العلاقة والوجود: حول الفهم المادي والفهم المثالي

جدارية لمهدي عامل

سلامة كيلة

كاتب ومفكر من فلسطين

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

13/04/2017

تصوير: اسماء الغول

سلامة كيلة

كاتب ومفكر من فلسطين

سلامة كيلة

ولد في مدينة بيرزيت في فلسطين سنة 1955. كتب ويكتب في العديد من الصحف والمجلات وأصدر العديد من الكتب التي تتناول بشكل أساسي الماركسيّة. عمل في المقاومة الفلسطينية ثم في اليسار العربي ، ولازال ينشط من أجل العمل الماركسي العربي. مطلوب للسلطات الإسرائيلية بتهمة العمل المقاوم. اعتقلته السلطات السورية بعهد حافظ الأسد من سنة 1992 إلى 2000، واعتقلته السلطات السورية بعهد بشار الأسد لمشاركته في الثورة صيف 2012 وتعرض للتعذيب في المخابرات الجوية، ثم تم ترحيله من سوريا إلى الأردن.

يُربَط الفهم المثالي بأولوية الفكرة، هكذا في تاريخ الفلسفة. لكن ما هو موقع العلاقة؟ والعلاقة تعني الرابط بين طرفين أو عدة أطراف موجودة في الواقع، حيث يجري اعتبار أنها هي “الوجود المادي”، أو أساس التحليل “المادي”. ربما يظهر ذلك واضحاً لدى مهدي عامل، الذي ينطلق من أن التحليل المادي يقوم على فهم العلاقات.

هذه المسألة كانت مجال اختلافات في الماركسية، وخصوصاً الماركسية السوفيتية، حيث خضع تحديد مصطلح التكوين المجتمعي لتفارق بين أن يسمى: النمط الاقتصادي الاجتماعي، أو النمط الاجتماعي الاقتصادي. وكان واضحاً هنا الأولوية التي تُعطى للاقتصاد أو للعلاقات الاجتماعية. لقد كان السؤال حول أولوية العلاقة أو الوجود هو في أساس هذا النقاش، حيث تبدو العلاقة هي أساس الوجود.

وهذا يعيدنا الى نص إنجلز الذي اعتبر فيه ما أضافه ماركس في تاريخ الفكر، والذي كانت في أساس تحويل الجدل الهيغلي الذي كان مثالياً، إلى جدل مادي. يقول إنجلز ” إن الإنتاج الإقتصادي، والبنية المجتمعية التي تنجم عنهُ بالضرورة، يشكِّلان، في كل عهد تاريخيّ، الأساس للتاريخ السياسي والفكري لهذا العهد، وبالتالي فهو التاريخ كله”. وهي الفكرة التي أشار إليها كارل ماركس في مقدمة كتابه “إسهام في نقد الاقتصاد السياسي”، حيث يقول “تقوم بين الناس، في الإنتاج الاجتماعي لحياتهم، صلات معينة ضرورية مستقلة عن إرادتهم، وهي علاقات إنتاج تقابل درجة معينة من درجات نمو قواهم الإنتاجية المادية، ويؤلف مجموع هذه العلاقات الإنتاجية البنية الاقتصادية للمجتمع، وهي القاعدة المشخصة التي تقوم فوقها بنية حقوقية وسياسية، والتي تقابلها أشكال معينة من الوعي الاجتماعي”.

ربما كانت الإشارة إلى “العلاقات الإنتاجية” التي هي “البنية الاقتصادية للمجتمع” هي أساس الوصول إلى نتيجة تقول بأولوية العلاقة، لكن لا بد من التوقف عند نص ماركس (قبل إنجلز) الذي يبدأ بالتأكيد على أن هذه العلاقة تقوم “في الإنتاج الاجتماعي”، أي في الوجود الاقتصادي، أي أن الوجود الاقتصادي هو الذي يقيم هذه العلاقة في المستوى الاقتصادي. ولا شك في أن تحديد إنجلز يكون أكثر دقة لأنه يبدأ في “الإنتاج الاقتصادي”، ومن ثم يشير إلى “البنية المجتمعية التي تنجم عنهُ بالضرورة “، وهي التي تتعلق بالطبقات. ماركس تحدث عن العلاقة في المستوى الاقتصادي، وإنجلز تحدث عن العلاقة في المستوى المجتمعي، لكن كلاهما يعتبر أن الإنتاج الاقتصادي هو المركز في فكرتهما. فالعلاقة هي نتيجة وجود اقتصادي، سواء كانت هذه العلاقة تتعلق بالمستوى الاقتصادي أو بالمستوى المجتمعي. فليس من علاقة بين البروليتاري والرأسمالي إلا بوجود المصنع، وأصلاً ليس من رأسمالي ولا بروليتاري بدون وجود المصنع وليس المال فقط. فالمصنع الذي ينشأ عن توظيف الرأسمال الذي يملكه الرأسمالي، هو الذي يفرض الحاجة لوجود العامل، ومن ثم هذا ما يؤسس لوجود العلاقة بين الرأسمالي والعامل.

بالتالي، بدون المصنع ليس من بروليتاري ولا رأسمالي، فالبروليتاري هو العامل في المصنع، والرأسمالي بالأساس هو الذي يوظّف ماله في الصناعة لكي يتحوّل إلى رأسمال ويصبح هو رأسمالياً، ولقد نشأت الرأسمالية أصلاً بعد اكتشاف الصناعة. ربما يكون هناك مالك الأرض والفلاح، وأيضاً لا بد من وجود الأرض أصلاً والأدوات التي تسمح لأن تتحوّل إلى وسيلة إنتاج. وربما يكون هناك التاجر الذي يعتمد على بيع إنتاج الأرض أو الصناعة. لكن وسيلة الإنتاج هي مركز نشوء نمط الإنتاج، حيث أنها منتج الفائض.

بهذا يكون الاقتصاد هو الأساس المادي الذي تقوم عليه العلاقات المجتمعية، “وهي القاعدة المشخصة التي تقوم فوقها بنية حقوقية وسياسية، والتي تقابلها أشكال معينة من الوعي الاجتماعي”. وهنا تكمن مادية الجدل، ومادية الماركسية. فالاقتصاد هو “الوجود المادي”، التي تُنشئ علاقات في المستوى الاقتصادي، وفي مستوى الطبقات، وهذه كلها هي “المشخّص”. فالمشخّص هو الوجود المادي والعلاقات التي تقوم على أساسه. وهو القاعدة المجتمعية التي تقوم عليها “بنية فوقية”، لهذا جرى اعتبار أنها البنية التحتية.

الآن، حين ننطلق من العلاقة كأساس دون “الأساس المادي الذي أنتجها”، نكون قد انتقلنا إلى المثالية، حيث يصبح الوجود المادي هو نتاج العلاقة، أو تحلّ العلاقة محلّ الوجود المادي الذي يتلاشى، فتصبح العلاقة معلقة في الهواء. فليس وجود البروليتاري هو الذي أوجد المصنع، ولم يتشكّل الرأسمال إلا بوجود الصناعة. وبالتالي نشأت العلاقة بين البروليتاري والرأسمالي عبر المصنع، وهي في الصراع الطبقي بينهما لا قيمة لها دون التحليل الاقتصادي الذي تكون الصناعة في مركزه. فالصراع بينهما يبدأ من استغلال جهد البروليتاري، وتحقيق فائض القيمة. وهذا يعني الحصول على أجر لا يسمح بعيش كريم، الأمر الذي يفجّر الاحتجاج. هذه هي العلاقة الاقتصادية التي تتحوّل إلى علاقة طبقية من خلال الانتقال من البروليتاري الى إلطبقة البروليتارية، لينتج عنها صراع الطبقات. هذا هو الشكل المتعلق بجزء من الصراع الطبقي، لكن يمكن لمس الأمر ذاته في مجمل البنية، حيث يكون الوجود المادي هو أساس نشوء العلاقة.

ولهذا لا يمكن تحديد نمط الإنتاج دون البدء من وسيلة الإنتاج والعمل (قوى الإنتاج) قبل تحديد الطبقات والتكوين المجتمعي. ولا شك في أن إشكالية تحديد أنماط الإنتاج في التاريخ العالمي نتجت عن عدم البدء من الوجود المادي هذا، وركزت على العلاقات، وما ينتج عن الوجود المادي (وفي الغالب كررت ما حدس به ماركس، دون محاولة تدقيقه عبر دراسة التاريخ، وأصلاً دون تدقيق المفاهيم والمصطلحات، ودون البدء من الأساس المادي). وهو الأمر الذي منع نشوء منظور مادي للتاريخ يعيد تأسيس مسار تطوره، فظل يتكرر ما “شلفه” ماركس وهو يحاول التأكيد على أن التاريخ يتطور وفق أنماط إنتاج تقوم على نمط الاقتصاد، حيث كان يريد التمثيل على ما يقول دون أن يكون قد درس التاريخ جيداً، ولهذا غلَّب حدسه أكثر مما أعطى رؤية علمية كما فعل وهو يبحث في النمط الرأسمالي. لقد انحكم فهم التاريخ بالتالي لمنظور مثالي، قام على تكرار نصوص لماركس بصفتها قوانين من جهة، وباستمرار الانطلاق من العلاقة وليس من الوجود من جهة أخرى.

وهذا المنطق يحكم فهم الحاضر كما يحكم فهم التاريخ، وبالتالي يمنع رؤية علمية لمسار الصراع. وإذا كانت العلاقة تتعلق بالمستوى الاقتصادي، أو فيما يتعلق بالطبقات، فإنها تتمحور أكثر في المستوى السياسي، حيث تظهر في علاقة أحزاب/ سلطة، أو كذلك في علاقة دولة/ عالم. وهو ما يظهر كذلك في العلاقة بين “أيديولوجيات”، أو طوائف، أو أحزاب فيما بينها. حتى الطبقات تتلاشى هنا، وليس الاقتصاد فحسب، وتصبح العلاقة السياسية هي الأساس. هنا ينتقل التحديد من الأساس الاقتصادي إلى الأساس السياسي، لكنه ينتقل كذلك إلى الأساس الأيديولوجي (الطوائف مثلاً كما يفعل مهدي عامل). وتصبح البنية الفوقية هي المحدِّد وليس البنية التحتية. فيجري قلب ماركس لكي يقف على رأسه بعد أن كان قد أوقف هيغل على قدميه.

الوجود هو الأساس وليس العلاقة سوى نتاج ذلك، والماركسية تبدأ من الوجود وليس من العلاقة. ولا شك أن البدء من العلاقة يعني العودة إلى المنظور المثالي. حيث أن العلاقة هي نتيجة الوجود المادي ولا يمكن أن تكون أساس هذا الوجود. وكل انطلاق من العلاقة كأساس يعني الانتقال إلى الفهم المثالي. هذا ما وقع به مهدي عامل، وتيارات ماركسية أخرى، حيث أصبح “الثقافوي” والسياسي هما أساس الرؤية وليس الوجود المادي. فالعلاقة تصبح علاقة “طوائف” أو تيارات أيديولوجية. وتصبح علاقة بين أحزاب، أو بين أحزاب والدولة، أو بين الدول. وهي هنا “ترتفع” من الاقتصادي (الذي بات متجاهلاً) إلى الأيديولوجي أو السياسي. لتصبح “البنية الفوقية” بأحد عنصريها أو بعنصريها معاً، هي أساس الوجود المادي، أي أساس وجود “البنية التحتية” (الاقتصاد والطبقات). بذلك جرى إيقاف ماركس على رأسه، دون أن يبقى الجدل حتى بشكله الهيغلي قائماً. وبهذا جرى تكريس المنطق الصوري كاملاً.

الكاتب: سلامة كيلة

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع