني الحديث، وباستثناء كتاب يعدون على أصابع اليد الواحدة، فقد لاحظت أن العيب في أعمالهم، ليس الشعارات، بل هو بعدهم عن الحقيقة، إذ إنهم لا يكتفون فقط بعدم احترام لغتهم، بل إنهم لا يحترمون جغرافية بلادهم أيضاً، وكثيراً ما نقرأ قصصاً عن مدن وقرى فلسطينية، يظهر لنا فيها أن هؤلاء الكتاب لا يعرفون جغرافية هذه المدن والقرى.

للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
10 أفلام عظيمة عن الوحدة (ترجمة)
عن السيرورة والصيرورة

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

24/11/2017

تصوير: اسماء الغول

رمان الثقافية

مجلة ثقافية فلسطينية

رمان الثقافية

هذا القسم الثاني من المقابلة… لقراءة القسم الأول… هنا

في كتابك الأول «سداسية الأيام الستة» نلاحظ أن الأساسي هو الخبر وليس الشخصية. أي أن القصة تُخبر عن أبطالها ولا تقدمهم هم. كأننا أمام نص يشبه المقالة ويحمل حكمة الحكاية وفكرتها داخل قالب قصصي. كيف تفسر هذه الظاهرة؟

لا يمكن أن أنتقل من النتاج السياسي إلى النتاج الأدبي إلا حين يكون هناك إلحاح داخلي يدفعني للتفريج عن كربي في عمل أدبي، وأتوهّم أنني بهذا أشبه الشعراء. إذ يجب أن يثيرني حادث ما وأن أشعر حياله أنني لا أستطيع أن أعبر عن مشاعري بالمقال العادي. أما الشكل الذي أقدم به هذا الفيض من المشاعر، فلا يكون محدداً بطريقة مسبقة. الشيء الوحيد المحدد هو الالتزام بعدم تلويث اللغة والأسلوب. مثلاً: لقد هزني شكل اللقاء الذي تم بعد عشرين عاماً بين أفراد هذا الشعب الواحد، كما هزّني هذا الإهمال الذي لاقيناه والذي وصل حدّ النسيان والعداوة. ورأيت في «السداسية»، أن أعالج هاتين القضيتين المترابطتين: شكل الفراق وشكل اللقاء ومستقبلهما. وأعتقد أنني حققت أعمق التعبير في قصة واحدة في «السداسية» هي: «أم الروبابيكيا».

كل القضية هنا، كيف نظر إليها زوجها الذي هاجر وكيف تصرفت بشكل كان من الممكن التوهم أنه يشير إلى استسلامها، ولكنها كانت تحفظ كنوزها ليوم اللقاء، وحين جاء اللقاء، التجأوا إليها.


كما عبّرت عن لقائنا بتشبيهه بسجين كان طوال الوقت مسجوناً، وفي صبيحة أحد الأيام سمع صراخاً في ساحة السجن فسأل عن الخبر، فقيل له، اعتقلنا إخوانك التسعة، فحزن وابتأس وبكى، ولكنه حين التقى بهم بعد تسعة عشر عاماً في السجن، فرح بلقياهم واستعان بتجربته السابقة التي هي أكثر غنى من تجربتهم، في سبيل إطلاق سراحهم، وهو يعلم أن إطلاق سراحهم يعني فراقهم مرة أُخرى، ولكنه كان عوناً لهم.


كل «السداسية»، هي تعبير عن هذا اللقاء، وهي عتاب أليم جداً وباطني من الموقف الذي اتُخذ منا.

ثمة أُمور لا يستطيع السياسي أن يحتويها. لا أناقض نفسي ولا أتجاوز مواقفي السياسية في عملي الأدبي، ولكن هناك قضايا تتجاوز الأطر السياسية، وربما تكون أرضية للمواقف السياسية.

هل هناك تناقض بين السياسي والفنان فيك؟

أعتقد أنني أجبت على هذا السؤال حين أشرت إلى اكتفائي بالتزام الصدق. خذ مثلاً رواية «الجذور» لألكس هيلي. أنا قرأت الرواية وأعجبت بها، ولقد حاول كاتبها أن يكون صادقاً إلى مرحلة معينة، إلى مرحلة انتصار البرجوازية في أمريكا، وبعدها لم يعد صادقاً، حتى المصالحة التي تظاهر بها بين السود والبيض البرجوازيين غير صادقة.

أُعطي مثالاً آخر: لقد عالج نقاد يهود في إسرائيل «السداسية» و«المتشائل» بموضوعية لا بأس بها، وأظهروا إعجابهم بصدقها، ولكن النقد الذي أجمعوا عليه، (وهم صهاينة)، هو أنني غمطت قضية التفاهم اليهودي – العربي والنضال المشترك اليهودي – العربي حقه.

ومع اعتقادي بضرورة هذا النضال، فإن التزامي بالصدق لم يسمح لي بأن أضع قضية هذا العمل المشترك في الموضع البارز الذي نضعه فيه في الأدبيات السياسية. ففي «السداسية»، مثلاً، لم أستطع أن أكتشف التعاطف إلا عن طريق شرطية يهودية. وفي «المتشائل»، إذا كان هناك ثمة تعاطف، فهو تعاطف معلم سعيد ومضطهده يعقوب. ولقد أوصلني الصدق إلى أمر آخر في «المتشائل»، وهو أن مصلحتهما من حيث إنهما يتعرضان للاضطهاد نفسه تدعوهما إلى النضال المشترك، حتى وإن لم يكن هذا النضال قائماً في الوقت الحاضر.

هنا، مرة أخرى، أشعر أنني في التزامي الصدق في العمل الأدبي لم أنقض مواقفي السياسية، ولكن في حين يكون الرجل السياسي محتاجاً إلى الصمت أحياناً وإلى تجاوز الأخطار أحياناً أخرى، وإلى ما يسمى بالتكتيك والتنازل، فإن الالتزام بالصدق يجبر الأديب على عدم التنازل لهذه الضرورات.

هنا يطرح سؤال حول وعي الأدب الفلسطيني لليهود وللمجتمع الإسرائيلي، وكيف ترى انعكاس هذه الوعي في أدبك؟

نحن الذين بقينا في بلادنا وعشنا فيها، ولم يكن أمامنا، منذ اليوم الأول، ذلك الخيار المستحيل الذي عبّر عنه غسان كنفاني في قصته «رجال في الشمس»، حين كتب عن أولئك الذين لم يطرقوا جدران الخزان، خوفاً من انكشافهم ولأنهم كانوا يرغبون في الوصول إلى منطقة الأمان.. حتى هذا الخيار المأساوي لم يكن وارداً بالنسبة لنا، فإما أن ندق منذ اللحظة الأولى على جدران الخزان أو نزول.

ونحن حين نعتز بوعي جماهيرنا العربية في بلادنا، وبوحدة صفها وصمودها في أوضاع بالغة القساوة، فإننا نعرف أن هذا المستوى الرفيع من الوعي لا يعود إلى ميزات خاصة بهذه الجماهير، وإنما يعود في الأساس إلى أنه لا يوجد أمامها خيار حياتي سوى الالتجاء إلى النضال. ولذلك أيضا كان تعاملنا مع الجماهير اليهودية، هذا التعامل الحياتي الواقعي الذي لا بديل له سوى الانضمام إلى جيش النازحين.

التجأت إلى هذه المقدمة لكي أوضح أننا في هذا الإطار لا نتجاهل في أعمالنا الأدبية العلاقات اليهودية – العربية، غير أن أعمالنا هي تسجيل لواقع نحن غير مسؤولين عنه، وهذا الواقع يكمن في وجود انقطاع شبه كلي بين المجتمع اليهودي والمجتمع العربي في إسرائيل. المجتمع اليهودي هو مجتمع عنصري ومغلق لا يقبل بنا. إنهم يريدون دولة – غيتو يهودية.

وأستطيع أن أقول أننا نجهل المجتمع اليهودي على الرغم من أننا نعيش معه وفي وسطه منذ ثلاثين عاماً. لذلك، تلاحظون في أدبائنا أحد أمرين: إما التخوف من معالجة قضايا مجتمع لا يعرفونه عميقاً، أو تأتي معالجتهم سطحية وضيقة وشخصية ولا تعبر عن مميزات هذا المجتمع. وأنا شخصياً أتهرب من هذه المسألة، ليس لأن لديّ تحفظات سياسية، بل لأنني لا أستطيع أن أعالج هذا المجتمع بالمقياس الذي التزمته: مقياس الصدق.

إن الشيء الذي لاحظه النقاد الصهاينة على «المتشائل» هو أنني عالجت المجتمع الإسرائيلي دون مبالغات وبشكل مقنع. وقد كتب شمعون بلاص بما معناه أن هذا الكتاب سيكون تحدياً للدعاية الصهيونية فيما لو نجحت ترجمته إلى اللغات الأوروپية.

كيف ترى العلاقة بين عمليك الأخيرين: «المتشائل» و«لكع بن لكع»؟

عندما كتبت «المتشائل» أحسست أن هناك انفجاراً داخلياً يحصل، ولم أكن قد قررت أن أكتب رواية. يبدو أن لحظة معينة أتت فكتبت دون أن أعرف إلى أين سيكون الاتجاه. إنها تجربة سمحت للعقل الباطن بأن ينطلق. وكان هناك ملاحظة حول رجل الفضاء إذ إنني جعلت لرجل الفضاء وعياً، بينما يجب أن لا يكون كياناً منفصلاً عن نوات الشخصيات التي تحلم. ذلك أنني في بداية التفكير في هذه الشخصية كنت أريد أن أجعل منه شخصية مثالية، بعدما تبين لي أنه سيكون مجرد تعبير عن الوهم وليس انعكاساً له في كائن مستقل. هكذا ترى أن سياق الرواية الانفجاري هو الذي أعاد النظر في شخصياتها وأوصلها إلى حيث كانت.

أما في «لكع»، فأنني كنت في الواقع أكتب مسرحيات قصيرة غير مترابطة، وذلك خلال فترة تمتد إلى سنتين، وكنت لا أنهي هذه المسرحيات لأنني شعرت أنني أخوض في قضايا أنا عاجز عن الاستمرار في معالجتها، وهكذا حتى أتى يوم كتبت فيه القسم الأول من الفصل الثاني وهو بعنوان «تموت الحمير وتحيا الزريبة»، فأعجبتني الفكرة وأعجبني الأسلوب وشعرت أنني اهتديت أخيراً إلى الإطار الذي يصلح للتعبير عن التجربة التي أردت.

ولقد جابهتني قضية التشويق والصنعة، لأن الموضوع جاف وصعب، وأنا أعرف أن العمل المشوق هو ذلك العمل الذي له بداية وأوج والذي يتطور. ولقد توخيت هذا الأمر في «المتشائل» عن سبق عمد وإصرار، وأنا أعتبر هذا جزءاً من الصنعة الأدبية التي تهدف إلى الوصول للجهد والارتفاع به بجمالية. ولقد استعضت في «لكع» عن هذا النوع من الصنعة عبر اللجوء إلى السخرية والنكتة وعبر الالتجاء إلى الأسلوب الإدهاشي. المشوق هنا هو الاعتماد على النكتة المعتمدة بدورها على الرمز، ثم الاعتماد على النكتة حتى ولو ضاع الرمز. ولجأت من أجل التشويق إلى التقاليد الشعبية وإلى بعض الأعمال التي تعتمد السذاجة كالقرد والبوليس الذي يهاجم المسرح، وإلخ..

نلاحظ في «المتشائل» أنك استطعت أن تعطي لشخصية سعيد أبي النحس إيقاعاً شعبياً مدهشاً، غير أن مسار هذه الشخصية يصطدم بالبنية الداخلية للرواية، فالتحول الذي يحصل بعد رفعه العلم الأبيض يبدو منطقياً في الواقع ولكنه يبدو غير منطقي في الرواية. كيف تفسر هذا؟

لقد عشنا نحن تجربة ملموسة في مواجهة الاضطهاد الإسرائيلي، وأعتقد أن عناصر هذه التجربة غير واضحة لكم في الخارج. وأُعطي مثالاً على ذلك، مجزرة كفر قاسم، وكيف انعكست في الخارج. من الواضح بالنسبة لنا أن المجزرة لم تكن نتيجة خطأ في فهم الأوامر، وإنما نظمت بدم بارد، واعتماداً على مخطط خلاصته أن يجري في العام 1956 ما جرى عام 1967، وهو أن يقوم الملك حسين بالتظاهر في دخول الحرب ضد إسرائيل، كما جرى عام 1967. وقد اتهم الملك حسين، بعد أن أقال حكومة النابلسي، هذه الحكومة بأنها هي التي منعته من أن يخف لنجدة عبد الناصر. هكذا كان المخطط. وكان دخول الأردن الحرب سيقود إلى عدم اهتمام العالم بالمجزرة تماماً كما لم يهتم بمجزرة خانيونس التي وقعت أثناء العدوان الثلاثي.


وكان الهدف من مجزرة ترتكب في قرية على حدود الأردن، هو إجبار جميع السكان العرب في المنطقة على الهرب وترك قراهم. وقد عبّر عن هذا الغرض أحد نواب السلطة، آمنون لين، عام 1971، حين كتب مندهشاً أنه حتى مجزرة كفر قاسم لم تقنع العرب بأن عليهم أن يتركوا هذه البلاد.


إذن، فقد وقع اختيار مسبق على قرية عربية، واختاروا كفر قاسم لأنها القرية الوحيدة التي تعاونت اجتماعياً مع السلطة، ورفضت أن تبدي ولو الحد الأدنى من المقاومة السلبية. اختاروا اللقمة السائغة. ونحن ندعي أنهم لو اختاروا قرية مثل أم الفحم أو الطيرة أو الطيبة، لكان من الصعب عليهم تنفيذ المجزرة وبالمدى الفظيع هذا.


كيف وجدنا انعكاس المجزرة في فيلم «كفر قاسم» لبرهان علوية؟


لقد أظهر الفيلم أن اختيار كفر قاسم نابع من المستوى العالي للمقاومة التي أبدتها القرية ضد الحكم الإسرائيلي.


هذا هو الخطأ المأساوي.


العربي في إسرائيل لا خيار له، إما المقاومة أو أن يكون ضحية. وهذا ما وجد تعبيره الواعي في «المتشائل»، اختاروا قتل عملائهم، حتى سعيد أبو النحس لا مكان له في إسرائيل!

كيف تنظر إلى عملك الأدبي، كإبداع نضالي، وكيف ينعكس هذا في «لكع»؟

خلال وجودي في الخارج التقيت بالعديد من الفلسطينيين، من معارفي القدامى ومن الطلاب والسياسيين، وأنا أشكرهم لأنهم جاؤوني بقلوب مفتوحة، وهمّ مشترك، وهو أننا نريد أن نجد مخرجاً لمأساة الشعب العربي الفلسطيني. وسألوني عن تجربتنا، ووضعنا سوية أسئلة عديدة بالنسبة للحاضر والمستقبل، وعلى رأسها السؤال حول الأسباب العميقة التي جعلت الشعب العربي الفلسطيني غير قادر على تحقيق ولو جزء من أمانيه العادلة. وقد طلب إليّ العديد من الأصدقاء أن أكتب هذه التجربة، وكانت هذه هي المهمة التي قررتها لنفسي أثناء وجودي في براغ. وبدأت في كتابة رواية في هذا الاتجاه تعتمد على تجاربي الشخصية، ويمكن أن أسميها رواية تاريخية، وأنهيت بعض فصولها، واعتمدت فيها أسلوب الرواية التاريخية الكلاسيكية. ثم أدركت أنني عاجز في هذه المرحلة عن كتابتها، عاجز من حيث الإطار ومن حيث عدم قدرتي على تقويم الماضي تقويماً صادقاً في الوضع المتشابك القائم الآن، حتى انتهيت إلى إطار «لكع بن لكع». فـ«لكع» هي محاولة أدبية ويمكن أن نسميها ذاتية لتقويم التجربة وطرحها على الساحة العربية. إنها مكتوبة بوعي كونها موجهة إلى القارئ العربي من موقعي أنا ودون أن أتجاهل التحديات الأساسية التي تجابهنا. إنها تعبير عن التجربة ومشاعرنا، نحن الذين بقينا في بلادنا. ومن هذا المنطلق جرت معالجة مختلفة الظواهر، فيها العتاب الذي ظهر في «السداسية»، وفيها الحقد المقدس الدفين على الرجعية العربية، وفيها ملاحظاتنا على مواقف النضال الفلسطيني. ولقد هالتني في أثناء كتابة هذه الرواية قضية بسام الشكعة حين تجرأ الحاكم الإسرائيلي على أن يسأله: هل تبرر قتل الأطفال؟ إن مجرد قيام الحاكم العسكري وكل ما يمثله بتوجيه هذا السؤال إلى الشكعة وكل من يمثلهم هو أمر لا يستطيع الإطار السياسي وحده أن يرد عليه.

والآن أجد نفسي، مع ردود الفعل على «لكع»، أنني لم أنجح في الرد عليه رداً كافياً، غير أنني أردت أن أصرخ في وجه المحتل الإسرائيلي: «أنا هو الطفل القتيل». «لكع» هي عمل أدبي – سياسي أردت فيه أن أراجع موقفنا كشيوعيين أيضاً، وهدفي الرئيسي من «لكع» هو مقاومة الخوف المسيطر على نفسي في أن تذهب هذه التجربة المضيئة بما بذل فيها من دماء هباء.

ولكن كيف نفسر عدم تطور درامي في «لكع»؟

أعتقد أن التطور في «لكع» يأتي من تطور التجربة نفسها. وبما أنني قررت أن ألتجئ إلى الرموز، فقد اعتمدت التعبير عن هذا التطور في عناوين الفصول وفي الأسلوب نفسه. فمثلاً الفصل الأول الذي بعنوان «مجنونة بدر»، وهو تعبير عن ذلك التيار الوطني والشعبي الأصيل الذي ركز على الشهادة أسلوباً منفصلاً في النضال حتى درجة الجنون الرمزي. كما حاولت أن أعالج القضية التي تشغلني دائماً، وهي الثمن الباهظ الذي دفع ويدفع. ثم انتقلت إلى قضية الشهادة نفسها، وهنا لم أجد ما أواجه به الشهيد سوى كل الاحترام والمحبة والتقدير دون أي تحفظ، ووضعت الشهيد في مواجهة أولئك الذين يمثلهم. ففي هذا الفصل أيضاً، هناك تطور في الاستيعاب الذاتي للتجربة، والحقيقة أنني حين كتبت هذا الفصل والفصول الثلاثة، كنت أبحث عن أجوبة، ولم يكن لديّ أجوبة مسبقة حتى أتينا إلى الفصل الثالث الذي هو تعبير عن رؤيتي الذاتية لهذه التجربة. وهنا تأصلت قناعتي أن الحقيقة الأساسية بالنسبة للشعب العربي الفلسطيني هي أنه هو الضحية، والضحية تقاوم. 

ولقد اكتشفت، من خلال التزامي الصدق، أن الحياة معقدة، وأنه لا وجود لأجوبة محددة المعالم ونهائية، ولكنني هنا، وفي الفصل الثالث، توصلت إلى قناعة تقلقني قلقاً شديداً، وهي أن هناك خطراً على التجربة، أو على قسم كبير منها، من الضياع. وأطلقت صرخة من صميم القلب بلسان المهرج محذراً من هذا الخطر. وهنا كنت صريحاً حتى النهاية.

صحيح أنه لا يوجد تطور درامي في الرواية، وهذا من نواحي ضعفها الذي أعترف به، ولكني أعود وأكرر أن التطور ظهر في انعكاسات التجربة على المهرج وعلى بدور.

كيف ترى علاقة الأدب بالثورة، وكيف تُقوّم الأدب الفلسطيني؟

أود أن أحترز في البداية، وأقول أنني غير مؤهل لتقديم جواب شامل حول الأدب الفلسطيني الثوري، خاصة وأني تعرفت إليه فقط في السنوات الأخيرة، وبهذا أُخرج، ولأسباب ذاتية، أدبنا الذي يكتب في داخل بلادنا، ومع ذلك أود أن أبدي بعض الملاحظات عن انطباعاتي حول هذا الأدب.


يبدو لي أن العديد من إخواني يكتب على عجل. فإذا كان مشغولاً بمجالات النضال الوطنيّ الأخرى، فهذا واجبه، ولكن العمل الأدبي الناضج لا يمكن أن يكون في غفلة من وقت هذا المناضل، وتظهر العجلة في أمور عديدة أهمها أن الكاتب لا يتحقق من الوقائع الأولية في مسرح قصته أو روايته. حتى مجرد وقائع جغرافية وطبيعية وأسماء أماكن.. كما تظهر هذه العجلة أيضاً في الاستهانة بأدوات العمل الأدبي، وهي اللغة والأسلوب والشكل.

أنا واحد من الكتاب الذين لا يتعالون على ما يسمى بأدب الشعارات، فالخطأ، في نظري، ليس في استخدام الأدب للشعارات، وإنما كثيراً ما يكون الخطأ في الشعارات نفسها، وفي سطحية العمل الأدبي وعدم شجاعة الكاتب في التزام الصدق.

إن تجربة النضال الفلسطيني المسلح، وهي تجربة حديثة العهد، وكثيراً ما نلاحظ أن كاتباً فلسطينياً يتسرع في قطف ثمار هذه التجربة، فيقطفها فجة. وتدلني تجارب شعوب أخرى، بما فيها تجربة الحرب العالمية الثانية، وتجربة مقاومة الاحتلال النازي في أوروپا، أن أدب المقاومة لم يظهر إلا بعد أن اختمرت التجربة. وأستثني هنا الشعر، نتيجة دوره المباشر في مخاطبته الجماهير. ونحن، حين حاولنا، في بلادنا، تفسير ظاهرة ازدهار الشعر الوطني، وعدم ازدهار القصة والرواية، كان هذا هو جوابنا.

إنني أعتقد بأن الأدب الفلسطيني في هذه المرحلة، لا يستطيع أن يخرج من جلده ويظل صادقاً، أي لا يستطيع أن يهرب من القضية الفلسطينية أو من مجال الأدب السياسي، ولذلك، لا ألوم إخواني الأدباء الفلسطينيين فيما لا أستطيع أن ألوم به نفسي.


ما هي مشكلتنا إذن؟


مشكلتنا هي أن قضيتنا أكثر عمقاً من أن تقتصر على كونها مجابهة فلسطينية – صهيونية. إن هذه المجابهة، كما نعلم جميعاً، مرتبطة بقوى وعناصر متعددة ومتشابكة. ويبدو لي أن العديد من الأدباء الفلسطينيين يحاولون الاختباء في خندق هذه المجابهة كي يهربوا من مواجهة القوى والعناصر الأخرى.


هذا هو السبب الذي يجعل العديد من النقاد يجمعون على أن الأدب الفلسطيني الحديث، عموماً، هو أدب تحريضي وسطحي وغير ناضج. بل نلاحظ أن العديد من السياسيين الفلسطينيين هم أكثر شجاعة من العديد من الأدباء. بينما الأمر الطبيعي هو في أن يكون هذا الواقع معاكساً.


ما هو السبب في ذلك؟


لماذا كان علينا نحن وحدنا الإجابة على السؤال الذي يؤرقنا كأنه تأنيب الضمير، لماذا كان على هذا الشعب أن يقدم كل هذه التضحيات وأن يصمد كل هذا الصمود دون أن يجني ثمار نضاله؟ أنا لا أتجاهل الأمر الأساسي وهو أنه لا يمكن لوم الضحية، نحن الضحية. ومع ذلك، فإن مهمة الأدب الطليعي هي في أن يكون أكثر شجاعةً من سواه في الإشارة إلى النواقص، وذلك في سبيل أن تختمر التجربة ولكي لا تذهب هذه التجربة هباءً.


وملاحظتي الأخيرة، وليسمح لي العديد من إخواني المشتغلين بالأدب الفلسطيني أن أقولها، وهي أنه إذا كان انعدام الديموقراطية وحرية الكلمة هو درعهم الذي يتقون به ملاحظاتي هذه، فإنني أرى هذا الدرع مصنوعاً من جلد تمساح.

ما هي مشاريعك الأدبية القادمة؟


لم أضع في حياتي مشروعاً أدبياً مسبقاً إلا عندما كتبت «لكع». وأعتقد أن هذه الحقيقة هي مصدر الضعف الأساسي في هذا العمل الأدبي. لذلك، ليس لديّ الآن أي مشروع أدبي، وأتمنى أن أكتب، ولديّ ما أقوله، وإذا تحقق حلمي فسيكون عفو الخاطر وتعبيراً عن حاجة ذاتية ماسة.

هوامش

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
عن السيرورة والصيرورة
10 أفلام عظيمة عن الوحدة (ترجمة)

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع