جارنا أبو شحادة رحمه الله كان بائع مازوت، رأسماله هو حصانه الأحمر و”طنبره”، لا أصدقاء له، حتى رجال الحارة لا يريدون التعامل معه، أولاد الحارات جميعاً يخشونه ويتحاشون الاقتراب منه، وأنا من بينهم، ربما لأنه سكير، كان لديه ولدان: شحادة الشرير، أما تيسير (الهاسوس)، وهو الصغير، فهو مثلنا “شرير عادي”، أبو شحادة سريع الغضب والويل لمن يقترب من حصانه، كنا نظن أنه يحب حصانه أكثر من أولاده، فهو يضربهم من أجله، بالأحرى هو لم يكن بحاجة لسبب لضربهم، وقد ظل مع أولاده على هذه الحال من العنف حتى وقعت تلك الحادثة غير المألوفة بالنسبة لنا نحن الشهود عليها مع أبو شحادة وولديه:
لسبب ما غضب من ابنه الكبير شحادة، كالعادة أدخله إلى البيت وأخرج الهاسوس وأقفل الباب بسلسلة حديدية غليظة كي يستفرد به فلا يأتي أحد وينهي موجة غضبه، وهذه عادة جرى عليها كلما أراد ضرب أولاده.
وقفنا خارج البيت مع الهاسوس متضامنين غاضبين كاظمين غيظنا، كان الهاسوس يبكي لأنه يعرف غضب والده وقسوته ويعرف ما يحدث في الداخل، ونسمع صراخ شحادة مستنجداً مسترحماً يمزِّق مسامعنا وقلوبنا الصغيرة (هي لم تكن صغيرة تماماً).
نحن نريد أن نفعل شيئاً ولكن أبو شحادة كان مرعباً، لم ننتبه إلى ما كان يجري في داخل الهاسوس، حدث ذلك فجأة على غير ما نتوقع: صرخ الهاسوس بأعلى صوته وكأنه يريد أن يزلزل الأرض، واندفع راكضاً باتجاه الباب، لا أحد يصدق أن السلسلة الحديدية التي أقفلها أبو شحادة قد انقطعت، عندما رمى بنفسه على الباب، واستمر باندفاعه، وهو يصرخ، وقف أبوه مذهولاً، غير واعٍ لما يحدث! كيف حدث هذا؟ دفع والده بيديه فوقع على الأرض، وانهال عليه ضرباً وهو يصرخ ويشتمه، ويقول: لا تضرب أخي.. لا تضرب أخي… وبمقدار سعادتنا كان ذهولنا، فمن أين جاء الهاسوس بهذه القوة وهو لا يزن أكثر من ثلاثين كيلو غراماً؟ وانقلب الأمر فصار شحادة الكبير يبعد الهاسوس عن والده، وجميعهم يبكون بمرارة، نعم حتى أبو شحادة كان يبكي، ولم أعد أذكر إن كان أحدنا نحن أولاد الحارة قد بكى، كنت أعزو الأمر في نفسي إلى غياب والدتهما التي لم نرها أساساً منذ أن سكن أبو شحادة في الحارة. هذه الحادثة رفعت رصيد الهاسوس لدينا إلى أعلى الدرجات، وصار من مقرري العصابة المعتبرين.
مما زاد خوفنا من أبو شحادة أنه ربَّى كلبين، اسم الأول كان “أسد الموالي” هكذا كان اسمه مع أنه كان أنثى! أما الثاني فاسمه “مرجان”.
قررنا مرة أن نقتل مرجان، وهو الأشد شراسة، وضعت الخطة بنفسي لأنني صاحب الفكرة وسأكون المنفذ، وتقضي الخطة باستدراج مرجان إلى منطقة محددة ومحاصرته ثم القضاء عليه، اخترنا مكاناً مواجهاً لبيت أبو شحادة، خلفي تماماً سيكون جدار طويل، سأجعل من نفسي طعماً له، سأقف عند منتصف الجدار والبقية عند الأطراف، بحيث يهاجمني لأنني الأقرب إليه، وهنا يأتي دوري الخطير حيث سأصارعه وأمسكه من رقبته ثم يأتي الموجودون على الجانبين ويقومون بقتله بما تيسر لهم من أدوات حادة، وعلى هذا اتفقنا، وبالفعل نفذنا الخطة بحذافيرها، قمنا باستفزازه ثم هربنا كل باتجاهه المحدد، وأنا باتجاه منتصف الجدار، ولم يخيِّب مرجان ظني ولم يُفشِل خطتي وبالفعل هاجمني، أنا جاهز بالطبع لمصارعته وواثق من قدرتي على صرعه، ولكن أمراً ما حدث لا أعرف ما هو جعل مرجان ينال مني بعد أن أفلت من قبضتي، وتأخر الهجوم من الجانبين، فعضني في أسفل بطني إلى اليمين قليلاً، وأحمد الله أنه عضني إلى اليمين وليس في الوسط، فهناك في الوسط نصف حياتي القادمة وربما ثلاثة أرباعها.. ما زالت آثار عضته موجودة تذكرني كل يوم بمرجان وأسد الموالي وأبو شحادة والهاسوس… وتذكّرني بأن الوحيد الذي هاجم من الجوانب كان قاسم.
بعد زمن استبدلنا “أبو شحادة السكرجي” بـ “عمي أبو شحادة” عندما اكتشفنا قلباً مفعماً بالحزن والحب، وصار أبو شحادة يذهب إلى الجامع.
هنا أردت إعادة الكَرَّة فبحثت عن سبعة كلاب جديدة، ووجدت ما أبحث عنه، تحت شجرة زيتون ضخمة، دعوت الجراء للخروج من جحرها فخافت، فحاولت أن أمد يدي فتعذَّر علي الأمر ولم تصل يدي إلى الكلاب الخائفة، وهنا اقترح علي صديقي قاسم أن أشعل ناراً أمام الفتحة فتخرج الكلاب هرباً منها، وبالفعل جمعت الحطب ووضعته في الفتحة وأشعلت النار بالكبريتة التي سرقها صديقنا إسماعيل من البيت (أبوه كان يحضر الكبريت بكميات كبيرة وأمه لا تنتبه غالباً إذا نقصت العُلب واحدة)… يا لغبائي!! لم أنتبه إلى أنني لم أترك للكلاب مكاناً إن أرادت أن تهرب، ولم أنتبه أن الشجرة ذاتها ستحترق، كل ما كنت أريده هو خروج الكلاب بلا أي ضرر! يومها فقط علمت أن شجر الزيتون أجوف من داخله، وهذه الثقوب التي نراها على جذعه تصل إلى جوفها، علمت ذلك حين بدأ الدخان يخرج من أعلى جذع الشجرة، ولم تنفع كل محاولات الإطفاء لإخماد النار التي بدأت تلتهم الشجرة من داخلها، وكان لا بد من الهرب قبل أن يأتي صاحب الأشجار، عبده اليلداوي.
لجأت يومها إلى بيت خالي أبو سليمان، عندما جاء أحد الأولاد ليخبرني: تعال رد على جدك أبو علي.
كنت أدرك أنني لن أنجو لأن المتهم الأول في كل المصائب التي كانت تحدث هو أنا، ولن يفيدني الهرب ولكنني في الوقت ذاته سأحاول تأخير العقوبة ما أمكن.
كان عبده اليلداوي عند جدي يصرخ كالمجنون، يومها استسلمت لعصا الراعي التي كان يهش بها جدي على غنمه، أردت يومها أن أعتذر، ربما أيضاً عن أخطاء لم يكن لي ذنب بها، ولكنني لم أعتذر.
هي المرة الوحيدة التي أرى فيها خالي أبو سليمان غاضباً، لم يقل شيئاً ولكنني ما زلت أشعر بغضبه.
بعد هذه الحادثة غضضت النظر عن موضوع تبنِّي الكلاب، وتبنيت طريقة جديدة للغزو بلا كلاب.
أظنني إن عدت طفلاً سأربي كلاباً من جديد وربما أسود، وأربي ضباعاً لو استطعت، ولكنني حتماً لن أوجهها إلى أولاد الحارة الثانية… وسأشعل ناراً ولكن ليس بزيتون يلدا..