لطالما أشفقت على أولئك الكتاب الذين يُتلِفون حياتهم لفهم الحياة أو تفسيرها، وينسون أن الحياة للعيش وليست للفهم.. هم يعيدون ترتيبها فتغدو عندهم أجمل وأبهى، ولكنها من حيث النتيجة تتحوَّل حبراً على الورق، هذا اعتقاد سيطر علي وتحكَّم بي حتى أحببته واعتنقته، وبهذا كنت أجيب عندما كان يطلب مني أن أكتب.
وأنا أكتب هذه السطور تغير رأيي ودفعني إلى الكتابة أمران اثنان:
أولهما: إلحاح بعض الأصدقاء على أن أقدم شهادتي في الكثير من التفاصيل التي يصعب أن يراها من لم يعشها، كوني عشت داخل حدث أعتقد أنه أهم وأخطر ما جرى للفلسطينيين بعد نكبة عام 1948، وأعتقد أيضاً أن بإمكاننا تسميته بالنكبة الكبرى، فعلى الرغم من تهجير القسم الأكبر من الشعب الفلسطيني من فلسطين عام ثمانية وأربعين إلا أن الفلسطيني ظل مرتبطاً بقضيته عبر المخيمات التي ظلت حاضنة وطنية جامعة بالدرجة الأولى، ومنحت الفلسطيني فيها هوية رمزية من نوع خاص، وحافظت على روحه ووحدته.
إلا أن الخروج من المخيم مزَّق هذا الشعب وشتت قضيته، وستظهر آثارها السلبية في ما بعد إذا غضضنا النظر عن آثارها الكارثية المباشرة، من تدمير للمخيم وقتل واعتقال وتنكيل وتشريد وتشتيت لأفراد الأسرة الواحدة هذه المرة، ولا يمكنني أن أصدق أن هذا الأمر تم بفعل الصدفة التي وضعت المخيمات الفلسطينية وخصوصاً مخيم اليرموك في قلب الحدث السوري.
ثاني الأسباب: أنني قرأت الكثير مما كتب عن هذه المأساة ووجدته في معظمه يتعامل مع القضية بنوع من الشاعرية والرومانسية، وكأن الأمر قصيدة أو تأليف جميل في حين أن حقيقة ما جرى لا يمت لشيء بمقدار ما يمت للبشاعة التي يمكن أن يصل إليها نظام يحارب شعباً، ولا يتردد في محاربته وإذلاله بإصرار غريب لا يعني إلا شيئاً واحداً هو إرادة الإبادة بكل معانيها وأقسى أشكالها، وفي المقابل إصرار هذا الشعب على المقاومة والحياة إلى أخر رمق فيه والأمر هنا ليس صورة شعرية أو مجازاً بل حقيقة وواقعاً سأحاول الحديث عنه في سياق ما سيأتي.
لهذا لن أكتب في هذه المساحة المتاحة لي بل سأحاول أن أحكي حكايتي- بكل ما فيها من انتصارات وهزائم، وبكل ما فيها من حلم وخيبات أمل، وبكل ما فيها من ضعف ومن قوة- تلك التي عشتها وعاشها كثيرون غيري وبعضهم ما زال يعيشها بكل ما فيه من قوة حياة وتصميم- في مخيم اليرموك مع الثورة السورية منذ بدايتها حتى اللحظة، حكايته مع النظام السوري والفصائل الفلسطينية على اختلاف مواقفها وتحولات الموقف الفلسطيني الرسمي من القضية السورية عموماً، ومن قضية المخيم خصوصاً، وحكايته مع الثورة السورية وفصائلها المسلحة، أيضاً بكل ما فيها من خيبات ونكران.
سأطرح الأسئلة وقد لا تجدون الأجوبة عندي لأنني لا أمتلكها في الحقيقة، ولكنني سأطرحها على أي حال، ولعل الباحث عن جواب للسؤال الكبير الذي يؤرق الجميع يمسك بطرف خيط يوصله إلى مكان ما، ولعل ما سأحكيه سيلقي بعض الضوء على جانب من جوانب هذه المأساة التي لم يشهد التاريخ مأساة بقسوتها وبشاعتها في حدود معرفتي.
ما الذي حدث؟ ولماذا حدث كل ما حدث؟!
لكي لا يلتبس الأمر فإن تساؤلي ليس تساؤلاً في التاريخ، إذ إن للتاريخ أدواته التي لم أتمكن منها، وليس بحثاً في السياسة، لأنني لن أسهب في التحليل السياسي لكوني في الحقيقة لست سياسياً على الرغم من محاولاتي العديدة لحمل هذه الصفة، وكانت جميعها تبوء بالفشل تكراراً.
أحسَب أنني صاحب موقف، آمنت به، وحاولت جهدي أن ألتزم به وأدافع عنه على مر حياتي.. ولا أدري تماماً إلى أي حد استطعت أن أكونه ويكونني..
باختصار، هي حكايات الناس الذين عاشوها، وحكايتي من خلال ما عشته شخصياً وكنت شريكاً وشاهداً عليه..
كالكثيرين غيري أنا رجل أحب المخيم، وأحب سورية، ويحاول عملياً أن يمارس هذا الحب، فلطالما اعتقدت أن الحب دون أن نعيشه لا قيمة له، أنا رجل وجد نفسه في عين المعاناة فعاين تفاصيلها، وكان لقمة صغيرة طحنتها المأساة تحت أضراسها، وربما دفعته أحياناً إلى مواقع لا يحب أن يكون فيها، وألقت به أخيراً إلى ما لم يسعَ إليه أو يتوقعه في حياته، كغيره من آلاف الفلسطينيين الذين لكل واحد منهم روايته وحكايته ومعاناته الخاصة.
القلة القليلة تلك التي أدركت ما يُرسَم لمخيم اليرموك، والحق أنني لم أكن واحداً من هذه القلة، لم أدرك الأمر كما ينبغي في الحقيقة، لأنني لم أر إلا حلم كل سوري وقد بدا شاخصاً وعلي ألا أفوت فرصة نيل شرف المشاركة في صناعة تاريخ جديد لسوريا وربما للشرق بأجمعه، وكان هذا حال الجميع.
في ربيع عام 2011 لاحت بشائر الثورة من درعا، كانت هذه البشائر إيذاناً بإطلاق سراح مستقبل سورية وربما المنطقة كلها، هذا المستقبل الذي احتجزته عائلة لم يفكر أحد منها أن يكسب حب هذا الشعب الطيب، بل ظلت هذه العائلة مصرة على قمع الناس ومصادرة أجمل ما في الإنسان: حريته، بعد أربعين عاماً من القهر اليومي اتخذ هذا الشعب قراره بالنزول إلى الشارع لاسترداد حريته وكرامته، المشاعر ذاتها التي دغدغت قلوب السوريين دغدغت قلب كل فلسطيني، هو الحلم ذاته، حلم الخلاص، ولا غرابة في هذا فمنذ البداية تعامل النظام مع ثورة الشعب السوري بمنتهى العنف والهمجية وبدا الأمر على أنه صراع بين حق وباطل مما سهل على الجميع أن ينحازوا لأحد الطرفين، وكأن الأمر لا يحتاج إلى كثير من التفكير لاتخاذ موقف سريع مما يجري في سورية، ولا خيار أمام أحد، إما أن يكون مع الحق و إما أن يكون مع الباطل.
الحقيقة أنني خفت كثيراً من الاعتقال وجدت نفسي أمارس التقية، ولم أجد في الثانوية سوى “أم زاهر” الموجهة الشامية الوحيدة التي كانت مع الثورة، فاكتفيت بالحديث معها بعيداً عن أعين حمدة وعسسها
هذا ما طلب مني… حيث كنت مدرساً لمادة اللغة العربية في ثانوية عائشة بنت عثمان، وكانت هذه الثانوية في حي نسرين حيث الغالبية المؤيدة للنظام بحكم الانتماء الطائفي، كما يقولون في ( عش الدبابير) قالت لي الآنسة ( حمدة) ابنة (عين فيت): “أنتم الفلسطينين ينبغي ألا تقفوا على الحياد، عليكم أن تكونوا مع الدولة” والدولة هنا هي النظام، فقد كانت كلمة نظام شبه محرمة لأنها توحي عندهم بنفَسٍ معارض.
سألت لماذا؟ “لأن النظام قدم لكم أكثر مما قدم لنا نحن السوريين” وحمدة هذه كانت في الأصل مدربة لمادة التربية العسكرية، ثم صارت مشرفة على ما سُمِّي حينها بـ “لجان الوفاء والولاء”، وهذه اللجان كانت مكوّنة من الطالبات الأشد ولاء، ووظيفتها منع الطالبات من القيام بأية مظاهرة، هي لجان شبيحة خاصة بالطلاب، وأُعطيت هذه اللجان صلاحيات واسعة فاقت صلاحيات المديرة، فحضور الدروس عندهن كان اختيارياً، وبإمكان الطالبة منهن أن تخرج في الساعة التي تريدها من الصف، كانوا يعدون جيلاً من الشبيحة ويدمرون مستقبل وطن.
دفعت حمدة إحدى طالباتي لكي تسألني همساً عن موقفي الصريح مما يجري في سورية وتسجل ما سأقوله، كنت حريصاً على عدم الزج بالطالبات بطريقة قد تكون آثارها مدمرة لهذا الجيل، وفي الوقت نفسه أن أتابع رسالتي في تعزيز معاني الانتماء للوطن، قلت للطالبة يومها: لا يمكن أن أكون مع العنف والقتل، واللي بيقتل شعبه خاين. كان هذا يكفي لاصطيادي- فقد كان رأي حمدة منذ البداية أن يهدموا المساجد على رؤوس المتظاهرين- ولكنها وجدت فرصتها الذهبية للنيل مني عندما علمت أنني ألغيت درساً في القراءة كان يتحدث عن “السيد الرئيس بشار الأسد في كتاب القراءة”، قلت للطالبات اقرأنه في البيت، وتحججت بأن دروس القراءة ليست مهمة- وهذه الفكرة كانت شائعة في المدارس- والوقت ضيق وعلينا أن نستكمل منهاجنا الطويل.
هذا الموقف أجج عند حمدة مشاعرها الوطنية الملتهبة، فكيف يجرؤ أحد أن ينال من هيبة الوطن؟! ولا وطن عندها دون بشار الأسد، كتبت تقريرها الذي وصفتني فيه بالخائن وطالبت فيه بإعدامي وطردي من التعليم لأنني خطر على الطالبات، وهذا ما حدث فعلاً حيث مُنعت من التعليم الخاص في معهد الثانوية وفي المعاهد الخاصة، بعد تحقيق معي في المدرسة.
جاء رجل من الأمن السياسي إلى المدرسة وحقق معي، كان في الحقيقة مؤدباً على غير ما توقعت، ربما لأنهم كانوا يريدون أن يظهروا بهذا المظهر، وربما لأنهم أرادوا الذهاب بالأمر إلى آخره وهذا ما سأشرحه لاحقاً، قال لي: نحن مضطرون أن نوقفك عن التعليم بالمعاهد الخاصة. وأخبرني بأنه يحب أن يساعدني لأنه بعد السؤال والتحقيق في المدرسة وجدنا أنك شخص وطني جيد، ولكن لا تتدخل في هذه الأمور، ولم ينس أن يذكرني بمعاملة السيد الرئيس الحسنة مع الفلسطينيين.
الحقيقة أنني خفت كثيراً من الاعتقال وجدت نفسي أمارس التقية، ولم أجد في الثانوية سوى “أم زاهر” الموجهة الشامية الوحيدة التي كانت مع الثورة، فاكتفيت بالحديث معها بعيداً عن أعين حمدة وعسسها.
منذ البداية بنيت موقفي مما يجري على أنه في المرتبة الأولى أخلاقيٌ ثقافيٌ، فليس من المعقول أن تقف إلى جانب نظام كان أول رده على لعبة لعبها أطفال درعا حين كتبوا على الجدران متأثرين بالإعلام باقتلاع أظافرهم والتنكيل بهم!! ثم وفي الدقيقة الثالثة بإطلاق النار على محتجين وقتلهم لمجرد أنهم أرادوا محاسبة المسؤول عما جرى، عاطف نجيب، بل وأكثر من ذلك بمكافأته على إجرامه ووحشيته.
كانت هذه الفرصة التي جاءت ليرد الفلسطيني الجميل لهذا الشعب المضياف الذي استضافه دون شكوى أكثر من ستين عاماً.
سرعان ما توجهت أنظار الجميع إلى الفلسطينيين فعلياً ظناً منهم أن مشاركتهم ستغير كثيراً في المعادلة لصالح الشعب السوري بحكم تجربة الفلسطيني النضالية التي اكتسبها من خلال مشاركته في الثورة الفلسطينية من الأردن إلى لبنان، وبحكم خبرته التنظيمية فقد كان للتنظيمات الفلسطينية دور كبير في رفع الكفاءة التنظيمية الشعب الفلسطيني تاريخياً وهذه حقيقة لا أستطيع إنكارها.
ولكن المضحك المبكي في الأمر أنه إذا كان موقف الفلسطيني يتعارض مع موقف المعني فإنه سيقول له: أنت ما علاقتك بنا؟! هذا شأن السوريين بينما سيفرح الشخص ذاته لموقف فلسطيني آخر يتماهى مع موقفه.
هو ذا المخيم.
لم يكن مجرد قطعة أرض مساحتها لا تزيد عن كيلو مترين وبيوت متلاصقة وشوارع مكتظة بالناس.
المخيم حب ووجع، وجوع وشبع، وبرد، و”تسويكة” ودبكة وعراك… وحزن وفرح.
المخيم بشر وأحلام ولحم ودم ومشاعر.
المخيم حكايات وذكريات، حكاية كل أم تحب أولادها وتخاف عليهم من نسمة جارحة، وذكريات كل مراهق يترقب حلّة المدراس كي يحظى برؤية حبيبته من بعيد، وكل مراهقة تحب كلام الغزل، التقيا خلسة بعيداً عن أعين الرقباء، أو تبادلا النظرات والابتسامات على باب مدرسة ثانوية.
المخيم ألم كل أب يشقى لتحصيل رزق أولاده.
المخيم بشر طيبون وآخرون ليسوا طيبين.