قاد فصل الديالكتيك عن الفهم المادي إلى تحويل الديالكتيك إلى منظور فلسفي/ متعال و”ذهني”، وربط المادية بمنظور تاريخي أو اقتصادي (المادية التاريخية والاقتصاد السياسي). هنا عاد الديالكتيك إلى هيغل، وعادت المادية إلى المادية الفرنسية وفورباخ. ربما مطعّمة بمصطلحات ماركس، لكنها تحمل الإشكالية ذاتها التي حكمت ديالكتيك هيغل ومادية فورباخ والمادية الفرنسية عموماً: أي المثالية.
فقد صاغ هيغل الديالكتيك انطلاقاً من فهمه لصيرورة تطور الفلسفة، وتوصّل إلى أن هذه الصيرورة هي جدلية، وأنها هي التي تحدد الواقع. فالواقع جدلي بالضبط لأنه انعكاس لصيرورة الفكر، الفكر الذي هو صانع الواقع. هذا ما أسماه ماركس “القشرة الصوفية” التي تحيط بجدل هيغل. وانطلق فورباخ من الوجود، من الواقع، لكنه حوّله إلى “قصة حب”، وبالتالي ظل مثالياً. ولقد تمسّك ماركس بجدل هيغل، لكنه استفاد من مادية فورباخ في قلب منظور هيغل، حيث لم تعد الفكرة هي محدّدة الواقع، على العكس فقد بات الواقع هو منتج الأفكار. وبالتالي بات الجدل الهيغلي هو التجريد لصيرورة الواقع، هو الصيرورة الواقعية مصاغة في الذهن. وعلى ضوء ذلك باتت منطق فهم الواقع ذاته، حيث أنها “القوانين العامة للحركة”.
بهذا يبدو أن تطور الفلسفة ذاتها كان يعني التوصّل، في مسار التطور التاريخي، إلى فهم صيرورة الواقع، بعكس منظور هيغل الذي اعتبر أصلاً أن الفلسفة هي مَنْ يصيغ الواقع في الشكل الذي تتطور فيه، وهو شكل جدلي. بمعنى أن التطور الجدلي للفلسفة كان انعكاساً موضوعياً للتطور الجدلي للواقع. وحين لخّص هيغل مسار تطور الفلسفة مكتشفاً طابعه الجدلي كان يكتشف طبيعة الصيرورة الواقعية ذاتها، وكان يلخصها في “مبادئ”، أو “قوانين”، أو عناصر”، تصبح هي الموجّه لفهم الصيرورة الواقعية ذاتها، كما حدثت، وكما هي الآن، وكما يمكن أن تسير.
إذن، تقوم مادية الجدل من هذه الفكرة بالذات، حيث أن الواقع يتطور بشكل جدلي، هو في حركة جدلية. وبالتالي ستكون قوانين الجدل هي “الموجهات” التي تساعد على فهم صيرورة الواقع، حركة الواقع. حيث يجب تحديد طرفي التناقض في الظاهرة (وربما كذلك أطراف التناقض، لأن كل ظاهرة متعددة التناقضات)، وكيف يتحقق التراكم في كل منهما، ومن ثم كيف يتحقق النفي، لنصل إلى كيفية تحقق نفي النفي. هذا التجريد، أو هذه المصطلحات لا بدّ من أن “تتوقعن”، أي تتحوّل إلى “مادة”، إلى مسائل ملموسة في الواقع. والواقع هنا هو “ترميزات”، حيث لا بدّ من “إعطاء معنى” لكل واقعة، لكل ظاهرة، ولكل “عنصر مادي”. بالتالي فهذه الترميزات هي الواقع مرمزاً، أي محولاً إلى لغة، وإلى “عناصر فكرية”، لكي يسهل “التعامل معها” في المستوى الفكري.
هذا يعني أن هيغل توصّل إلى “القانونيات العامة” للصيرورة، معتبراً أنها منتج الصيرورة الواقعية، بالتالي فإن الواقع هو انعكاس للفكرة. وهنا كمنت “القشرة المثالية” عنده. وكان اكتشاف ماركس بأنه “تقوم بين الناس، في الإنتاج الاجتماعي لحياتهم، صلات معينة ضرورية مستقلة عن إرادتهم، وهي علاقات إنتاج تقابل درجة معينة من درجات نمو قواهم الإنتاجية المادية، ويؤلف مجموع هذه العلاقات الإنتاجية البنية الاقتصادية للمجتمع، وهي القاعدة المشخصة التي تقوم فوقها بنية حقوقية وسياسية، والتي تقابلها أشكال معينة من الوعي الاجتماعي” هو الذي فرض قلب منظور هيغل، بحيث باتت الفكرة هي انعكاس للواقع، ومن ثم باتت “القانونيات العامة” التي يقوم عليها الجدل هي بالأصل قوانين الحركة الواقعية، التي تنعكس في الذهن بهذا الشكل. وبالتالي بات اكتشافها في الفلسفة يؤسس لأن تصبح “موجهات” فهم الواقع والصيرورة الواقعية، أي ليس الواقع بثباته بل الواقع في صيرورته.
إن مادية الجدل تجبرنا على أن نبدأ من الواقع: أي من الاقتصاد والطبقات، لكي نفهم ماهيتها، ولفهم طابع الدولة والأيديولوجية. وهنا لا بدّ من التمييز بين الواقع “كما هو”، أي بسكونه، والواقع بما هو صيرورة. ربما كانت “المادية التاريخية بأسسها العامة، أو الاقتصاد السياسي بأسسه العامة، كافيان لتحديد الواقع “كما هو”، أي بسكونه، وهذا هو مستوى الفهم كما يسميه هيغل، لكن يبدأ مستوى “العقل” حين البحث في تحولات الواقع، في صيرورته. بمعنى أنه يجب، ونحن نبحث في تكوين مجتمعي ما، أن نحدّد قوى الإنتاج (وسائل الإنتاج وقوى العمل)، وأن نحدّد طابع الملكية. كذلك أن نحدّد الطبقات وتوزعها، وتوزع الثروة (ومن ثم الدولة والأيديولوجية). لكن كل ذلك هو تحديد “صوري”، وهو “الترميزات” التي تحوّل الواقع المادي إلى كلمات ومصطلحات لكي يكون ممكناً “وضعها في سياق”، والسياق هو التحليل الجدلي.
وأقصد هنا فهم الصيرورة، أي كيف يتطور الاقتصاد، وبالتالي المسار الممكن له. وكيف ينمو صراع الطبقات، وأي الطبقات تتصارع، وإلى ماذا يمكن أن يؤول هذا الصراع. ومن ثم ما هو دور “الوعي” و”الذات” فيه. وأيضاً علاقة مسار تطور الاقتصاد على صراع الطبقات. ثم أثر كل ذلك على الدولة بصفتها دولة طبقة مالكة للثروة. وما هو وضع الأيديولوجية السائدة، وكيف يمكن أن تخاض الحرب الأيديولوجية؟ وعلاقة كل ذلك بتطور الصراع الطبقي وإسقاط الطبقة المسيطرة؟
إذن، هنا تكون “المادية التاريخية” (حسب ما يُطلق عليها) و”الاقتصاد السياسي” (كما يسمى) هما “الترميزات” التي تسمح للجدل بأن يقوم بدوره المادي، أي يقوم بدور فهم الصيرورة الواقعية، الصيرورة المسماة بالجدل في الفكر. إنهما مستوى الفهم (معرفة الشيء كما هو في الظاهر) قبل أن يبدأ دور “العقل”، الذي يصبح معنياً بمعرفة الصيرورة، حركة الأشياء، وترابطها، عبر معرفة تناقضاتها. فهي تحدّد “عناصر الواقع” لكي يصبح ممكناً دراسة حركتها.
في هذه الوضعية يجب تدقيق المصطلحات، وتحديدها بدقة، لأن كل خلل هنا هو أساس في سوء فهم تالٍ. ومن ثم يجب تحديد الواقع انطلاقاً من ذلك، أي ربط الواقع بالترميزات لكي تصبح محددة مادياً، ويكون البحث في العناصر المادية ذاتها، وليس في ترميزات ليست من الواقع. فحين نتحدث عن الطبقة العاملة يجب أن يتم تحديد المقصود من لك، وأن يُدرس وجودها بدقة، وتُبحث مشكلاتها. كذلك حين الحديث عن قوى الإنتاج، حيث يجب أن يُحدّد معنى قوى الإنتاج، وأن تُحدّد وسائل الإنتاج. وكذلك الملكية وتوزيع الثروة. ومن ثم الطبقات بتعددها وفق تعدد وسائل الإنتاج، أو التكوين الاقتصادي ذاته. هذه هي مرحلة التوصيف في البحث، التي سيقوم على أساسها التحليل الجدلي.
من هذا المنظور سوف نلمس خطل الفصل بين “المادية الديالكتيكية” و”المادية التاريخية” و”الاقتصاد السياسي”، حيث أن ذلك يعبّر عن “تخصصية” تدمر الجدل المادي، بالضبط لأنها تفكك بنيته إلى ديالكتيك، حتى وإنْ سمّي مادياً فستكون المادية هنا مصطلحاً فكرياً في منظومة فكرية منغلقة على ذاتها، بالضبط لأنها قطعت مع البحث في الواقع، هذا الواقع الذي أُحيل إلى “المادية التاريخية” و”الاقتصاد السياسي”، ومن ثم تحوّل إلى بحث “نظري”، ومنطق يحكم الواقع، فهو الذي يحدّد الواقع. حيث بدل أن تكون المصطلحات والقانونيات التي يضمها هي محدّدات توصيف الواقع تصبح قوانين “علمية” تحكم الواقع، أو يقاس الواقع بها، ليدخل من هذا الشق المنطق الصوري بعد أن كان جرى استبعاد المادية الديالكتيكية عن حقل البحث.