ضمن تعاونه مع دار الجمل، قام المترجم التونسي علي مصباح بترجمة كتب عديدة للفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه (هذا هو الإنسان، إنساني مفرط في إنسانيته في جزئيه الأول والثاني، الجوّال وظلّه، هكذا تكلم زرادشت، غسق الأوثان، نقيض المسيح). اعتمد مصباح في ترجماته على “الأعمال الكاملة. طبعة الدراسات النقدية” التي قام الايطاليان “جورجيو كوللي ومازينو مونتيناري” بإعدادها وتم اعتمادها بين الباحثين في الدراسات النيتشوية، وصارت الآن متوفرة بصيغة رقمية على شكبة الإنترنت.
كان آخر كتاب ترجمه مصباح لنيتشه لحد الآن يحمل عنوان “قضية فاغنر، يليه: نيتشه ضد فاغنر” عام 2016. في هذا الكتاب نشاهد “المدفعي العريق” يواجه صديق سنوات شبابه الأولى، يخرج بعدته وعتاده كاملًا إلى الحرب، حرب في جوهرها نقد للحداثة ولقيم الانحطاط المترسخة فيها، فمسألة الانحطاط كانت ما يشغل نيتشه “على النحو الأكثر حميمية” على حد تعبيره.
هذا الكتاب كما يذكر نيتشه في عنوانه الفرعي هو “مسألة للموسيقيين”. يلعب الألم الذي عاناه نيتشه لرؤيته سيرورة الموسيقى الآخذة بالانحدار دوراً مهماً في دفع الكتاب إلى النور. كان يخشى كما هو معروف من محاولات أدلجته واستخدام فكره من قبل ضيقي الأفق وأخسّاء الفكر وتكريسه كقداسة، وقام لجسامة المهام التي أخذها على عاتقه ولكونه لم يُعرف كما ينبغي بنشر كتاب “هذا هو الإنسان”، ورغم ذلك تعرض إرثه لمحاولات تشويه، ولكونه “سيضع البشرية أمام إلزامات جسيمة” توجّب عليه توضيح من يكون، علماً أن كتبه لا تخفي ذلك، ولا تدع مجالا للشك بنفاذ عقله ورهافة حسه، والأهم من ذلك استحالة الإحاطة به، فهو كما يصف نفسه “عبوة ديناميت”.
خصص نيتشه في “هذا هو الإنسان” فصلاً عن كتاب قضية فاغنر، ذكر في بدايته “سيكون المرء عادلاً تجاه هذا الكتاب (أي قضية فاغنر) إذا ما كان يتألم لمصير الموسيقى تألمه من جرح مفتوح. ما الذي يؤلمني بالذات إن كنت متألما لمصير الموسيقى؟ يؤلمني تنكر الموسيقى لطابعها الإثباتي المشع بحيث غدت موسيقى انحطاط وكفت عن كونها ناي ديونيزوس”.
قسّم قضية فاغنر إلى 12 جزءاً، يمكننا إذا أردنا التكلم بمفردات نيتشه أن ننظر إليهم بوصفهم “ضربات مطرقة”، لكنها ضربات أبعد ما تكون عن العبوس، ناجمة عن فيض الثراء لدى نيتشه وليس الغضب. في الكتاب نبرة مرح مشاغب تقول الحقيقة بفم ضاحك، فسحة للتسلية والترويح عن النفس، “لحظة استراحة”، “مزاح كوني”.
طالت ضربات المطرقة النيتشوية مما طالته: أدب فاغنر، رؤيته عن الفن والدين، تأثير زوجته “ذات النزوع المسيحي العميق” عليه، انشغاله بمسألة “الخلاص” وإيمانه بـ”الخطيئة الأصلية”… كان فاغنر مرضاً بالنسبة لنيتشه شكّل الشفاء منه “الحدث الأعظم” في حياته حسب وصفه، أما الموسيقى فقد جعل منها فاغنر “بلاغة مسرحية، ووسيلة للتعبير، لتدعيم الحركات، للإيحاء، وللزينة البسيكولوجية”.
لعل فاغنر رغم تشريح نيتشه لآلية اشتغال الموسيقى لديه، وتحديد موقعه في تاريخ الفن والموسيقى والأدب، وتحليل سيكولوجيته، لا يمثّل في الكتاب سوى جسر عبور بالنسبة لنيتشه. ما يريده من وراء نصه هذا فوق كل شيء: “شن هجوم على هذه الأمة الألمانية التي تزداد كل يوم فتوراً في مجال المسائل الفكرية وفقراً في الغرائز”، كشف الغطاء عن “عهر الألمان في مجال العلم التاريخي”، وافتقادهم كليّاً للرؤية الواسعة لمسار الثقافة وقيمها، بل إبطالهم لتلك الرؤية… كان من دواعي إثارة الريبة لدى نيتشه من المؤرخين الألمان أن “هنالك كتابة للتاريخ من وجهة نظر ألمانيّة رايخيّة، بل ومعادية للسامية أيضاً في ما أخشى، هنالك كتابة للتاريخ بلاطيّة”، كل ذلك زاد من ضراوة الحرب التي دارت بينه وبين عصره، كان يطالب نفسه ويطالب أيّ فيلسوف بأن “ينتصر على عصره في نفسه، أن يصبح لا زمنيّاً”.
أضاف نيتشه إلى نصه ملحقين صغيرين وأتبعهما بنصوص اختارها من كتاباته السابقة “بعضها يعود إلى عام 1877″، جمعها بعد مزيد من التدقيق والاختصار تحت عنوان “نيتشه ضد فاغنر” ذيّلها بعنوان فرعي آخر “وثائق خبير نفساني”، وذكر في التوطئة التي أعدها لها أن “بقراءتها متتالية لن تدع أي مجال للشك فيما يتعلق بريتشارد فاغنر، كما فيما يتعلق بي: نحن نقيضان”. ولكن بالرغم من ذلك أو بسببه، يظل فاغنر ضرورياً بالنسبة لنيتشه، “إن حالة فاغنر صدفة سعيدة بالنسبة للفيلسوف، وهذا النص، وكما لا يفوتكم، من وحي الإقرار بالفضل”.