لا يتخلى الكاتب السوري مصطفى خليفة، في روايته “رقصة القبور” (دار الآداب، 2016) عن فضاء السجن الذي يحضر في مستهلها وجزئها الأخير.
كتب خليفة الفصل الأول من الرواية في السجن الذي قضى فيه فيه وقتاً طويلاً، وخرج منه في العام 1988، لكنّ السجان صادره. ثم أعاد خليفة كتابة الفصل الضائع ليكون منطلق روايته الجديدة. يكتب خليفة رواية ذات ملامح تاريخية، لكنه يرى أن التاريخ ليس فقط كما حدث أو كما كُتب، بل كما كان يمكن أن يحدث أيضاً وأن يُكتب.
يحاول النص الروائي هنا العمل على خلق تاريخ جديد لسوريا، أساسه عائلة الشيخ التي سكنت قرية الخالدية، ونُسبت بتاريخها لعائلة خالد بن الوليد التي أُبيدت على عدة مراحل، فلم يخرج منها سوى أحد أحفاد خالد الذي أسس قرية للعائلة قرب مدينة حلب، حملت اسمها وكانت سيدتها بوصية تاريخية في محاولة للإفلات من عمليات الإبادة المتكررة.
الحكي يكون بلسان الراوي الذي التقى بعبد السلام، وهو ما يمكن أن نصفه بأنه ولي عهد العائلة، داخل سجن المزة العسكري نتيجة نشاطهما السياسي في أحد الأحزاب المعارضة، وبعد أن تتوطد علاقتهما، يبدأ في التعرّف على تاريخ العائلة الممتد بين عدة أمكنة ومئات الأحفاد الذين ينتمون إلى الخالدية ويعيشون خارجها خشية لأي إبادة محتملة، مؤسسين عدة مراكز خاصة بعائلة الشيخ التي تمتلك سراديب من الذهب مخبأة تحت قصر الشيخ، تعود لزمن العائلة الغابر، حيث تحتفظ بإرثها الذي يستخدم فيما لدعم كل من ينتمي إليها.
تتحرك القصة إلى مزيد من التشابك القائم على التخييل بدءاً من زمن النبي محمد وصولاً إلى مذابح الأرمن والتاريخ السوري الذي مرت عائلة الشيخ بمراحله مع توالي الحكومات العائلية، من الأمويين وانتقالًا إلى العباسيين والدول التي قامت في عهدهم، كالدولة الحمدانية التي كانت سبباً في إبادة عائلة الشيخ الأولى، على يد أحد أمرائها الذي تعاطف مع العلويين، لتظهر سيرة العائلة بهيئة ملحمية ذات طابع أسطوري يبني علاقة تلك الأسرة بالسلطة التي حاولت في كل مرة إبادتها، لما كانت عليه من القوة والغنى منذ جدهم الوليد الذي كان من أغنياء قريش. وهي الحكاية في الحكاية التي يرويها الشيخ عبد الهادي لأبناء عشيرة الخوالد الذين يتجمعون سنويا.
يستند العمل كلّه إلى سؤال: “ماذا لو؟، حيث يحاول خليفة أن يبني أطروحته على افتراض تلك الأشياء التي لم تحصل ومنحها مجالاً تاريخياً ممزوجاً بالواقعية لافتراض وقوعها، ليخبرنا أن التاريخ ما هو إلا افتراضات تحتمل الصواب والخطأ في الوقت نفسه، ولتصبح الحقائق التاريخية هي الأخرى فرضيات لم يعد من الممكن الوثوق بها.
ينشغل النص برسم مأساة شخوصه التي بدأت بوشاية أصلان اللقيط، بأخيه عبد السلام لدى المخابرات، وانتحاره لأن ذلك كان رغماً عنه، ووفاة ولاد مارال زوجة عبد السلام، وجنون أمها، وتحول مارال إلى عاهرة متنقلة بين تجمعات المقاتلين الشيوعيين، ثم إلى مثليتها الجنسية التي اكتشفتها في سجن النساء بعد الحكم عليها بعشرين عاماً، وأخيراً في الحزب الاشتراكي الذي كان مصيره الخراب والتفكك. ومن ناحية أخرى فعبد السلام ابن الشيخ عبد الهادي يسكر في إحدى المرات، ويمارس الجنس مع ابنة عمه القادمة من سراييفو.
يظهر اشتغال خايفة على تفاصيل المشاهد الجنسية على نحو واضح، فهناك العديد من القصص الجنسية التي حدثت للراوي، وشخصيات أخرى مثل الطبيب الألماني وبائعة الهوى العربية، ليكون “الجنس هو الشيء الحقيقي في هذه الحياة” كما قالت مارال الأرمنية.
الطائفية هي إحدى ركائز الحكاية، وأساساً للحقد الكامن بين شخوص الرواية، فالسلطة الجديدة بمارشالها ابن الطائفة العلوية، يكره الرفيق عبد السلام، ليس بسبب ما كان يصله من أحاديث الأخير الرافضة والساخرة منه، بل لكره تاريخي قديم، يتعلق بما كان من أحد أفراد أسرة الشيخ القدماء الذين حاربوا العلويين وأذلوهم جاعلين من رجالهم عبيداً، ومن نسائهم سبايا وعاهرات كما تذكر الرواية.
نص روائي منهك في تفاصيله وفاضاءاته المتعددة والمتعرجة وطبقاتها السردية، في شخصياتها النابتة في أرض الماضي المتخيّل بما يملكه من عوالم سرية وغامضة.
تظهر الرواية الواقع السوري على نحو أكثر تمعقيداً، إذ قد يتطلّب الأمر إحاطةً أوسع، ورؤيةً تتجاوز الرّكون لثنائيّات المعارضة والسّلطة، أو أن الماضي يتكرّر في الحاضر.