أهدى بو ناصر الطفّار كتابه النثري “الحرايق” إلى “ملائكة شرفات بيروت. بوصلة حجمنا الحقيقي” واقتبس مقطعاً من قصيدة “كيف نبني السفينة في غياب المصابيح والقمر” للشاعر العراقي مظفر النوّاب، يقول فيه: “فابنوا السفينة ماكنة/ أوقدوا للسفينة كل شموع الصبا/ لنرى ما صنعناه حين المصابيح غابت/ ونفحص أنفسنا ونفحص الناس نفحص كل الحروب/ فإن اختلاط الضحايا مع القاتلين مصاب/ أنا واقف في الخراب/ أسقيه أو لا أسقيه عن حذر/ إنما هل شبعتم دما/ هل شبعتم صبايا وغلمان/ من كل هذي السبايا/ أحمل المقبرة وأحاول إيقاظ أمواتها”.
ليس صدفة اختياره لهذا المقطع بالذات، فما قاله النوّاب في هذا المقطع نراه بصيغة أخرى في نصّ الطفّار.. الطفّار أيضا يأمل بناء السفينة/ الوطن ماكنة، يحمل الكثير من الود للصبا، يطالب نفسه والآخرين/ أبناء السفينة بالصدق، يحاول إيقاظ الأموات أو إحياء ذكراهم، ونراه على طول الرواية يلعن القتل والقتلة، ويتعاطف مع الضحايا.
لا يرى الطفّار “الحرايق” ويقف فيها فحسب، بل يعيش وينسحق فيها، ويعتريه الخوف دائما منها. الخوف عنده هو المولّد والحجر الأساس في حياة “الإنسان”، ففي مقدمته للكتاب يمكننا أن نقرأ رؤياه عن ما يقوم به “الإنسان” بجملة واحدة، “نقوم بكل ما نقوم به لأننا نخاف فقط”. الخوف من الموت، من زيارة “الحرايق/ المقبرة” الحتمية، قد يكون في النهاية مضيعة للوقت حسب وصفه، أما الموت نفسه وهو “الخسارة الكبرى” قد يكون “في نهاية هذا كله ربحا فحسب”، وهذا باب للتفكّر ربما.
حاول الطفّار أن يعطي “الحرايق/ المقبرة” دلالات تشمل “الدنيا”، فالحرايق كما يقول ليست “مقبرة نائية فحسب، كل مقابر الدنيا هي الحرايق التي تبتلع أجسادنا وأجساد من نحب دون رجعة”، إلا أن مكانها الحقيقي في الرواية يقع في لبنان، ويبعد “عشرون دقيقة مشيا على الأقدام” عن باب بيته.
قسّم الكتاب إلى قسمين: الأول بعنوان “الصوت” وأتى في 45 صفحة، الثاني بعنوان “الصدى” وأتى في 11 صفحة.. في قسم “الصوت” المكوّن من 15 مقطعاً يظهر حشد من الأصوات، لكل صوت مقطعه وحقه في الكلام. فقط في المقطع 12 يدور حوار بين صوتين، يبدأ بسؤال يوجهه الصوت الأول، يسأل الآخر فيه عن رأيه بمقولة لفيلسوف، تقول: إننا “نتعلم من التاريخ أنه يستحيل على البشر التعلّم من التاريخ”، يخوض الصوتان بعدها جدالاً نتلمّس فيه إشارات عن مدى القهر والألم في حياتهما، عن الانتحار والاستسلام والهزيمة، عن الحرائق.. في المقطع الأول يبدأ الحديث صوتٌ سيعاود الظهور في المقطع الأخير منهياً قسم الصوت في الكتاب، يطلب في البداية من صوت آخر أن يكتب بكامل الحرية بـ”اسم حزنه الذي سبق”، دون خوف من تقييم وتقدير الآخرين “الأحياء جدا”، يحثه على الكتابة ويورطه بلعبة (هي الكتابة نفسها) لا تنتهي إلا بانتهاء الكتاب، ليعلن في نهاية قسم الصوت أنه لا يكتفي من خيبات صاحبه الطفّار، واصفاً جيله بـ”جيل السرطان” مبشّراً إيّاه أن “السرطان سيكون هو الميتة الطبيعية” في نهاية جيله.
“الحرايق” عالم مليء بالفقد والخيبة، تتصارع الأصوات فيه، تفنّد آراء بعضها البعض، تقع في تناقضات لا قدرة لها على حلّها، ليأتي ذكر “الحرايق” بطريقة أو بأخرى كلازمة لانتهاء كل مقطع.. تنسحب بعض الأصوات من المشهد في آخر حديثها بعد أن تختبر عبث الحديث، إلا أن العبث هو من يختبر قدرتها على التحمّل.
قبل رحيله، يقول الصوت السادس وهو الذي يعتبر أن “الوحدة موت”: “سأرحل يا صديقي وأتركك مع هذا الكتاب الفخ آملا منك أن تلحق بي بأسرع وقت وتتخلى عن هذا الهذيان كي لا تأكلك الوحدة مثلهم” ولكن إلى أين؟ إلى “الحرايق” وهي المكان الأشد وحشة؟!.. أمّا وصفه للكتاب بأنه “فخ” فهو وصف دقيق ولكن من حيث لا تدري أصوات الطفّار الثلاثة عشر، فما ترشح به صفحات الكتاب من تعاطف مع الضحايا، ومرور سريع على المشاكل من وجهة نظر اجتماعية سياسية، يقف خلفه رأي يضع الشفقة بشكل غير مباشر في أعلى سلّم قيمي، كأن الشفقة هي عين الإنسانية، أو صرختها الأخيرة. الصوت الثالث على سبيل المثال يقول: “أما أنت فأحزن عليك.. حزنا لا يرتقي لمستوى الشفقة”. الصوت الرابع يقول موبخاً الأصوات التي سبقته: “يا شفقتي (…) تنخر عظامكم الرغبة في الحصول على الشفقة والظهور بهيئة أشد الأرواح بؤسا في الأرض”.
بين أصوات الكتاب التي تحاول إفراغ جعبتها بأي ثمن، يظهر صوت أنثوي واحد، لا يتكلم هو بل يتكلم الطفّار نيابة عنه، يحاول كشف الغطاء عن القهر والعنف الذي تتعرض له النساء في المجتمعات العربية، ويرى في “ثقل العادات والتقاليد البالية” استمراراً لعادة الوأد.
في قسم الكتاب الثاني المعنون بـ”الصدى” ينتهي دور الأصوات التي تتجادل داخل الطفّار ويأتي دوره، لا يتجادل مع الأصوات التي منحها حق الكلام فيما سبق ولا يهتم لصواب آرائها أو بطلانها، كانت الغاية أولاً أن تخرج تلك الأصوات بغض النظر عن هشاشتها أو متانتها.
عند ظهوره يزور الطفّار المقبرة برفقة ابن اخته، يمر على شواهد القبور، يحيّي بحرقة ذكر بعض أهل المقبرة التي ضمّت أصدقاءه وجيرانه وعمه، يتصالح مع فكرة الموت، يقول :”ليست مشكلة بعد الآن عندي ألّا أملك أجوبة عن الموت، بالعكس تماما، ربما هذا ما يجعله مشوّقا جدا”، ويغادر المقبرة.
يحثّنا الطفّار على أخذ موقف صارم إزاء أيّ سلطة تقف حائلاً أمام حريتنا، يطالب بقتل الجلّاد داخل أيّ منّا إلا أنه يتراجع عن هذا القتل آخر الكتاب، وينهي حرائقه متسامحاً فيقول: “لن أقتل الجلّاد في داخلي فهو بالرغم من كل شيء طيب القلب مغسول الدماغ. سأحبه، هذا كل ما يحتاجه المرء في دنيا الكراهية هذه كي يصمد وينتصر، شخص واحد يحبه بصدق. اليوم عيد الأضحى”.