في معرض الكتب الأخير في المدينة منذ عدة أشهر، جاء أحد الأصدقاء من مدينة أخرى بغرض حضور المعرض واقتناء بعض الكتب، كان سائق السرفيس قد سأله عن وجهته حين سأله عن عنوان المعرض، فقال له: حقاً! هناك من يسافر من مدينة لأخرى من أجل الكتب أيضاً.
"هيا نشترِ شاعرًا" هي رواية للبرتغالي أفونسو كروش، رواية قصيرة، أو قصة طويلة، لا فرق، المهمّ في هذا العمل هو مقدار الوجوم الذي سيُصيب القارئ فيما لو يقرأ الرواية، والذي سينضمّ إلى صفّ المتسائلين عن جدوى الشعر، وعن جدوى العمل الإبداعي بشكل عام.
هل هي بالفعل أمور غير ذات قيمة؟ هل هي نوع من الاغتراب عن الواقع؟ هل هي هروب من المسؤولية؟ هل الشعراء بائعو كلمات وحسب؟ وهل الشعر هدر للوقت؟
بطريقة ساخرة/ساحرة يلجأ أفونسو إلى طرح هذه الأسئلة من خلال أسرة غارقة في الأرقام والحسابات، وفي مدينة يبدو أنّ كلّ شيء فيها هو كذلك، تبدو للقارئ مدينة لما ستؤول إليه المدن الصناعية الكبرى في المستقبل، وربما مدننا نحن أيضاً في وقت من الأوقات، هذه المدينة يمكنك فيها شراء كلّ شيء حتى الشعراء والنحاتين والرسامين!
تذهب ساردة الرواية (فتاة صغيرة) مع والدها إلى متجر وتطلب منه شراء شاعر، ويوافقها الأب، بدعوى أنّ الشعراء (غير متطلّبين ولا يثيرون الفوضى) كما قالت أمها، فالشعراء لا يطلبون سوى دفتر، ورقة بيضاء وقلم، وهذا كلّ ما في الأمر.
تمضي الأيام بخير والشاعر يملأ البيت بالكلمات والكتابة والمجاز، ويصيبهم بـ "لوثة الشعر" ومع أنّ نهاية الشاعر تبدو مأساوية وهي تركه في الحديقة والرجوع دونه بعد الأزمة الاقتصادية إلى البيت، إلا أنّ الشعر الذي تركه في البيت يبدو أنّه أنقذ الجميع بطريقة أو بأخرى.
في هذا العمل حاول أفونسو أن يفترض بيئة للإجابة على تساؤلاته/نا عن قيمة الكلمة، الأدب، والفنّ، والإبداع، ربما ليلفت النظر إلى هذا الموضوع الجدليّ الكبير، والتساؤل عن نظرة السلطات إلى الأمر من باب الأمور غير المفيدة، وعدم تخصيصهم لميزانيات مناسبة للثقافة، واعتبارها من كماليات الحياة، وعدم الاستثمار فيها، وكأنّ أفونسو كروش يحكي عن دول العالم الثالث، أو عن الدول التي تمتلك ميزانيات ضخمة ويقتصر صرفها على الثقافة "من الجمل أذنه".
بعض السرد عن الشعر والثقافة... "الشعرمعر" الأمور غير ذات الفائدة
في حوالي العام 2008، كنتُ في دمشق، وككلّ الشباب الذين يعملون صيفاً ويدرسون في الجامعة إثر افتتاح الدوام في الخريف، وجد لي أحد الأصدقاء فرصة عمل، وكان العمل آنذاك في توزيع الجرائد بأحد أحياء دمشق الراقية، حيث كان المشتركون يجدون جريدتهم اليومية في صندوق بلاستيكيّ صباحاً، ليقرؤوها مع فنجان قهوتهم، كما عهدوها/ناها في الأفلام السينمائية، وكانت هذه الصناديق عند الكثير من المشتركين تمتلئ دون أن يقرؤوها أو يكترثوا لأمرها، ربما كانت الفكرة "أتيكيتاً" لدى الكثيرين، والبعض بطبيعة الحال يتصفّحها، والبعض حتما يقرأ ما يهمه في أحد الأعمدة والزوايا، وكنتُ أوزّع الجرائد لأكثر من مائة مشترك، وكان متوسط عشر نسخ تظلّ في جعبتي دون أن أضعها في صندوق الاشتراك، وذلك إما لأنّ أصحاب المنزل مسافرون أو لا يقرؤون الجريدة، فكنتُ بدوري أستبدلها عند الباعة بجرائد أخرى، ليتسنى لي قراءة عدة جرائد في اليوم الواحد، وتبعاً لاهتمامي طبعاً، وكنت أنا وصديقي الشاعر مستأجرَين، فنقرأ أنا وهو عن الثقافة والشعر والأدب ونتشارك في النقاشات حيال الثقافة.
لا أذكر التفاصيل بدقة، لكن أتذكر أنّ الشاعر لقمان ديركي كان له عمود ثابت في الجريدة، وهي عمود ساخر يتحدّث فيه الشاعر عن أمور عديدة ولأنّ العمود كان يومياً فإنّ التطرّق إلى الشعر والشعراء كان يتكرّر حتماً، وأتذكر كيف أنّه كان يتحدّث عن الشعر من خلال رؤية الأسرة له، حيث كان يقول فيها أنّ والده كان ينعت الشعر ويضعه في خانة (الأمور غير ذات الفائدة) وهو يصنّف ضمن "الشعرمعر" (صيغة تهكمية).
برز التساؤل حينها عميقاً، كنتُ سأجد أجوبتهم جميعاً في هذه الرواية لو أنّها صدرت آنذاك، وكنا سنقرأ "هيا نشتر شاعرًا" كما لو أنّنا نقرأ الجريدة اليومية، نقرأ الصفحة الثقافية، ونقطع منها مقالاً نحبّه، ونضع الباقي تحت الطعام كسفرة.
الحرب اليومية والشعر
في ظروف كالتي نعيشها في سوريا ثمة حرباً يومية، حرباً يوميّة حقيقية غير مجازية، حرباً تُسفك فيها الدماء، يموت فيها البشر ويتألمون كأي حرب قرأنا عنها في السابق. يكون السؤال عن جدوى الشعر مندفعاً إلى الأمام، ومن يقترف الشعر سيكون في نظر الناس كمن يقترف عظيماً.
نعم، وسط كلّ هذه الحرب، ينبغي عدم ازدراء الشعراء، عدم ازدراء الشعر، عدم ازدراء الفنون والأدب. منذ حوالي الشهر بادرت البلدية في المدينة مع فنانين بتزيين جدران المدينة بصور للروايات ودواوين الشعر، ومن خلال الصور الملتقطة بإمكانك رصد مشاعر الناس، فهناك من ينظر متهكّما، ومنهم من تلامس الجدران الملونة تلك شغاف قلبه ومنهم من يمتلئ قلبه بالجمال، ومنهم من لا يرى فيها ضيراً، ولا نفعاً ربما.
في أحد الشوارع التي تضجّ عادة بالمرفّهين عن أنفسهم، نحضّر -أنا وصديقي الشاعر- لافتتاح مكتبة وكافيه، قبل عدة أيام مرّ أحدهم بجانبي وقال (ومن سيقرأ أو يشتري هذه الكتب – مع عتاب وسماجة)، اكتفيت بابتسامة.
في معرض الكتب الأخير في المدينة منذ عدة أشهر، جاء أحد الأصدقاء من مدينة أخرى بغرض حضور المعرض واقتناء بعض الكتب، كان سائق السرفيس قد سأله عن وجهته حين سأله عن عنوان المعرض، فقال له: حقاً! هناك من يسافر من مدينة لأخرى من أجل الكتب أيضاً.