عانى روّاد مهنة التمثيل عند العرب صعوبات عديدة، لم تقتصر على النبذ الاجتماعي، أما في وقتنا الحاضر فقد صارت مهنة التمثيل، على صعوبتها، ميزة يسعى الكثيرون إليها. إنها مهنة حديثة العهد عند العرب إذ لم يظهر المسرح -وهو الظاهرة الاجتماعية الأولى التي أتاحت ظهور الممثل- إلا متأخراً، ودخل لإثبات نفسه في صراع غير معلن مع التلفزيون والسينما اللذان غزيا العالم في القرن العشرين.
لعل الممثل يشكل ظاهرة اجتماعية في وقتنا الحالي تحتاج إلى دراسة وتحليل عميق، فبعد النفور الاجتماعي فيما سبق، صار له دوراً حتى في المجال السياسي بشكل مباشر، والأمثلة على الممثلين الناشطين والمشتغلين في الحقل السياسي كثيرة، خصوصاً بعد دخول منطقتنا في مرحلة الربيع العربي وتفجّر أسئلة الهوية.
يمارس التمثيل غواية شديدة التأثير على المتلقي وعلى الممثل في الآن ذاته، يذهب ببعض الممثلين إلى حدود تغيب فيها ملامحهم السيكولوجية والجسدية أحياناً وتظهر ملامح الشخصية المؤداة إلى العيان. مثلما يخفي المرء آراءه أو يختفي وراءها، على الممثل أن يذهب إلى الشخصية أو أن يدعها تأتي إليه، وهنا ينبثق سؤال حرج لدى الممثل: متى عليه أن يكفّ عن كونه ممثلا؟ فالحدود السيكولوجية دائما مائعة وغير قابلة للإحاطة، وغواية التمثيل قد تصل بالبعض إلى مكان مغلق يصعب الخروج منه، وقد يتحول التمثيل إلى هوس دائم.
بعد أن رأى نرسيس الأسطوري وجهه على صفحة المياه، فتن بجماله واعتكف على نفسه يتأملها، كان وعيه يرتد على نفسه باستمرار ونظرته تتوسل نفسها. هذا الافتتان والاعتكاف على النفس نراه عند الممثل أيضاً، مع فارق أن نظرة الممثل لا تتوسل نفسها فقط، بل تتوسل نظرة الآخر أيضاً.
أشار نيتشه ذات نص إلى مقولة لممثل فرنسي من القرن الثامن عشر يدعى فرنسوا جوزيف تالما، تقول “ما يريد أن يبدو حقيقيّاً، لا ينبغي له أن يكون حقيقيّاً” ورأى أن هذه المقولة تعبّر عن مجمل سيكولوجيا الممثل، وعن أخلاقيته أيضاً، إلا أن الحديث هنا ليس عن الأخلاق وإن كانت جزءاً من الموضوع.
على الممثل أن يصل بقدرته على المحاكاة إلى حدودٍ قصوى، فالمحاكاة تحيله على الإحساس، لكن عند الوصول إلى هذه النقطة يكفّ بعض الممثلون عن بذل الجهد، إذ الإحساس بمشاعر ما أثناء التمثيل يعزز وهماً عند الممثل الرديء مفاده أن العمل السيكولوجي على الشخصية المأدّاة وصل إلى منتهاه. باختصار، يمكننا القول، إن الكسل المعرفي وضحالة الخبرة السيكولوجية تشكل سماتاً أساسية من سمات الممثل الرديء، تمنعه من الغوص في أعماق النفس وتحدّ من إمكاناته.
قد يصيب الممثل البارع زملاءه دون قصد بالتصحر بدل الاخضرار، وقد يبدو في نظرهم ملهِماً نازلاً من السماء لا حاجة لديهم في منافسته، بل يبدو أن لغرور الممثل الرديء مصلحة في الاستمرار بالاعتقاد بالإلهام، كما لو أن العمل الفني يظهر بشكل مفاجئ من نور الإلهام، إذ لا يصنع العمل الدؤوب فرقاً.. ومن الممكن أن يكتفي الممثل الرديء بالعمل على سمات عامة للشخصية، أن يصطنع مشية ما ويتكلم بنبرة غريبة وأن يسمّي عمله هذا خلقاً لإنسان. ناهيك عن إغفاله للقضايا والمفاهيم والأفكار (كأنها أمور لا علاقة لها بتكوين الإنسان) وتركيزه على المشاعر، خصوصاً الجميلة منها. وربما من المفيد هنا أن نستعين بمقولة أندريه جيد عن الأدب الرديء التي يقول فيها “إن المشاعر الجميلة تصنع الأدب الرديء” فننسج على منوالها ونقول: إن المشاعر الجميلة تصنع الممثل الرديء.
بطبيعة الحال، لا توجد وصفة سحرية تجعل من أحد ما ممثلاً، أو تجعل من ممثل ما ممثلاً بارعاً، حتى مناهج تعليم التمثيل، ابتداء من منهج “الواقعية النفسية” الذي وضعه كوستانتين ستانسلافسكي وترك أثراً كبيراً وحقق انتشاراً واسعاً في مجاله، وصولاً إلى أيامنا هذه، لا تقدم هكذا وصفة، بل تقترح أسلوباً للعمل، ولا تجيب على سؤال من هو الممثل؟ إذ لا وجود أساساً لممثل يمكن أن يقدًم على أنه الممثل، لأن التمثيل بطريقة ما يعني التجدد والحركة، وأي تعريف للممثل سيجازف بالحد من أفقه.
لا شك أن الممثلين جديرون بالإعجاب والتقدير، منذ بدء المسرح عند قدماء اليونان حتى الآن، إلا أن الممثل الرديء يبقى مثيراً للريبة والحذر، وليس جهله وتبسيطه للمسائل السيكولوجية إلا واحداً من دواعي الحذر والريبة.