سلوك مثقفينا الساعين إلى التطبيع مع الكيان الصهيوني يشبه سلوك ذلك المهاجر اللاجئ الذي وضع صورة المستشارة الألمانية، ميركل، وكتب تحتها عبارة “منحبك” ظناً منه أن هذا سيجعل الألمان سعداء بتشريفه لهم، ويجعله مقرباً لديهم..
التطبيع بالنسبة لهم هو تدجيننا أو ترويضنا، وبالنسبة لنا يعني أن نترك مكاننا ونلوذ بالهوامش التي يرسمونها لنا، حامدين شاكرين..
فمن قال: إن التطبيع يعني أن نتبنَّى روايتهم ونتخلى عن روايتنا؟!
المعروف أن حال العالم مع اليهود كحال الأهل مع طفلهم الأول أو الوحيد (الأزعر)، يدللونه ويمنحونه كل ما يريد وأحياناً ما لا يريد، ويدافعون عن كل أخطائه ويبررونها، بل ويرونه مميزاً عن أقرانه ويحق له أن يفعل ما يشاء، دون أن ينتبهوا أنهم يفسدونه ويدعونه للتمادي في غيه وجهالته.
أما حالنا نحن معهم فهو كحال المتضررين بسببه، ولكنهم يسايرونه ظناً منهم أنهم سيأمنون شروره ويكسبون ودَّ أهله طمعاً بمكاسب معينة لن يحصلوا عليها أبداً، وفي أغلب الأحيان تملقاً مجانياً، ولا ينتبهون أنه مع أهله (الزعران) لا يحترمون الضعفاء، بل يخافون الأقوياء.
حضرت أمسية فرنسية كان يفترض أنها عن الشعر الأندلسي وتوقعت أن أسمع ترجمة لأشعار كبار الشعراء الأندلسيين العرب، وهم أكثر من أن يُعَدُّوا، وآثارهم الأدبية أوسع من أن تحُصى في كتاب، ولا حتى مئة كتاب.
امتدت الأمسية على مدى ساعتين ونصف الساعة، والمفاجأة أن ساعة وخمساً وأربعين دقيقة منها ذهبت في قراءة قصائد باللغة العبرية وترجمتها إلى الفرنسية إضافة إلى دراسة نقدية لكل قصيدة، حتى ظننت أن الأندلسيين كانوا يهوداً!َ!! وأن المسلمين كانوا مجرد جالية تعيش على هامش الحياة هناك، ولمن لا يدري فإن عدد الشعراء اليهود في الأندلس في الحقيقة لم يتجاوز عدد أصابع اليد، وما كتبوه لا يُحتفَل به أدبياً لأنه مجرد تقليد حرفي للشعر الأندلسي العربي، ولا قيمة فنية له إلا لأنه مكتوب باللغة العبرية، وهذا شأن نقدي تصدى له العديد من الباحثين.
كل القصائد التي أُلقيت كانت تحكي عن معاناتهم في الأندلس بحسب ما فهمت من الترجمة الفرنسية، وقد اختار معدو الأمسية أن تركز كثيراً على حلم العودة والبكاء على أرض الميعاد (صهيون)، هذا الحلم الذي ظل يرافق اليهود ويجدون فيه الخلاص من معاناتهم -كما أراد المشاركون في الإعداد للأمسية أن يفهم الحضور!!- ولكن أحداً من المحاضرين لم يذكر أن أرض الميعاد هي فلسطين، وأن تلك الخرافة التوراتية التي قامت على أساسها دولة “إسرائيل” ستكون على حساب شعب وأرض كان يعيش اليهود العرب فيها آمنين، يمارسون عقائدهم دون إزعاج أو اضطهاد، لأنهم كانوا ينتمون لهذا الشعب على قلتهم، ففي حدود علمي وكما يعرف المؤرخون أن اليهود لم يتعرضوا لأي نوع من أنواع الاضطهاد في الشرق المسلم.
لا أعرف من نظم هذه الأمسية ولكن جزءاً منهم كانوا من العرب.. ولا أدري لماذا يشارك العرب بالإعداد لأمسية بهذا الاتجاه؟!
سأفترض أن اليهود كانوا ضحية وأفترض أنني أتفهم تعاطف الأوربيين مع أبناء أو أحفاد الضحية عندما يتباكون في كل مناسبة (متناسين أن المجرمين من أمثال نتنياهو وشارون وغولدا مائير وبن غوريون هم هؤلاء الأبناء والأحفاد)…
وسأفترض أيضاً أن ما خفي من فظائع الهولوكوست أعظم مما بين أيدينا من حقائق و معلومات، وأفترض أن من الأناقة الثقافية ألا يخفي المثقف العربي تعاطفه وألمه الوجودي وتصدع قلبه الضعيف لهذه المأساة، وعليه أن يتحدث بمنتهى الخشوع، وأن يرهف كلماته وتعابير وجهه إذا تحدث، وعليه أن يتوجع من أعماقه قدر ما يستطيع عند تناول هذه القضية الإنسانية، وافترضوا ما شئتم من افتراضات..
ما لا أفهمه هو:
لماذا يضطر مثقف عربي أن يفترض كل هذه الافتراضات وهو يعرف جيداً الرواية الحقيقية التي ربما لا يعرفها كل الأوربيين!! لماذا يتجاهل أن هناك طرفاً مغيباً في هذه القضية هو الطرف الفلسطيني؟!
وكيف يمكن إغفال الفلسطيني الذي دفع وحده ثمن جرائم اقترفت خلف البحار (في أوربا)؟! أي عدل هذا؟! وكيف يستقيم الأمر في رأس مثقف يريدنا أن نفهم أنه إنساني ويدافع عن قيم العدالة؟!
بالنسبة لنا قضيتنا واضحة وبسيطة ألخصها في كلمتين: لماذا أدفع ثمن جريمة لا ذنب لي فيها؟!!
لماذا علي أن أتماهى مع موقف الأوربيين الذين يشعرون بعقدة الذنب اتجاه اليهود الذين اضطهدوهم في بلادهم ووجدوا حلاً لهم باضطهاد الفلسطيني وسرقة حقه في أرض أجداده؟!
لماذا علي أن أرضى بتحويلي إلى ضحية للضحية الأولى؟! ولكن دون أن يدافع عني أحد!! و إذا فكرت بالدفاع عن حقي فإنني سأُتهَم بتهم لا أول لها ولا آخر.
أفهم- ولا أتفهَّم- أن السياسيين ينطلقون من مصالح بلدانهم عموماً ويحددون مواقفهم على أساسها، ولكنني لن أفهم ما الذي يدفع مثقفاً لتبني موقف السياسي؟!! كل ما في الأمر أن عليه أيضاً أن يرى الطرف الثاني من المسألة، فللعدالة أكثر من وجه.
كما أسلفت لم يكن التعايش في الحقيقة أزمة في بلادنا فلا يستطيع أحد أن يقول بأن هناك شواهد على اضطهاد اليهود في فلسطين قبل أن تقوم الدول العظمى بصناعة دولة لهم فيها.
هي مأساة فعلاً، ولكن هل هم بحاجة إلى أن ندافع عنها؟!
يعلم الجميع أن المسألة اليهودية جزء من المناهج التعليمية في أوروبا، والأطفال يعرفون عنها أكثر مما يعرفون عن تاريخ بلدانهم، وتقوم المدارس برحلات استطلاعية للتلاميذ إلى المراكز التي كان يحتجز فيها اليهود ويُنكَل بهم فيها، ويعرفون كذلك أن من يتعرض لهذه المسألة بالشك أو البحث سيكون مساءَلاً أمام القانون تحت عنوان “معاداة السامية” وهذا ما حدث مع الباحث روجيه غارودي لمجرد أنه شكَّك بالأعداد التي ذُكرت حول من قُتَل من اليهود في الهولوكست، وتسقط حرية التعبير عند هذه القضية.
كلمتي الأخيرة للمثقف العربي: هم ليسوا في حاجة إلى جهدك إلا من باب الاستثمار، ولن تكون محظياً عندهم كما تظن، لأنهم ببساطة يعرفون أكثر مما تعرف أنك تدافع مجاناً عن الظلم، أما هم فيدافعون عن مصالحهم ووجودهم.
فما جدوى أن تكون إنسانياً في عالم لا يراك أكثر من حشرة بشرية؟!!