بلغة بصرية عميقة وبعيدة عن التنميط والمألوف، استطاع المخرج والمعتقل الفلسطيني السابق، رائد أنضوني، أن ينتصر على سجانه الإسرائيلي ويجرده من إنسانيته، أمام العالم الذي أغمضَّ عينيه وأصمَّ أذنيه وهو يشاهد كل يوم جرائم الاحتلال تجاه شعب أعزل، لتتحول التجربة (تجربة الاعتقال) بمعناها الفلسطيني إلى مدخل لقراءة تجربة من أهم التجارب الإنسانية في تاريخنا المعاصر..
صاحب «ارتجال»، و«صداع»، و«اصطياد أشباح»، الحاصل مؤخراً على جائزة أفضل فيلم وثائقي، في مهرجان برلين السينمائي الـ67، يحكي لـ”رمان” في هذا الحوار عن تفاصيل اشتغاله على هذا الفيلم، الذي شاركه فيه أسرى فلسطينيون كانوا في سجون الاحتلال وتحديداً في سجن «المسكوبية» في القدس المحتلّة، والذي نقله إلى صفوف المخرجين الفلسطينيين الكبار، الذين وضعوا بنجاحاتهم السينما الفلسطينية على الخارطة السينمائية العالمية.
تعيد في «اصطياد الأشباح» بناء سجن «المسكوبية» مع معتقلين سابقين، وتتوالى فيه المشاهد التي تروي التعذيب والقمع وامتهان الكرامة الإنسانية، كي تبني مداخل متعددة للاحتفاء بالحياة. ما الذي حفزّك لفكرة هذا الفيلم؟
لم يكن لدي ما أقوله، كل ما في الأمر أن هنالك مشاعر عميقة لدي مرتبطة بموضوع الاعتقال والتحقيق وامتهان الكرامة، سواء كانت هذه المشاعر مرتبطة بتجربة اعتقالي عند كنت مراهقاً، وبكوني أعيش في مجتمع الكثير من أبنائه تعرضوا ولا زالوا لتجربة الاعتقال في سجون الاحتلال، الفيلم في النهاية هو محاولة لتجسيد الحسي إلى مرئي مسموع.
هل فوجئت بحصول الفيلم على جائزة بمهرجان عالمي في برلين تحديداً؟ وماذا عنى لك هذا الفوز خاصَّة أن مضمون الفيلم يشكل إدانة واضحة لإسرائيل؟
لا لم تفاجئني الجائزه، فقد أحسست منذ العرض الأول للفيلم في مهرجان برلين برد فعل الجمهور على هذا العمل، لكن مشاعري عند الإعلان عن الجائزه كانت مضطربة، أعتقد أن فكرة العمل في الزنازين المظلمة لفترة طويلة ثم ذلك التكريم تحت الضوء الكبير في برلين كان تناقضاً صعباً وجميلاً في نفس الوقت. أما الفوز نفسه فهو اعتراف مهم وكبير بأهمية الفيلم من الناحية الفنية وهو إعادة إعتبار لفكرة الفيلم الرئيسية (الاعتقال)، التي اختار العالم أن يتجاهلها على الرغم من أن مراكز التحقيق والسجون الإسرائيلية لا تزال موجودة حتى اللحظة.
عنوان الفيلم حمّال أوجه، من هو «الصيّاد» هنا من وجهة نظرك؟
عنوان الفيلم خلال فترة العمل كان بالنسبة لي دليل عمل، فقد كان مهماً أن أضع لنفسي حدود البحث حتى لا أقع في “كليشيهات” الضحية والبطولة التقليدية، فأنا منذ البداية أعرف أن فيلمي هذا ليس عن السجن أو مركز التحقيق، ولا هو عن أساليب التحقيق، إنه فيلم معاصر، عن ذلك الشيء الذي يبقى ملازماً للسجين بعد خروجه من السجن، ذلك هو «الشبح» الذي كنت أبحث عنه، لكن بالتأكيد رحلة البحث التي انطلقت من هناك اتسعت وأعطت معاني أكبر وأعمق للعنوان ذاته.
أبطال الفيلم جذبهم إعلان في صحيفة برام الله يطلب معتقلين سابقين لتمثيل فيلم، وتضمّن الفيلم الكثير من مشاهد الانهيار والدموع، وهو ما تطلب وجود طبيب نفسي خلال التصوير. إلى أي مدى نجحت في نقل معاناة المعتقلين الفلسطينيين عامَّة، ومعاناتك خاصَّة كمعتقل سابق؟
أنا لم أبحث أصلاً عن نقل المعاناة، ولا أرى في نفسي أو في أي من شخصيات الفيلم ضحايا، نحن ناجين من تجارب صعبة، تجارب أضافت لحياتنا معاني أكبر وأعمق، نحن نشارك هذه التجربة من خلال هذا الفيلم مع العالم، لأن تجربتنا غنية ويستطيع المشاهد من خلالها أن يكتشف ما هو أعمق في النفس البشرية.
ولمَ الاستعانة بطبيب نفسي؟
كان ذلك لأسباب شخصية تتعلق بضمان أن طريقة عملي لن تؤذي أياً من الشخصيات المشاركة، فالإستشارة كانت لها علاقه بطريقة العمل وليس إستشارات لها علاقة بالقصص الشخصية للمشاركين.
“ليس هذا الفيلم هو الذي أردته”، قلت ذلك بعد 60 يوم من التصوير، ومونتاج استمر نحو 6 أشهر.. لمَ قلتَ ذلك؟
في النهاية وإن كان هذا الفيلم يتضمن مشاهد تمثيلية فهو فيلم وثائقي مبني على حكايات حقيقية، لذلك لم يكن بإمكاني إلا أن أتأقلم أنا والسيناريو المتخيل في ذهني مع ما يجري بالواقع، لقد كان لدي سيناريو معد مسبقاً، لكنني في اليوم الأول للتصوير أهملته بالكامل وبدأت العمل على صياغة الفيلم من تجربة إعادة بناء مركز التحقيق من قبل المعتقلين أنفسهم، هذا هو أصعب وأجمل ما في الفيلم الوثائقي، فالحقيقة تمنحك باستمرار أكثر بكثير مما قد تستطيع أن تتخيل بشكل مسبق.
هل واجهت صعوبة في إنتاج هذا الفيلم؟
استغرق الأمر بعض الوقت والسبب أن في الفيلم مغامرة كبيرة لها علاقة بالشكل الفني، فهو ليس فيلم وثائقي تقليدي ولا فيلم روائي بحت، كان السؤال الأهم كيف بالإمكان أن نصنع صورة واحدة متكاملة من نمطين مختلفين؟ كيف للمشاهد أن يتابع مشهداً وثائقياً يليه مشهد روائي دون أن يتشتت؟ في السينما كل الأشياء ممكنة إذا استطاع السينمائي أن يجد القواعد السليمة للغته السينمائية، إذا كانت تلك اللغة نابعة من الفيلم ذاته وليست مسقطة عليه.
هذه الواقعية في الأحداث وطريقة صناعة الشريط، إلى أي مدى أثرت في استخدام لغة سينمائية تتأرجّح بين الوثائقي والروائي؟ وإلى أي مدى نجحت في ذلك؟
الفيلم ذاته، موضوعه، المشاعر التي يحتوي، واقعيته وسرياليته هي التي فرضت هذا النمط، فقد كان واضحاً بالنسبة لي منذ البداية أن فيلماً روائياً تقليدياً لن يحمل هذه الحكاية بكل ما فيها من مشاعر وتناقضات، كذلك الفيلم الوثائقي التقليدي. أما ما يخص الشق الثاني من سؤالك وهو “إلى أي مدى نجحت؟” فأعتقد أنني نجحت إلى حد كبير في ايجاد اللغة المناسبة لهذا الشريط.
قررت في «اصطياد الأشباح»، وللمرة الثانية، الإستعانة بمدير تصوير لا يجيد اللغة العربية، حدث ذلك في فيلمك السابق «صداع»، ما السبب؟
كان الأمر في البداية نابعاً من فقداننا لمديري تصوير بخبرة كافية لمثل أفلام كهذه، ثم تحول الأمر إلى إدهاش بالنسبة لي، وذلك يعود إلى أن افتقاد المصور للمعاني اللغوية يجعله خلال العمل يبحث عن المعاني الأعمق والمشاعر بشكلها المطلق، تجده يتبع لغة الجسد والطاقة المتدفقة من المشهد دون الاكتراث للمحكي، هي مغامرة لكنها مدهشة النتائج.
هل موضوع الفيلم محصور بالمعتقلين في سجون الاحتلال أم أن له بعداً عربياً وإنسانياً أوسع؟
هذا الفيلم يتعامل مع ما يلازم السجين طوال حياته حتى بعد خروجه من السجن. السجن هو السجن أين كان مكانه وأين كان السجين أو السجان، أنا لم أبحث عن المعاني السياسية بقدر بحثي في الذات الإنسانية العميقة للسجين.
هل يمكن اعتبار الفيلم امتداداً لفيلمك السابق «صداع»، بالحديث عن البعد النفسي في الفيلمين والمرتبط بظرف الاحتلال، وهل هو مشروع واحد تعمل عليه؟
ليس لدي مشروع من الناحية النظرية، كل ما في الأمر أنني عند البدء في مشروع جديد أنساق للحسي والباطني، ربما هذا هو الأمر المشترك بين «صداع» و«اصطياد الأشباح»، هذا الأمر قد يستمر في مشروع جديد قادم وقد يتغير، فنحن كسينمائيين عندما نعمل على مشروع ما لفترة طويلة فإن إنجازنا للفيلم يغيرنا ويكسبنا تجربة جديدة ومواجهة أعمق مع الذات، كل شيء متغير في السينما، لذلك أنا لا أعرف ماذا سيكون منطق بحثي السينمائي في المشروع القادم.
هل هناك خطوط حمر تتوقف أمامها عند الشروع بأي عمل فني جديد؟
طبعاً، لأنه من الأهمية أن نصنع صورة صادمة بالمعنى الإيجابي، صورة قادرة على أن تثير أسئلة جديدة وعميقة لدى المشاهد لتجعله يقف أمام ذاته ومعتقداته وطريقة تفكيره وتحليله للأمور، خطوطي الحمراء هي أن لا أجعل من المشاهد متلقي سلبي لوجهة نظري أو أن أستفزه بمعتقداته بطريقة تلقينية، ما الجدوى من ذلك؟
برأيك هل السينما هي الأقدر اليوم على طرح القضية الفلسطينية والتقاط إرهاصات الأمل؟
إذا اعتبرنا أن القضية الفلسطينية ليست قضية أرض فقط بل هي قضية إنسان أيضاً، فأنا أعتقد أن السينما هي بالتأكيد الأقدر على طرح هذه القضية.
إلى أي مدى تتفق مع رؤية صديقنا الناقد بشّار إبراهيم، الذي غادرنا قبل أيام، بأنّ “السينما المستقلّة تبقى الخيار المُتاح، وبارقة الأمل”؟
السينما هي إعاده صياغة لذاتنا، هي المرآه التي نستطيع من خلالها أن نرى تفاصيلنا الغائبة والمنسية، هي الطريقه الأمثل لانبثاقنا من جديد كأمه وكبشر، اليوم وفي واقعنا الذي نعيش هي الفعل الأكثر أهميه بالنسبه لنا.
كيف تفهم “سينما المؤلف”؟
أعتقد أن “سينما المؤلف” بشكل عام هي السينما التي لا تخضع لقوانين السوق والعرض والطلب، أما التجارب فهي مختلفة، كل مشروع له متطلباته وطريقة إنجازه على مستوى الإنتاج وعلى المستوى الإبداعي أيضاً.
أخيراً، ما هي مشاريعك الفنية الجديدة؟
لا أعرف بعد، جائزه مهرجان برلين السينمائي أربكتني، أعتقد أنها سيف ذو حدين، من جهة هي إعتراف مهم ودافع كبير للإنجاز، ومن جهة ثانية هي قيد من التوقعات أنا بحاجة لأن أتخلص منه لكي أستطيع أن أصنع فلمي القادم ضمن المعاير التي ترضيني وليس ضمن إطار ما يتوقعه الآخرون.
جدير بالذكر أن المخرج السينمائي رائد أنضوني من مواليد عام 1967 في قرية بيت ساحور قضاء بيت لحم. وهو يقيم في باريس منذ 8 سنوات، ويعمل في السينما المستقلّة منذ العام 1997، ومن مؤسسي “دار للإنتاج السينمائي” ومقرها رام الله. قام بإنتاج عدد من الأفلام الوثائقية التي حازت على جوائز عالمية مثل: «موسم حب» (2000)، و«فلسطين: بث مباشر» (2001) لرشيد مشهراوي، و«بيان بصري» (2001)، و«اجتياح» (2003) لنزار حسن، و«جمال: قصة شجاعة» (2000) لسائد أنضوني. وله كمخرج «ارتجال» (2005) والذي نال عنه جائزة “الثقافة والفن” في مسابقة البحر المتوسط العالمية للأفلام الوثائقية عام 2006. و«صداع» (2011) والذي نال جائزة «التانيت الذهبي» لأفضل فيلم وثائقي في مهرجان أيام قرطاج السينمائية في تونس، و«اصطياد الأشباح» (2016). لمتابعة أخبار فيلم «اصطياد الأشباح»، هنا صفحتها على الفيسبوك:
صور من الفيلم: