في رواية «الموت عمل شاق» للروائي والسيناريست السوري خالد خليفة الصادرة عن دار نوفل عام 2016، أعمال شاقّة عديدة ليس الموت إلا واحد منها، وهي أعمال شاقة لأن الزمن الذي تدور فيه أحداث الرواية (زمن الثورة السورية) يطفح عنفاً وبؤساً وقسوة، إذ استخدم النظام السوري كل ما طالت يداه من أشكال العنف أمام نزوع أبناء الثورة إلى الحرية، موظّفاً كل قدراته التدميرية في مواجهتهم، فكان لكل عائلة سورية نصيبها من المآساة الكبرى التي وقعت وما زالت مستمرة.
“الحرب تمتحن قدرة الكائن على الاحتمال”، وفي لحظة ما تفتتها، تمضي الرواية ببطء ومشقّة، تعيش شخوصها حربا تفوق قدرتها على التحمّل، تختبر هشاشة الروابط العائلية من جهة ومتانتها من جهة أخرى، تسائل الذات عن علاقتها بالآخر وتفتت مفهوم النصر والهزيمة.
بإمكاننا أن نرى في الرواية بحثا دؤوبا عن الذات، ومواجهة للمخاوف، أن نتلمّس جدران العزلة ونسلط الضوء على فعالية الحب وأذيّته، أن نرسم مساراً للجسد الآدمي، يمر بالتكريم كما يمر بالإهانة. ينتقل السرد في الرواية من مكان/زمان إلى آخر دون أن تفلت خيوط الحكاية، إنها حكاية مريرة مكتوبة بالدماء.
قُسّمت الرواية إلى ثلاثة فصول وأتت في 150 صفحة، تبدأ من عهد يقطعه الابن الأربعيني بلبل لأبيه عبد اللطيف السالم قبيل وفاته، مستجيباً لوصيّة دفنه في العنّابية، ضيعته الحلبية التي خرج منها قبل 40 عاماً واستقرّ في ضيعة “س” التي يفصلها عن دمشق كيلو مترات قليلة، طلب عبد اللطيف أن يُدفن بجانب أخته ليلى التي أحرقت نفسها ليلة عرسها قبل 40 عاماً، احتجاجاً على زواجها من رجل لا تحبه.. تنتهي الرواية بدفن الأب في ضيعته دون أن تكتمل الوصيّة، إذ تم دفن الأب بعيداً عن أخته في قبر منفرد، في زاوية بعيدة من المقبرة، إلا أن الرحلة التي قطعها بلبل بصحبة أخيه حسين وأخته فاطمة تنفيذاً للوصيّة، لن تمر دون دفع أغلى الأثمان.
عند مجيئه إلى بلدة “س”، كان أهل القرية ينادون عبد اللطيف بالعنّابي، ثم صاروا ينادونه بالاستاذ عبد اللطيف، عاش معهم أربع سنوات من الثورة، اهتم بتنظيم أمور المقبرة التي ضمّت الكثير من أبناء القرية المقتولين على أيدي النظام، شارك في كل المظاهرات، عاش أيام الحصار الخانق الذي فرضه النظام على أهلها، اضطر للخروج منها أخيراً بسبب تردي وضعه الصحي وعاش آخر أيامه مع ابنه البكر بلبل في بيته الكائن في حي من أحياء دمشق موال للنظام. “كان هذا الأب يستحق ابن ثورة شجاعاً كالدكتور نزار” الذي تعرّف عليه في بيت ابنه بلبل حيث تشارك عبد اللطيف والدكتور الكثير من أحاديث الثورة، تكلّموا عن أيام الحصار في بلدة “س” وراقبوا الأحداث السياسية والعسكرية متفائلين بقرب سقوط النظام.
بعد وفاة الأب، ذهب بلبل إلى أخيه حسين الذي امتدّت القطيعة بينه وبين العائلة لسنوات عديدة بعد خلافه مع أبيه وخروجه عن سلطة العائلة، كان حسين يعمل سائق “ميكروباص”، جاءت أختهم فاطمة معهم ووضعوا جثة الأب في “الميكرو باص” الذي يعمل عليه حسين وبدأوا رحلة تنفيذ الوصيّة.
بعد أربع سنوات من القتل والتهجير في سوريا “لم يعد الموت فعلاً يستدعي الانفعال، بل أصبح خلاصاً يثير حسد الأحياء”، مشى “الميكرو باص” في دمشق حيث “كل سكان المدينة ينظر بعضهم إلى بعض كموتى مقبلين”، انتظر الأبناء على حواجز النظام، عند حاجز الخروج من دمشق تم “تفييش” هويّاتهم، وكان الحدث المفصلي الأول في الرحلة حين اعتقل عناصر الحاجز جثة الأب لكونه مطلوباً لأكثر من فرع مخابراتي. بعد ساعات أُخلي سبيل الجثة والأولاد وخرجوا من دمشق ليكملوا الرحلة. “ماذا تعني جثة الأب؟ كان السؤال قاسياً لكنه حقيقي” لدى الأبناء، صار “الموت عملاً شاقاً” وفقدت القصص المأساوية بريقها لدى السوريين.
كان على الأبناء قبل الوصول إلى العنابية اجتياز حواجز الجيش الحر وحواجز فصائل إسلامية متشددة أيضاً، لن تنتهي الرحلة قبل أن يذوقوا شتّى أشكال العذاب. عند حاجز لفصيل إسلامي متشدد سيتم اعتقال الإخوة ثم سيهربون بعد قصف النظام للبناء الذي اعتقلوا فيه وفرار عناصر التنظيم من المكان، وعند حاجز لفصيل متشدد آخر قريب من العنابية، يتم اعتقال بلبل بعد فشله في اختبار الأسئلة عن شؤون الدين الإسلامي التي اجتازها “حسين” بنجاح، يتم إخلاء سبيل بلبل بعد توسّط عمه الكبير نايف لدى الفصيل المتشدد، إلا أن الأوان كان قد فات، صار الإفراج عن بلبل أمراً غير ذي أهمية بالنسبة إليه، كان في حينها غارقاً في الصمت، لا يكلّم إلا نفسه.
تعرّضت جثة الأب أثناء الرحلة التي امتدت لثلاثة أيام للتفسّخ وبدأ الدود يخرج منها، لحقت كلاب شاردة “الميكروباص” كي يأكلوا الجثة بعد أن انتشرت رائحتها، وتعارك حسين وبلبل، كان عراكهم غير مفاجئ، فالقطيعة التي كانت بين الأخوة تجذرت أثناء الرحلة، تكدّست ضغائنهم وصار واحدهم لا يعني شيئاً للآخر غير كائن ينبغي أن يزول ليكمل الآخر الحياة، أصيبت فاطمة بالخرس بعد بقاءها في “الميكروباص” برفقة الجثة المتفسّخة لعدة ساعات أثناء اعتقال أخويها عند التنظيم الإسلامي المتشدد، تناسى حسين كل شيء وحاول استعادة عافيته، دخل بلبل آخر الأمر في صمت مطبق، وعاد في النهاية إلى بيته في دمشق، “شعر بأنه جرذ كبير يعود إلى حجره البارد، كائن لا لزوم له ومن الممكن التخلّي عنه بكل بساطة”، كان الخوف الذي ازداد وتغلغل في أعماقه هو الأكثر تأثيرا عليه.
“الموت، إنه طوفان رهيب يحيط بالجميع” وبالرغم من ذلك أو بسببه، فقد الأخوة أثناء رحلتهم كلّ تهيّب أمامه، “لم تعد الجثة تعني لهم أي شيء، يستطيعون تقديمها لجوقة كلاب جائعة دون إحساس بالندم”، قطعت آخر الروابط العائلية بينهم وانتهت الرحلة.
مضى السرد بحركة دائرية في الرواية، بعد سرد جزء من الرحلة يعود مرات عديدة إلى الوراء ليتكلم بإسهاب عن بعض شخوص الرواية في أزمان مختلفة، ثم يعود لإكمال الرحلة.. قد لا تخبرنا الرواية أكثر مما نعلم عن المأساة السورية، ولكن بإمكانها أن تضعنا بجرأة أمام أسئلة المعنى وسط الخراب، أن تشرّح القهر وتحثّ على مقاومة أنظمة العنف.
التأكيد على قيمة الحياة، الحفر في الذاكرة، تسليط الضوء على فعالية الحب، مواجهة الخوف والطغيان، التأريخ للثورة السورية، وغيرها من العناوين، كلها مفاتيح لقراءة «الموت عمل شاق». إنها عمل يحتفي بالحياة، ينتصر لكرامة الإنسان ويؤكد على نزوعه للحرية.