ماذا لو تتبع قارئ روايات غسان كنفاني وقصصه ومسرحياته أثر قراءاته في تشكيلها؟
ربما لم يثر هذا السؤال من قبل إلا على خجل، ولكن دارسي أعماله ومترجميها، مثل رضوى عاشور ومحمد صديق وفيحاء عبد الهادي وعز الدين المناصرة والسويسري هارتموت فيندرش، أجابوا عنه فيما كتبوه عن أعماله وصلتها بالآداب العالمية، وكان غسان نفسه في المقابلات التي أجريت معه أجاب على قسم منه.
في إحدى المقابلات سئل عن تأثره برواية وليم فوكنر “الصخب والعنف” فلم يخفِ قراءته للرواية وإعجابه فيها وتأثره بها أيضا، وقد تتبع دارسون عديدون جوانب التشابه بين الروايتين (عاشور والمناصرة)، وذهب قراء آخرون، مبالغين، إلى أنه لم يتأثر وحسب بل سرق الفصل الثاني من “الصخب والعنف” (محمد سناجلة وحول ذلك أنظر مقالتي: “هل سرق كنفاني فوكنر؟ جريدة الأيام الفلسطينية ٢٨ / ٣ / ٢٠٠٠ ).
وكما تتبع دارسون عديدون تأثره بفوكنر تتبع آخرون أوجه التشابه بين “عائد إلى حيفا” ومسرحية برتولد بريخت “دائرة الطباشير القوقازية” ( فيندرش كتب بالألمانية عن “عائد إلى حيفا” مقالا عنوانه “دائرة الطباشير القوقازية بالعربية”)، كما أشار قسم ثالث من الدارسين إلى أن الأم في رواية “أم سعد” تذكر برواية مكسيم غوركي “الأم”.
لم يلتفت إلى مسرحيات غسان بالقدر نفسه الذي التفت فيه إلى رواياته، ومع ذلك فإن قارئ المسرحيات ومنها “الباب” و “القبعة والنبي” لا يستطيع أن ينكر تأثره بالأدب الوجودي الذي ترجم في خمسينيات وستينيات القرن العشرين إلى العربية وأسهمت “دار الآداب ” البيروتية في نشره. إن فكرة العبث واللاجدوى وفكرة الانتظار اللامجدي في المسرحيتين المذكورتين غير بعيدتين عن أعمال سارتر وكامو وصموئيل بيكيت.
كل ما سبق التفت إليه ولكن ما لم يلتفت إليه إلا نادرا وقليلا هو انعكاس قراءاته للأدب الصهيوني في رواياته.
يكتب دارس ألماني ألّف عن غسان كنفاني كتيّبا عنوانه “غسان كنفاني: حياة فلسطيني” (١٩٧٥ ) الآتي:
“إن التشابه البنائي بين شتات فلسطين وشتات اليهود، الغربة و galut، قد بولغ فيه من الحركتين الفلسطينية (؟) والصهيونية. وعلى أية حال فليس هناك شك في أن هناك ثمة تشابها جزئيا بينهما. فثمة تشابه قوي إلى حد ما بين الطريقة التي وصف فيها كنفاني أرض فلسطين في قصصه، وتحديدا في المهمة المطلقة للعودة مهما كانت التكاليف والنتائج بالعواقب وبين الكتاب الصهيونيين الأوائل” (استيفان فيلد: حياة فلسطيني، ترجمة عادل الأسطة، نابلس ١٩٩٦، ص ٩) .
لقد ركز دارسو “رجال في الشمس” على حدث قتل أبطالها ذاهبين إلى أن كنفاني قصد أن أي حل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين يكمن في عودتهم إلى فلسطين لا بعيدا عنها، تماما كما رأى زعماء الحركة الصهيونية أن حل المشكلة اليهودية يكمن في إنشاء وطن قومي لليهود لا في ذوبانهم في المجتمعات التي يقيمون فيها. ولا يخفى أن غسان الذي قرأ الأدبيات الصهيونية وكتب عنها لاحظ ذلك. قد يكون تأثره هنا تأثرا غير معلن عنه، تأثرا خفيا غير مباشر، ولكن تركيزه على هذه الفكرة لا يختلف عن تركيز الحركة الصهيونية على فكرة عودة اليهود إلى فلسطين.
يبدو أثر قراءات كنفاني للأدبيات الصهيونية في رواياته أوضح ما يكون في رواية “عائد إلى حيفا” ( ١٩٦٩) وكتبت هذه الرواية بعد هزيمة حزيران ١٩٦٧، وكان قبل الهزيمة قرأ الأدب الصهيوني قراءة دارس وكتب عنه .
إن الأدبيات الصهيونية مثل “اكسودس” لليون اوريس و “لصوص في الليل” لآرثر كوستلر ركزت على شخصية اليهودي الفاعل المتفوق على غيره والمتعالي عليه وبأنه -أي اليهودي – يتسم بالعصمة وأنه الجدير بأرض فلسطين، فالعربي فيها عاجز عن الفعل وكسول ومتواكل وبالتالي لا يستحقها. من هنا جاءت رواية كنفاني لتدحض هذه المقولات.
في “عائد إلى حيفا” يخاطب دوف الذي تبنته عائلة يهودية وعلمته أن العرب قتلوا والديه، فخدم في الجيش الإسرائيلي، وتربى بذلك تربية صهيونية، يخاطب والده البيولوجي سعيد . س بعبارات كان كنفاني قرأها في الروايات الصهيونية التي قرأها وخلص إلى أنها تعكس الفكر الصهيوني، وقد اختارها عناوين رئيسة لكتابه “في الأدب الصهيوني” (١٩٦٦) . العرب عاجزون لا يفعلون شيئا وينتظرون ويظلون ينتظرون. إنهم مقيدون بسلاسل تشدهم إلى الماضي ولا يتقنون سوى الالتفات إليه والبكاء عليه، ولهذا فسعيد . س الذي ترك هو وزوجته في غمرة حرب ١٩٤٨ ولده خلدون دوف ظل ينتظر ٢٠ عاما لم يفعل خلالها أي شيء. في هذه الأعوام ، كما تقول الأدبيات الصهيونية، حقق اليهود معجزتهم المتمثلة، من وجهة نظرهم، بإقامة دولتهم وتحويل فلسطين من صحراء خربها العرب، خلال سيطرتهم عليها، إلى جنة تدهش الرائين حتى من الفلسطينيين أنفسهم، ومنهم صفية زوجة سعيد . س وأم خلدون التي اندهشت بما رأت، والكتابة عن معجزة اليهود في بناء دولة على غرار دول أوروبية متقدمة بدت في رواية ثيودور هرتسل (١٩٠٢) “أرض قديمة – جديدة “.
إن تصور الشخصيات الصهيونية للعرب، في الروايات الصهيونية، هو ما تلخصه آراء دوف فيهم .
ما سبق كله هو في صميم الأدبيات الصهيونية التي قرأها كنفاني، ولو قارنا رواياته مثلا بروايات كاتب فلسطيني ثان كتب في تلك الفترة هو جبرا ابراهيم جبرا ، وعلى الأغلب أنه لم يقرأ الأدبيات الصهيونية، فلم يكن له اهتمام بهذا الجانب ، للاحظنا بوضوح ما ذهب إليه عنوان هذه المقالة. صور جبرا حياة الفلسطيني المثقف في المنفى، المثقف البعيد عن دائرة الصراع والحالم بالعودة إلى فلسطين. بل يمكن أن نقارن روايات كنفاني بروايات كاتب فلسطيني ثان هو ناصر الدين النشاشيبي. لقد أصدر الأخير في ستينيات القرن العشرين روايتين هما “حفنة رمال” و”حبات البرتقال” ولم يجادل فيهما الأفكار الصهيونية التي ظهرت في الأدبيات الصهيونية، وإن تقاطعت كتابته مع كتابة كنفاني في جانب هو جناية الصهيونية على اليهود والإشارات شبه العابرة إلى الهولوكوست ومعسكرات الإبادة.
لقد قرأ غسان عموما الأدبيات الصهيونية باللغة الإنجليزية التي أتقنها، لأنه تعلمها في المدارس الخاصة، ولما كان عليه أن يقدم مشروع تخرج في أثناء دراسته في جامعة دمشق، فقد كتب ما شكل لاحقا كتابه المذكور “في الأدب الصهيوني” .
وبعيدا عن الأدب الصهيوني والأعمال الأدبية لغسان فإن كتاباته السياسية أيضا بدت متأثرة بقراءاته.
التفت الدارس الألماني إلى تفكير كنفاني بعد هزيمة ١٩٦٧ واقترابه من الجبهة الشعبية، ونظر في مؤلفاته واقتباساته ورأى أن قراءاته لكتابات ماوتسي تونغ برزت بوضوح في ما كتبه تحت عنوان “المقاومة ومعضلتها”. لقد كان يقتبس كثيرا من كتابات تونغ.
وأعتقد أن الأمر يحتاج إلى مزيد من الحفر.