العفوية والوعي والبروليتاريا

سلامة كيلة

كاتب ومفكر من فلسطين

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

19/11/2016

تصوير: اسماء الغول

سلامة كيلة

كاتب ومفكر من فلسطين

سلامة كيلة

ولد في مدينة بيرزيت في فلسطين سنة 1955. كتب ويكتب في العديد من الصحف والمجلات وأصدر العديد من الكتب التي تتناول بشكل أساسي الماركسيّة. عمل في المقاومة الفلسطينية ثم في اليسار العربي ، ولازال ينشط من أجل العمل الماركسي العربي. مطلوب للسلطات الإسرائيلية بتهمة العمل المقاوم. اعتقلته السلطات السورية بعهد حافظ الأسد من سنة 1992 إلى 2000، واعتقلته السلطات السورية بعهد بشار الأسد لمشاركته في الثورة صيف 2012 وتعرض للتعذيب في المخابرات الجوية، ثم تم ترحيله من سوريا إلى الأردن.

حين انفجرت الثورات العربية استند الموقف السلبي لليسار منها إلى أنها ثورات عفوية، بلا حزب “ماركسي” يقودها، ولا رؤية لتغيير يقطع مع الرأسمالية. هذا بالضبط هو اعتراض اليسار على الثورات كما هو معلن. ولا شك في أن الثورات كانت عفوية، فقد انفجرت دون “إشارات” مسبقة، ودون سؤال هذا اليسار لكي يأذن لها. لهذا تفاجأ أكثر مما تفاجأت النظم التي قامت الثورات ضدها.

هل هذه حالة طبيعية فيما يتعلق بالثورات؟ أي هل أن الثورات هي عفوية ولا تستأذن أحداً؟

كما تشير الماركسية، من ماركس وإنجلز إلى لينين وآخرين، فإن الثورة هي انفجار شعبي عفوي، ولقد درس ماركس وإنجلز ثورات سنة 1848، التي بدأت في فرنسا وامتدت إلى بلدان أوروبية أخرى، منطلقين من أنها العفوية، قامت بها البروليتاريا والفئات الوسطى، ودرس ماركس كيف هُزمت في كتابين له هما «صراع الطبقات في فرنسا» و «الثامن عشر من برومير بونابرت». ولم يُشر لوجود أحزاب سوى “أحزاب” البرجوازية. وأيضاً درس ماركس كومونة باريس التي صنعها العمال، وكان هو ضد أن يُقدم هؤلاء على الثورة خشية المجزرة، لكنه انخرط فيها حال انفجار الحراك البروليتاري، وأفضت إلى مجزرة. لم يعتبر ماركس أن ثائري فرنسا رعاع رغم غلبة الريف حينها، ولم يعتبر عمال باريس مغامرين رغم معرفته بالنتيجة. فماركس ينطلق من أن البروليتاريا يتطور وعيها وتكتسب الخبرة من الممارسة، من الانخراط في الثورة، الثورة التي هي نتاج واقعها الاستغلالي.

لينين كذلك. فقد انخرط في ثورة سنة 1905 العفوية والتي يغلب عليها الطابع الريفي كما أوضح في العديد من المقالات والكتب مثل «خطتا الاشتراكية الديمقراطية في الثورة الديمقراطية» و«إلى الفلاحين الفقراء». ولقد اعتبر أن على حزب العمال أن يضع إستراتيجية للثورة، بأن يحدِّد طبيعتها، ويحدِّد دور الاشتراكيين الديمقراطيين فيها. ولم يقل إنها عفوية ويقوم بها رعاع، وأن وضع الحزب لم يكن قد تهيأ لكي يقود الشعب. بل أنه عمل على الاستفادة من الثورة لكي يعزز الربط بين البروليتاريا والفلاحين الذين كانوا جوهر تلك الثورة.

كل هذه المواقف تنطلق من فكرة كتبها ماركس، هي التي كانت تحكم منظوره للصراع الطبقي، وللأسباب التي تفرض بناء حزب العمال، هي “أن الظروف المادية اللازمة لتحرر البروليتاريا هي عفوية تولدها سيرورة الاستغلال الرأسمالي” (رسالة ماركس إلى كارلو كافيرو). حيث إن الاستغلال هو الذي يولّد ميل البروليتاريا للتمرُّد، والثورة. هذا هو أساس فهم أن الصراع هو صراع طبقي، فهو ينتج عن التناقض بين طبقة تستَغِل وأخرى تُستغَل، وبالتالي ميل الطبقة المستغَلة إلى التعبير عن استغلالها من خلال الاحتجاج الذي يبدأ باعتراضات محدودة ليصل إلى الثورة.

فما توصّل إليه ماركس وإنجلز هو أن الطبقة المضطهَدة لا تمتلك الوعي نتيجة تشربها بالوعي الذي تعممه الطبقة المسيطرة، ولا تمتلك التنظيم، وأكثر ما تستطيع هو تأسيس النقابات أو الاتحادات أو التجمعات. ولهذا كان على “نخب” أن تعتنق الماركسية دور بلورة الرؤية والاستراتيجية والخطاب في ترابط مع العمال وبهدف تشرّب العمال الوعي وتنظيم نشاطهم بما هو أبعد من المطالب الاقتصادية، أي الاستيلاء على السلطة.

إن نظر الماركسية إلى الصراع الطبقي ينطلق من أنه “أمر موضوعي” ينتج عن الوجود الموضوعي للاستغلال الناتج عن تحكم الرأسمال. وكان ماركس يبحث في وضع نشوء الصناعة في أوروبا، وكيف أن الرأسمالي يستغل “قوة عمل” العامل من أجل إنتاج فائض قيمة، وهو يزيد في استغلاله من أجل الحصول على الحد الأقصى من هذا الفائض. وهذا ما يجعل العامل يعيش في وضع صعب، حيث الفقر والاستغلال نتيجة العمل الطويل، هو الذي يدفعه إلى التذمر، ومن ثم الاحتجاج، والإضراب، إلى أن ينفجر في ثورة.

هذا لبّ النظر الماركسي، لكنه يُطرح في إطار أوسع، إذ أن الأمر يتعلق بمجموع الشعب الذي يتسم بتعدد الطبقات وليس بثنائيتها. لهذا تنطلق الماركسية من فهم وضع مجمل الطبقات، حيث إنه كلما زاد تمركز الرأسمال انحدرت الفئات الوسطى، وزادت أعداد العاطلين عن العمل. ولهذا يتشكّل وضع تناقضي مركب، ورغم أن الطبقة التي تحتكر الثروة هي ذاتها (الرأسمالية) فإن المتضررين منها هم من طبقات متعددة، لكل منها مصالحه. وهي كلها تميل إلى الاحتجاج، والتمرّد، والثورة. هذا هو الأمر الذي يفضي إلى الثورة العفوية.

وهذا هو منظور الماركسية التي تعتبر أن الصراع موضوعي، ويفرض ثورات عفوية بالضرورة. وكان همّ ماركس (وكذلك إنجلز ولينين) يتحدد في فهم دور الفكر والتنظيم في تطوير هذه الثورة من أجل أن تنتصر وتحقق مطالب الطبقات الثائرة. هذا ما طرح مسألة الماركسية كمنهجية وكرؤية ونظرية تمثّل العمال، وطرح مسألة الحزب منذ تشكيل عصبة الشيوعيين إلى الأممية الأولى والثانية، ونشوء الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية فالشيوعية. فما توصّل إليه ماركس وإنجلز هو أن الطبقة المضطهَدة لا تمتلك الوعي نتيجة تشربها بالوعي الذي تعممه الطبقة المسيطرة، ولا تمتلك التنظيم، وأكثر ما تستطيع هو تأسيس النقابات أو الاتحادات أو التجمعات. ولهذا كان على “نخب” تعتنق الماركسية دور بلورة الرؤية والاستراتيجية والخطاب في ترابط مع العمال وبهدف تشرّب العمال الوعي وتنظيم نشاطهم بما هو أبعد من المطالب الاقتصادية، أي الاستيلاء على السلطة.

في كتاب “الاشتراكية: الطوباوية والعلم” يوضح إنجلز أن تحقيق الاشتراكية بات أمراً “علمياً”، أي واقعياً وحتى “حتمياً”، نتيجة نشوء الطبقة العاملة، وتبلور “عقلها” الذي هو الجدل المادي. وبهذا بات للفكر والتنظيم دور حاسم في تحقيق النقلة النوعية في الصراع الطبقي نحو حسمه لمصلحة العمال باستيلائهم على السلطة. هنا تكمن “رسالة الماركسي”، ويتحدد دوره. ويصبح كل فشل للعمال هو أصلاً فشل له. فالصراع الطبقي قائم، وهو ينفجر بين الفينة والأخرى، خصوصاً مع تأزّم الوضع الاقتصادي وميل الرأسمالية لزيادة النهب والاستغلال. فالظروف التي تفرضها الرأسمالية تؤدي بالضرورة إلى تصاعد الاحتقان، وتزايد الاحتجاجات، ومن ثم الثورة.

وإذا كانت الرأسمالية قد “رشت” العمال في المراكز، فقد زادت من استغلال الأطراف، ووسعت من نهبها ومن استغلال الشعوب، وهي تعود اليوم إلى محاولة استغلال العمال في المراكز ذاتها بعد تعمّق أزمتها. وهذا هو الأمر الذي جعل الثورات تقوم في الأطراف، من روسيا القيصرية إلى الصين، وفي آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. وهو الأمر الذي فجّر الثورات العربية، بعد أن جرى نهب الاقتصاد وتصعيد الاستغلال ومركزة الثروة.

هي ثورات عفوية، من جموع الشعب بكل ما اتسم به نتيجة انهيار التعليم والفقر والتهميش، دون وعي سياسي حتى لدى شباب الفئات الوسطى التي ظهرت كمحرك للثورات. وربما كان ذلك هو وضع ثورات سنة 1848 الأوروبية، وثورة 1905 الروسية. ولقد هزت النظم، وجعلت السلطة عاجزة عن الاستمرار، وفتحت على عملية تسييس واسعة. هذه نتائج مهمة، خصوصاً ونحن نلمس أنها إتُبعت بوضع ثوري لشعب كسر حاجز الخوف، ومصمم على الاستمرار لأنه لم يعد يستطيع العيش في الوضع الذي كان فيه. هنا تظهر الحاجة للماركسية وللحزب الماركسي، لكن ماذا كان موقف “الماركسيين”؟ الوقوف ضد الشعب، الجاهل، الرعاع، السلفي، وكل المصطلحات التي تظهر تحقيراً له من “نخب” متعالية، نرجسية، ومشوهة.

لهذا تعامل هؤلاء عكس منظور ماركس، حيث اعتبروا أن الثورة تبدأ بقرار منهم، بعد أن يكملوا التخطيط والإعداد، ويعطوا طلقة الانطلاق. أو بعد أن يصيغ الشعب، البسيط (أو الجاهل، الرعاع، حسبهم) رؤية متكاملة ويقرر بناء الاشتراكية دون دور فكري موكل إليهم. لقد تخلوا عن دورهم معتبرين أنه ينتج من الشعب ذاته. واتخذوا دور “الناقد”، أو “الرداح”، بالضبط لأن الثورة كانت عفوية، بلا حزب، ولا رؤية، ولا قرار بإسقاط الرأسمالية. والأسوأ أنهم وضعوها في خانة المؤامرة.

لقد ظلوا يتحدثون عن “الإمبريالية” و”التحرر الوطني”، والاستقلال، دون التفات إلى الشعوب التي تعاني الفقر والبطالة والقهر، ودون معرفة بأن الوطني مبني على الطبقي وليس العكس. وأن مواجهة الإمبريالية، وتحقيق “التحرر الوطني” والاستقلال، تتم فقط في مواجهة النظم التي تمثّل رأسمالية مافياوية تترابط وتتداخل مع الإمبريالية، وهي التي تكرّس التبعية. وهنا نعود إلى ماركس، وأساسية الصراع الطبقي، فهو الذي يمثل التناقض الرئيسي الذي يجب حسمه.

أوضحت الثورات أن الصراع الطبقي قد تفجّر، وإذا لم ينتصر الشعب في المحاولة الأولى، هناك بالضرورة محاولة ثانية وثالثة، نتيجة أن الشعب لم يعد قادراً على تحمّل الوضع الذي هو فيه، وباتت النظم عاجزة عن الحكم بالشكل الذي حكمت فيه. وإذا كان قد كسر حاجز الخوف، وليس من الممكن أن يعود إلى الوراء، تبدو المشكلة الجوهرية في “النخب”، في “الماركسيين”، حيث لا بد من ماركسيين معنيين بأن يكونوا عقل العمال والفلاحين الفقراء، وأن يبلوروا رؤية تخصهم، وإستراتيجية تقودهم للانتصار. وأصلاً تنظيمهم لكي يصبحوا قوة فعلية قادرة على حمل مشروع الاستيلاء على السلطة.

هنا تكمن جدلية العفوية والوعي، وكذلك العفوية والتنظيم، التي منها يصبح الطبقة العاملة والفلاحون الفقراء قوة متماسكة، منظمة وتعي ما تريد. وحينها يصبح انتصار الثورة حتمياً.

إذن، ليست الأزمة في عفوية الثورات التي انفجرت في العديد من البلدان العربية، فقد فرض انهيار وضع الطبقات الشعبية المعيشي ذلك، حيث لم تعد تستطيع العيش، وباتت عاجزة عن تحمُّل ظروفها، ولا في “تخلفها” وتهميشها و”وعيها التقليدي”، فوعي المجتمع هو نتاج وعي الطبقة السائدة كما أشار ماركس. الأزمة في الماركسي الذي كان ينتظر أن تبلور هذه الطبقات الوعي البديل والمشروع البديل، وأن تحدِّد ساعة الصفر بعد ذلك. الأزمة في الماركسي النرجسي الذي يترفع عن الشعب، والذي يهتمّ بـ “القضايا الكبرى” مثل “الصراع ضد الإمبريالية” بالخطابات، وكيل الإتهامات، والردح.

الكاتب: سلامة كيلة

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع