بيروت التي تحكم الخناق على سكانها وتحفظ لهم هامشاً من الحرية على الدوام، احتضنت قبيل جلسة الانتخاب الرئاسي عرض حنان الحاج علي المسرحي المونودرامي “جوغينغ”، درامتورجيا: عبد الله الكفري، وكتابة وأداء: حنان الحاج علي التي قدمت مسرحيتها دون الحصول على موافقة أمنيّة، في ستيشن بيروت حيث تم اتخاذ إحدى صالاته كفضاء للعرض الذي ذيلته الحاج علي بتوصيف “مسرح قيد التطوير”.
بالرغم من أن حنان وحيدة على الخشبة الفارغة، يتجلى في العرض حشدٌ من الأمهات، كل واحدة منهن لديها خصوصيتها وحياتها المفارقة، إلا أنها تتقاطع مع البقية بوصفها أمّاً تنحت في الألم. تبدأ حنان من حياتها الشخصية، فتتوجه إلى الجمهور بكلامها في بداية المسرحية، وتعرّف عن نفسها بوصفها مواطنة لبنانية أصيلة، تحمل الجنسية الفرنسية، ومتزوجة من المخرج المسرحي اللبناني روجيه عساف. تقوم كل يوم بممارسة الجوغينغ (رياضة الهرولة) في بيروت، فتثير المدينة فيها الشجون نفسها لما وصلت إليه من تلوث بيئي وضيق معيشي وفساد سياسي.
يختلط الشخصي الحميمي مع الاجتماعي السياسي في حديثها. تتذكر بعض الشخصيات النسائية الخالدة من التاريخ المسرحي وتتوقف عند “ميديا” بطلة “اوربيدس” الأسطورية، وهي شخصية مستفزة ومثيرة ومحببة في الآن ذاته بالنسبة لها. تسرد قصتها وتتوقف عند لحظة ذروة فيها، وهي لحظة قتل ميديا لإبنيها انتقاما من زوجها. عند هذه النقطة تتساءل حنان: هل يمكن لأم أن تقتل أبناءها “مهما تفصحن اوربيديس والآلهة اللي خلقوه!” فتتذكر أنها تمنت الموت لإبنها بمنتهى الحب وهو بعمر السبع سنوات عندما كان مصاباً بالسرطان، وذلك بسبب عجزها أمام مرضه وخوفها عليه وعدم قدرتها على رؤيته وهو يتألم، وكي “تؤمّن عليه” وتريحه من العذاب. تنزع حنان عن ميديا طابعها الأسطوري وتعيد تقديمها بقالب لبناني. تبحث عن مثيلات لها في المجتمع اللبناني وتجد أن مثيلاتها كثر، فميديا مازالت موجودة في مجتمعاتنا “الحديثة” ومازالت تقتل أبناءها عند كل ظهور لها.
تقرأ حنان في آخر المسرحية رسالة أرسلها ابن زهرة الثالث لأمه قبل أن يُقتل، مفادها أنه سيُقتل بتهمة الخيانة والعمالة لرفضه أوامر إطلاق النار على المدنيين العزّل، وأنه يفضل الموت مظلوما على أن يكون ظالما، ويرفض الشهادة إذا كانت ستأتي عن طريق حرب كالتي جُر إليها، ويدعو أمه أن لا تلبس ثياب الحداد عليه وأن تتبرع بأعضائه للمحتاجين.
ظهرت ميديا مرة أخرى في العرض عندما قدمت حنان شخصية ايفون، وهي أم من جبل لبنان لثلاث بنات، يعمل زوجها سائس خيول في الخليج العربي. تقرر ايفون إنهاء حياتها وحياة بناتها، لأسباب غير معروفة بالضبط، فتقوم دون أن يشعر أحد ما بترتيب أدق تفاصيل مشهد انتحارها مع بناتها، تقدم لبناتها سلطة فواكة مسمومة دون أن تخبرهم طبعا أنها مسمومة. تضع كاميرا لتصور المشهد، وتسجل شريط فيديو سرعان ما ستختفي نسخته الوحيدة في دوائر الدولة، ولكن جملة واحدة مما قالته ايفون أمام الكاميرا تسربت من الشريط : “رحت وأخدت بناتي معي لحتى ما يعيشو العذاب اللي أنا عشتو ولحتى أّمّن علين”.
تقرأ حنان رسالة، يفترض أنها تمثل ما قالته ايفون أمام الكاميرا قبل انتحارها مع بناتها بقليل، وتخبرنا بعدها أن الرسالة التي قرأتها هي الرسالة التي كتبتها الكاتبة الانكليزية “فرجينيا وولف” لزوجها قبل أن تنتحر. ثم تقدم تصورها الخاص عن ما يمكن أن تقوله ايفون أمام الكاميرا، فتدهن وجهها بالكريم الأبيض وتؤدي مشهدها أمام الكاميرا الموضوعة على يسار الخشبة.
تنتقل أخيرا إلى تجسيد شخصية زهرة، وهي امرأة من الجنوب اللبناني، متزوجة من رجل يخونها بعد قصة عشق ونضال طويلة، ولديها منه ثلاثة أولاد. تمثل زهرة حالة “ميديوية” ولكن بطريقة أخرى، فأولادها الثلاثة قتلوا ولم يكن لها يد في مقتلهم، اثنان منهم عام 2006 في الجنوب اللبناني أثناء العدوان “الإسرائيلي” على لبنان، والثالث عام 2013 في الشمال السوري.
تقرأ حنان في آخر المسرحية رسالة أرسلها ابن زهرة الثالث لأمه قبل أن يُقتل، مفادها أنه سيُقتل بتهمة الخيانة والعمالة لرفضه أوامر إطلاق النار على المدنيين العزّل، وأنه يفضل الموت مظلوما على أن يكون ظالما، ويرفض الشهادة إذا كانت ستأتي عن طريق حرب كالتي جُر إليها، ويدعو أمه أن لا تلبس ثياب الحداد عليه وأن تتبرع بأعضائه للمحتاجين.
بذلت الحاج علي ــ وهي الإمرأة الخمسينية ــ جهداً بدنياً كبيراً في المسرحية، إذ قامت بممارسة تمارين ليونة جسدية، وهرولت في أجزاء عديدة من العرض دون أن يظهر عليها التعب، وبالإضافة إلى كل ذلك خلقت ببداهة عالية مساحة لتفاعل الجمهور معها، عبر توريط بعض المشاهدين بالاشتراك بأكثر من مشهد في اللعبة المسرحية، ناهيك عن صوتها الرخيم وأدائها المتماسك الذي يدل على خبرتها المسرحية الطويلة.