“الوعي من الخارج” فكرة ارتبطت بلينين رغم أن قائلها هو كاوتسكي (قبل أن يرتدّ)، ولقد انطلق لينين منها وهو يحاول البحث في تأسيس الحزب الذي يعبّر عن البروليتاريا، واعتبر في كتابه “ما العمل؟” أنها مفصل فَهْم يفضي إلى الربط بين “المثقف” والبروليتاريا. ولقد جَهِد في توضيح ذلك.
فالبروليتاريا تعاني من “تخلف الوعي” نتيجة الظرف الذي تفرضه الرأسمالية عليها في العمل، ولأن جلّ الذين ينخرطون في صفوف البروليتاريا هم من الفئات المفقرة الريفية، أو محدودة التعليم، ولهذا فهي كبروليتاريا لا تمتلك الوعي الذي يؤهلها للتعبير عن ذاتها. ولا شك في أن ماركس أشار إلى “الحسّ السليم” لدى البروليتاريا، ولهذا فهي تعرف خصمها وتتلمس مشكلاتها، وهذا ما يجعل صراعها موجهاً ضد عدوها الطبقي: البرجوازية، لكنها لا تستطيع أن تبلور البديل الاقتصادي السياسي والمجتمعي عموماً الذي يحقق مصالحها، وليست قادرة على التنظّم أبعد من حدود موقعها في العمل، وبالتالي ليست قادرة على صياغة الإستراتيجية التي توصلها الى تحقيق تلك المصالح، والتي تقوم على افتكاك السلطة بالتحديد.
كل هذه المسائل لا تُنتج من عفوية، أو من وعي حسي، بل تحتاج إلى الفكر، الفكر الذي يسمح بفهم كلية الواقع، ويحدد المشكلات، ومن ثم يؤسس لبلورة إستراتيجية تفضي إلى حل تلك المشكلات وتحقيق مصالح البروليتاريا. هذا مستوى يتعلق بـ “العقل”، أي بالمستوى المعرفي الذي يعطي الأدوات لفهم الواقع وفهم آليات تغييره، ومن ثم يحدد إستراتيجية البروليتاريا في الصراع الطبقي من أجل أن تستولي على السلطة. وهو مستوى يقوم على التعلُّم والقراءة والمعرفة، وعلى جهد نظري من أجل تملُّك المعرفة وتأسيس الوعي. وهذه هي مهمة “المثقف”، مهمة المثقف الماركسي، الذي يفهم الماركسية بعمق، ويتملَّك منهجيتها، ويقوم بناءً على ذلك بالحفر في الواقع، وتأسيس “النظرية” التي تعبّر عن البروليتاريا بالتحديد، فهذا ما تفرضه الماركسية على معتنقيها، وتملُّك المنهجية يؤسس لذلك، ويحقق القطع مع المنطق الصوري ومصالح الفئات الوسطى التي ينتمون إليها. بالتالي يكونون قادرين على التحديد الدقيق لمصالح البروليتاريا، ولمشكلاتها، ومن ثم كيفية الوصول إلى حلها.
ما الذي يستدعي هذه الفكرة؟ بالطبع ليس النقل عن لينين، بل لأنها فكرة جوهرية، والسبب في تناولها هو ما يتكرر من قبل ماركسيين حول الثورات في البلدان العربية، حيث يصرّ هؤلاء على ضرورة وجود حزب ماركسي من طرف، وأن يكون هدفها القطع مع النمط الرأسمالي من طرف آخر
هم هنا ينطلقون من منهجية تبدأ بأنها تهدف إلى خدمة البروليتاريا. ولقد أشار إنجلز في كتابه الاشتراكية: الطوباوية والعلم، إلى أن “علمية” الاشتراكية، التي تعني “حتمية” تحققها، قامت على وجود البروليتاريا من طرف، وعلى “اكتشاف” الديالكتيك من طرف ثانٍ. فالديالكتيك هو المنهجية التي تفهم الواقع فهماً علمياً، وتتداخل مع صيرورته لتطوير قدرات البروليتاريا لكي تصبح هي “الطرف الفاعل” في الصراع الطبقي. فإذا كانت البروليتاريا هي الوجود الموضوعي لمجموعة تعمل في الإنتاج (والزراعة والخدمات)، وهي الكم من الأفراد الذي يقوم بعمل معيَّن، فإن تحوّلها إلى نوع، إلى طبقة، يتمثل في امتلاكها الوعي الذي يعبّر عن مصالحها، بما في ذلك الاستراتيجية التي توصلها إلى السلطة. فهي كطبقة لا تستطيع إنتاج “وعيها المطابق” نتيجة وضعها الذي يجعلها “بلا وعي”، أو بلا “ثقافة”، بلا معرفة. فهي تعمل كي تستطيع العيش ولا وقت لديها لـ “ترف” المعرفة. وهذا هو مأزقها كـ “طبقة في ذاتها”، الأمر الذي يفرض “تسرُّب” الوعي من الخارج.
“الوعي من الخارج” إذن تعني كفكرة أن من يستطيع فهم الواقع عموماً وواقع البروليتاريا بالتحديد، هم فئة من “المثقفين” الذين اعتنقوا الماركسية كمنهجية، وانحازوا طبقياً إلى البروليتاريا، ليتحوّلوا إلى مثقفين عضويين يؤسسون “الوعي المطابق” لمصالح هذه الطبقة، ويحددون الآليات التي تفضي إلى استلامها السلطة لفرض مصالحها كمصالح مهيمنة. بالتالي فإن “الوعي من الخارج” يطرح مهمة المثقف، المثقف الماركسي، وكيف يكون مثقفاً عضوياً وفق التحديد الغرامشي. المثقف الذي تمثّل المنهجية الماركسية وانخرط في النضال من أجل أن تنتصر البروليتاريا، لاعباً دور “العقل” لها، والذي يسهم في تطوير وعيها وقدراتها في سياق الصراع من أجل انتصارها. هو هنا يعرف “نقاط قصور” الطبقة، ويلقي على عاتقه مهمة تجاوز هذا القصور في ظل الانخراط في الصراع الطبقي ضمنها. ويعرف أن طرح الأفكار وتحديد المهمات والمطالب، وصياغة الرؤية والإستراتيجية، والشعارات، وخوض النضال الأيديولوجي ضد التيارات الأخرى، أنها مهمته هو، هو بالذات، فلا ينتظر أن تقوم الطبقة بذلك لأنها ليست قادرة عليه.
ما الذي يستدعي هذه الفكرة؟ بالطبع ليس النقل عن لينين، بل لأنها فكرة جوهرية، والسبب في تناولها هو ما يتكرر من قبل ماركسيين حول الثورات في البلدان العربية، حيث يصرّ هؤلاء على ضرورة وجود حزب ماركسي من طرف، وأن يكون هدفها القطع مع النمط الرأسمالي من طرف آخر. ولقد جرى نفي كونها ثورات لأنها عفوية بالتالي. ولكي تكون ثورات، من ثم، كان يجب أن تقودها أحزاب البروليتاريا، وأن يكون هدفها تجاوز النمط الرأسمالي.
ماركس وإنجلز ولينين وماو كانوا ينطلقون من أن “الظرف الموضوعي”، أي نشوء الصناعة و”تقابل” العمل ورأس المال، كان يفرض الصراع الطبقي بغض النظر عن وعينا بذلك، وعن دورنا فيه. فالاستغلال الطبقي كان يفرض “تمرُّد” البروليتاريا، هذا أمر لا علاقة لـ “المثقف” به، هو أمر موضوعي نتيجة التكوين الاقتصادي القائم على الاستغلال. وكان يؤدي إلى الثورة بمعزل عن دور “المثقف”، ولقد حدثت ثورات قبل الماركسية طيلة تاريخ وجود المجتمع الطبقي. وفي هذه النقطة يُطرح السؤال: هل نحن مع المفقرين، المسحوقين، البروليتاريا، الفلاحين والفقراء، أو نكون ضدهم؟
ولا شك في أن الإجابة الإيجابية من قبل ماركس وإنجلز ولينين وغيرهم هو الذي فرض التفكير في كيف تنتصر الطبقة المضطَهَدة؟ وهو الذي فرض على ماركس بناء كل منظومته الفكرية، وأن يكتشف منهجية جديدة (بالاعتماد على هيغل) من أجل أن تكون “منطق تفكير” البروليتاريا، وتسمح لها بأن تنتصر. هذا هو الأمر الذي أتى بفكرة “الوعي من الخارج”، وهي الفكرة التي تلقي على “المثقف” الماركسي الدور المحوري في بناء الرؤية والإستراتيجية والوعي المطابق، والحزب، وتنظيم البروليتاريا لكي تكون قادرة حين تثور لأن تنتصر. هنا يتحقق نقل العفوية إلى وعي، ونقل الوعي الحسي إلى وعي “عقلي”.
بالتالي فإن عفوية الثورات في البلدان العربية هي، بالضبط، نتاج تخلي “المثقف” الماركسي، وإنزوائه بعيداً عن الطبقة والصراع الطبقي. ومن ثم عدم مقدرته تحويل وعيه إلى رؤية وإستراتيجية وتنظيم هو الطبقة التي تعي مصالحها وتعي كيفية تحقيقها. فقد كانت الثورات لتنظيم ثوري من ماركسيين يعون الواقع، ويحددون للثورات شعاراتها وأهدافها، ويدفعون المفقرين لكي يقودوها من أجل أن تسقط الرأسمالية وتنتصر البروليتاريا.