يحاول الكثيرون قراءة تجارب الشعوب من أجل مراكمة الخبرة الشعبية في التعامل مع الحالة المستقبلية، من خلال تقديم توصيف دقيق لما كان قائماً في العام 2012 في مخيم اليرموك، لكن هذه المحاولة لا تستقيم إلا عند دراستها من كافة الجوانب، وذلك ما يفعله الكاتب متولي أبو ناصر في بحثه “اليرموك في قلب الثورة ” في كتاب «سورية تجربة المدن المحررة»، وهو من إعداد صبر درويش وصدر في 2015 عن مركز شرارة آذار للدراسات، برعاية دار رياض الريس للكتب والنشر. يقدم الكتاب لمحة تاريخية عن مخيم اليرموك الذي يقع جنوبي مدينة دمشق، والذي، نتيجة لدوره النضالي الكبير، لقّب بعاصمة الشتات الفلسطيني, ويذكر الباحث أنه في عهد الرئيس شكري القوتلي في العام 1949 شكلت “الهيئة العامة للاجئين الفلسطينيين العرب”، بموجب القانون رقم (450) الذي عُدل بموجب القرار رقم (260) لعام 1956، فمنح الفلسطيني جميع الحقوق عدا حق الترشح للمجلس النيابي والرئاسة والوزارة، وأصبحت جميع قرارات الدولة المتعلقة بالأحكام أو الوظائف تعمم دائماً تحت عنوان: السوريون ومن في حكمهم.
المقصود بذلك هم الفلسطينيون الذين لجؤوا إلى سورية بعد نكبة 1948. وعن طبيعة العلاقة بين اليرموك ومحيطه يوضح الكتاب بأن: علاقة الفلسطيني بالنسيج السوري لم تكن علاقة عادية شبيهة بتلك التي كانت في باقي الدول العربية، فطبيعة السوريين الطيبة وحسهم الوطني والقومي، ساعد اللاجئين الفلسطينيين على الانخراط في المجتمع السوري في جميع النواحي الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فلم يعد الفلسطيني جزءاً أساسياً من النسيج الاجتماعي والاقتصادي فحسب، بل أصبح جزءاً من النسيج الوطني الثقافي، وخصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار أن ثلاثة أجيال من اللاجئين ولدت على الأرض السورية وخضعت للعادات والتقاليد السورية.
ويتابع متولي أبو ناصر قراءته لوضع فلسطيني سورية بعد اتفاق أوسلو وعزوف الشباب الفلسطيني عن العمل السياسي إثر ذلك، ويعرض واقع المؤسسات الفلسطينية في ظل نظام حزب البعث الحاكم في سورية، منذ حصار بيروت عام 1982 إلى إنهاء الحياة الديمقراطية داخل الاتحادات والنقابات الفلسطينية إلى جانب محاربته الفصائل المنضوية في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، فحدّ من فاعليتها في الشارع الفلسطيني، ولاحق كوادر بعضها، باعتقاله جزءاً منها، وفي حالات كثيرة قام بتصفية هذه الكوادر، وأصبحت الطريقة المتبعة هي قيام الفروع الأمنية بتعيين الهيئات الإدارية للاتحادات بتزكية من البعث الفلسطيني ووضع رئيس بعثي على رأس كل نقابة أو اتحاد، من دون أن يستطيع أي فصيل من مراجعته أو محاسبته، فمارس هؤلاء الرؤساء شتى أنواع السرقة والقمع والتفرد في القرارات وتعطيل الحياة الديمقراطية داخل هذه المؤسسات.
وأكد أبو ناصر أن اتحاد العمال توقف عن العمل وغاب معه وجود نقابة تدافع عن العمال الذين يمثلون غالبية ساحقة في التجمعات الفلسطينية السورية، وسطت على اتحاد الكتاب والصحافيين مجموعة من البعثيين، وعناصر الجبهة الشعبية-القيادة العامة، وفتح الانتفاضة، واستمر الوضع على هذا الحال حتى بعد إعادة توحيد الاتحاد في العام 1987، بعدما انشق فرع سورية عن الاتحاد العام للكتاب عام 1984، ليستمر التحكم بالقلم الفلسطيني مدة طويلة، وتم منع كل من لا يتفق مع النظام البعثي في سورية من الانتساب إلى الاتحاد فترة طويلة من الزمن. وبعدما كان المشهد الثقافي الفلسطيني موضع استقطاب للمثقف السوري، أصبح المثقف الفلسطيني محصوراً بتوجهات أيديولوجية محددة ومرتبطة بوفائه لحزب البعث أو للفصائل الفلسطينية الموالية له.
وحول اتحاد الطلبة يوضح أبو ناصر أن الاتحاد أصبح فرعاً أمنياً يتابع شؤون الطلبة في الجامعات، وميزانية الاتحاد التي تتجاوز المليون ليرة والمفروض على الطلبة الفلسطينيين دفعها، تذهب إلى جيوب أعضاء حزب البعث، زد على ذلك أن الطالب الفلسطيني القادم من الأراضي المحتلة عوضاً من أن يدفع له يتم “تشليحه” مبلغاً يتراوح بين 200 و500 دولار، ليذهب هذا المبلغ إلى جيوب بعض العاملين في القيادة القطرية الفلسطينية، بالرغم من أن مقاعدهم الدراسية مجانية. وما مورس من إفساد في هاتين النقابتين يعمم على جميع الاتحادات الأخرى: الأطباء، المعلمين، الفنانين.
وأضاف أبو ناصر أن هذا الوضع استمر بعد أن سمح لفصائل منظمة التحرير، باستثناء “فتح-أبوعمار” لأن تعود للعمل بعد التسعينيات.
اليرموك والربيع السوري:
جاء الربيع العربي والسوري في زمن تفشي البطالة في المخيمات الفلسطينية، حيث شملت العمال وخريجي الجامعات وسط انتشار الفقر والمخدرات وتراجع سوية التعليم وتفاقم فساد المؤسسات والنقابات الفلسطينية، وانعدام شبه كامل للدور النضالي إلى جانب فشل المشروع السياسي الوطني، جميع هذه الأسباب ولدت حالة احتقان لدى أبناء الشتات الفلسطيني عموماً وأبناء مخيم اليرموك خصوصاً بعدما كان لليرموك الدور الطليعي في الثورة في السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين.
وهنا يتسائل متولي أبو ناصر عمّن يتحمل المسؤولية في ما آلت إليه حال المخيمات الفلسطينية في سورية؟ هل النظام السوري هو المسؤول أم الفصائل الفلسطينية المرتمية في أحضانه؟
يصنّف البحث الموقف الفلسطيني ضمن ثلاثة أطر: مع النظام، مع الثورة، محايد. ويضيف إلى ذلك موقف السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير، لكن هذا التصنيف يبقى قبل ذكرى نكسة حزيران في 2011 وانقلاب المزاج الفلسطيني في مخيمات دمشق الذي ذهب ضحيتها أكثر من 30 شاباً من أبناء مخيم اليرموك وخمسة شباب آخرين من مخيم خان الشيح، وذلك عندما سمح لهم النظام في 5 و6 حزيران بالذهاب إلى الجولان ومواجهة العدو الاسرائيلي الذي بدأ بقنص المتظاهرين بمجدل شمس أمام عيون قوى الأمن السوري وقيادات فصائل كالقيادة العامة والصاعقة، من دون أن يحاولوا حماية المتظاهرين.
ويعرض أبو ناصر إلى كيفية تشييع الشهداء في مخيم اليرموك، وأنه كان حدثاً فاصلاً في المزاج العام للأهالي، ليس في اليرموك فحسب بل في كل مخيمات دمشق وريفها، وأصبح الخطاب العقلاني الذي ينادي بضرورة حياد المخيم ضعيفاً، وما زاد الأمر سوءاً أنه أثناء تشييع شهداء الجولان هاجم عناصر مقر الخالصة التابع للجبهة الشعبية-القيادة العامة المشييعين وأطلقوا النار عليهم مما أدى إلى مقتل خمسة أشخاص وجرح الكثيرين، بعد هذه الحادثة ازدادت هجمات النظام على المخيم، وبدأت قذائف الهاون بالسقوط يومياً عليه مخلفة قتلى وجرحى.
ويوضح أبو ناصر أنه بعد الشهر التاسع من أيلول 2011 لم يعد أحد يستطيع ضبط المخيم، ولا سيما مع ازدياد هجمات النظام إذ أن هناك فئة من المعارضة المسلحة كانت تقصف على المخيم، وهي مجموعة جند الله التي يقودها المدعو بيان مزعل، والذي ستتكشف في ما بعد تبعيته للنظام والتنسيق معه.
وبعد قصف النظام للمخيم ومقتل العشرات وجرح المئات من أبنائه، انتهى الأمر بدخول الجيش الحر إلى أطراف المخيم الجنوبية، في شارع العروبة وشارع فلسطين، في 13/ 12/ 2012، وفي 16/ 12/ 2012 شنت طائرات النظام الحربية غارات على المخيم انتهت بسيطرة وحدات الجيش الحر على جميع محاور المخيم، لينزح بعد ذلك اليوم أكثر من 300 ألف شخص هائمين لا يعلمون أين يتجهون، كل ذلك طرح سؤال هل أخطأ الجيش الحر في دخوله إلى مخيم اليرموك.
ويجيب على هذا السؤال الشهيد أبو عبيدة قائد ما كان يسمى لواء الفاتحين في لقاء حصل في الشهر التاسع (أيلول) في 2012: بصراحة أنا أعلم أن غالبية شباب اللجان معنا، وأعلم كم يحمل المخيم عنا مشكلات تشغل بالنا.
وبعد أبو عبيدة تغيرت ملامح التشكيلات العسكرية في الحجر الأسود، وتفكك لواء الفاتحين إلى مجموعات ليرأسها بيان مزعل الملقب بأبو عمر الجولاني، أكبر تشكيل خرج من اللواء كان باسم كتيبة جند الله التي كانت غالبيتها من منشقين عن فروع المخابرات.
ويضيف أبو ناصر إلى ذلك عرضه للتشكيلات المسلحة في المخيم، وأداء الكتائب المسلحة والمؤسسات العاملة، ويقدم مجموعة من الحلول للصعوبات التي تواجه المخيم، وأولها التدريس في المدارس البديلة تحت القصف، ودور وكالة غوث اللاجئين (الأونروا).
ويقف الباحث أبو ناصر طويلاً أمام الهدن والتسويات المتعثرة مع النظام الذي يقبل من حيث المبدأ التفاوض وطرح صيغ للهدن والتسويات، لكن إلى نهاية العام 2014 لم تتحقق أية تسوية، ونحن الآن في بداية العام 2017 ولم تتحقق هذه التسوية بين الفصائل والنظام لأن شعار “الجوع أو الركوع” هو الذي يعمل عليه النظام مع المناطق المحاصرة في سورية، لكن احتلال داعش للمخيم هو ما يساهم بدفع الأهالي إلى الرجوع لحضن النظام، والخروج بشكل فردي ويومي ليبقى تحت كنف داعشي من لا يستطيع الخروج، وتصبح حالة المخيم أمام خيار داعش أو النظام!