بعد هزيمة حزيران 1967 تراجع الخطاب القومي وتقدم الخطاب الوطني الفلسطيني، وتعزز الخطاب الماركسي، وغالباً ما تضافر الخطابان؛ الوطني والماركسي معاً. وقد ترك هذا كله أثره على تشكل صورة اليهود في الأدبيات الفلسطينية. وهكذا ظهرت (موتيفات) لم تكن حضرت من قبل.
سوف نقرأ في الأدبيات الفلسطينية المنجزة إثر الهزيمة عن جندي إسرائيلي يحلم بالزنابق البيض (محمود درويش) وتختلف صورة هذا الجندي الإسرائيلي اختلافاً بيناً واضحاً عن صورته في الأدبيات الفلسطينية المكتوبة قبل الهزيمة. ولو توقفنا أمام قصة حنا ابراهيم “المتسللون” لوجدنا جندياً يخدع حتى زوجته ويكذب عليها، فهو حين يشارك في قتل المرأة الفلسطينية العائدة، تسللاً، إلى قريتها، يزعم أنه قتل مخربين. إنه جندي قاتل لا جندي يحلم بالزنابق البيض.
كان محمود درويش في الحزب الشيوعي الإسرائيلي حين كتب قصيدته وكان له صديق إسرائيلي ضد سياسة دولته وضد المشروع الصهيوني وهو (شلومو ساند) فكتب قصيدته من وحي تلك العلاقة. إن الكتابة عن جندي إسرائيلي يحلم بالزنابق البيض أثارت ضجة بلغت ذروتها في المقدمة التي كتبها يوسف الخطيب لديوان الوطن المحتل.
ومع الأيام وجدنا الكتابة عن جندي إسرائيلي مضلل ومستغل من قيادته الصهيونية تظهر في أشعار الشيوعي الفلسطيني معين بسيسو، فقد كتب هذا، في أثناء حرب الاستنزاف قصيدة عنوانها “نلقاكم في كشوف القتلى على قناة السويس “.
إن ما يختلف هنا في كتابة درويش وبسيسو يكمن في أنهما كتبا عن جندي ضحية. لا عن يهودي عادي مضلل. وسنلحظ أن بعض الكتاب بدأوا يميزون بين اليهودي والإسرائيلي، مثل هارون هاشم رشيد في روايته “سنوات العذاب” 1970، فلم يعد يكتب عن اليهود، مبرزاً لهم صورة واحدة، كما كان يكتب في أشعاره قبل 1967. بل وسنجد لازمة جديدة تظهر هي لازمة “اليهودي الفلسطيني”.
قبل 1967 كنا نقرأ عن يهود عرب، كما هو لدى كنفاني والنشاشيبي، وهنا، بعد 1967، سنقرأ عن يهود فلسطينيين يشعرون بأنهم فلسطينيون بالدرجة الأولى، وأن انتماءهم هو انتماء لشعبها لا للصهيونية. ظهرت هذه اللازمة لدى الروائي محمود شاهين في روايته “الهجرة إلى الجحيم” ولدى الروائي أفنان القاسم في روايته “الباشا”. في رواية شاهين نقرأ عن يهودي فلسطيني يريد تربية أبنائه من زوجته الفلسطينية تربية فلسطينية. وفي رواية القاسم تعيش المرأة في القرية مع بقية سكانها دون تمييز وتعتز بفلسطينيتها.
كان كنفاني كتب عن يهود صفد باعتبارهم عرباً، وكتب النشاشيبي عن دماء عربية تجري في شرايين سارة، وأما، الآن، فيكتب الكتّاب عن يهود فلسطينيين. قبل هزيمة 67 كان الكتاب يرون في اليهود ضحايا الحركة الصهيونية، وبعد الهزيمة ستتعزز لازمتان هما: اليهود العرب هم ضحايا الحركة الصهيونية، واليهود الفلسطينيون هم كذلك. وستبرز هاتان اللازمتان في كتابات كتاب الداخل والخارج وقد كان لقرار إدانة الصهيونية في سبعينيات القرن الماضي أثر واضح على الكتاب. لو نظرنا في رواية غسان كنفاني “عائد إلى حيفا” لرأيناه يكتب معارضاً الفكر الصهيوني الذي يشعر بالتفوق على الآخرين، وسيدحض كنفاني أسطورة التفوق هذه.
ينطلق كنفاني في كتابته عن الذات والآخر، في هذه الأثناء، من منظور ماركسي، فقد تحول مع الجبهة الشعبية إلى الماركسية وتبناها كما تبنتها. اليهود ليسوا أفضل من غيرهم. إنهم كما الآخرون، وإن لجأوا إلى التضليل وشعروا بالاستعلاء. ولم يكن كنفاني الكاتب الوحيد الذي كتب من منظور ماركسي، فهناك كاتبان آخران -بل كتاب كثر- انطلقا في كتابتهما من المنطلق نفسه ونظرا إلى الصراع من المنظور ذاته. إنهما سميح القاسم وأفنان القاسم.
كتب سميح مسرحية عنوانها “المطعم” ذهب فيها إلى أن العرب واليهود كانوا يعيشون معاً ولم يفرق بينهم سوى الإنجليز، ثم كتب حكايته الأوتوبيوغرافية “إلى الجحيم أيها الليلك” عام 1977 ورآى أن اليهود هم ضحية النازية، ودعا إلى التعايش وتقسيم فلسطين إلى قسمين بين اليهود والفلسطينيين -أي لنا ولكم، لا لكم كلها ولا لنا كلها- وتبنى بوضوح أفكار الحزب الشيوعي الإسرائيلي الذي انضوى تحت لوائه، وصاغ أفكار الحزب وطروحاته في حكايته. وفي قصته الطويلة “الصورة الأخيرة في الألبوم” عام 1979، واصل بث ما آمن به، ليس اليهود كلهم سواء، والمجتمع الإسرائيلي مجتمع فيه تناقضات عديدة، هناك يهود ضحايا وهناك يهود غربيون متغطرسون يضطهدون العرب واليهود الشرقيين. وربما تعد مقولة سميح التي ظهرت في حكايته الأوتوبيوغرافية ملخصاً جيداً لتصوره اليهود وغيرهم في هذه الأثناء. والمقولة هي:
“ًسام أو حام أو يافط، هذه الأمور الإثنولوجية لا تعنيني كثيرا”
هل اختلف أفنان القاسم المقيم في باريس، لا في حيفا، عن سميح المقيم يومها في حيفا؟ يكتب أفنان، على لسان بطله، في روايته “المسار”، حين يخاطب البطل زنجيا يرضى أن يكون مضطهداً، يكتب التالي:
“قلت لك: إني شرير، شرير هارب، وهم يتربصون بي… ليست القضية قضية أسود أو أبيض، ولا جلد أسود وجلد أبيض، ولا أفكار أمٍّ تعسة ضالة وأفكار شركة لتصدير واستيراد الرق، ليست القضية زنجي يدعى كذلك، أو عربي يدعى كذلك، أو يهودي يدعى كذلك، إذا بنيت على هذا الأساس فهي من الأصل خاطئة”. ويقيم أفنان القاسم تصوره اليهود على هذا الأساس.
والخلاصة أن الخطاببن؛ الوطني الفلسطيني والماركسي تركا أثرهما على صورة اليهود في أدبيات هذه المرحلة بشكل واضح.