تجلّيات العولمة والعبرنة في المجتمع العربي الفلسطيني في إسرائيل، وتأثيراتها وإسقاطاتها عليه، ولا سيما فيما يتعلق بالهوية واللغة العربية والمشهد اللغوي، من الإشكاليات الشائكة في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، التي يبحثها بعمق كتاب صدر أخيراً، عن “مؤسّسة الدراسات الفلسطينية” (بيروت/ رام الله)، للباحث والمحاضر الأكاديمي الفلسطيني بروفيسور محمد أمارة. الكتاب الموسوم بـ«العولمة والعبرنة في المشهد اللغوي العربي الفلسطيني في إسرائيل»، يبحث أيضاً بإسهاب، مدى تغلغل ظاهرة العبرنة -مع كل ما تحمله من دلالات لغوية وأيديولوجية- وتشابكها مع الأسرلة والعولمة والتكنولوجيا.
والعبرنة هنا بمعنى سياسة أيديولوجية؛ وهي عبارة عن هندسة لغوية لتغيير الواقع بجغرافيته وتاريخه ومسمياته ومعالمه المختلفة. وفقاً للمؤلّف، الذي يرى أنه و”إن كانت العبرنة قد استهدفت اليهود وخاصة ذوي الأصول العربية والقادمين من دول شمال إفريقيا والمشرق العربي، إلّا أنها شملت المكان وما بقي عليه من سكان أصليين نجوا من عملية التهجير الواسعة وظلوا في قراهم ومدنهم”. وينتقل المؤلف بدراسته لبحث تأثير ذلك كله في هذا المجتمع، الذي لا يخفى على أحد أنه وجد نفسه، غداة عام النكبة 1948، جزءاً من المواطنة في “إسرائيل”، التي سعت منذ اليوم الأول لاحتلال وعيه وأسرلته لاعتباره “طابوراً خامساً” ينبغي تحييده.
كذلك يرصد الكتاب، الذي جاء في 353 صفحة، مظاهر العبرنة والعولمة في المشهد اللغوي العربي الفلسطيني في “إسرائيل” من خلال عبرنة أسماء المواقع العربية، وأسماء المحال التجارية – أول رئيس وزراء للكيان المحتل دافيد بن غوريون، كان المبادر لتشكيل ما يسمّى بـ “لجنة تسميات” في أعقاب قيام الدولة العبرية -، للقيام باستحداث أسماء عبرية للأماكن بدلاً من الأسماء الفلسطينية.
أيضاً، يرصد المؤلّف في كتابه الجديد، المشهد اللغوي في المدارس داخل الخط الأخضر، ومدى استعمال المواطنين الفلسطينيين للغة العبرية واللغات الأجنبية، وخصوصاً الإنكليزية. كما يتناول مسألة اللغة البينية التي يُطلق عليها أيضاً: “الهجين اللغوي”، أي الخلط ما بين لغتين، والتي تستخدم في مناطق معينة أكثر من غيرها داخل أراضي 48، فكلما زادت البلدات العربية، خاصة الريفية، قرباً للمراكز اليهودية كلما زاد استخدام هذه اللغة الهجينة.
أمارة، الذي تشمل اهتماماته الأكاديمية مجالات: التربية اللغوية؛ السياسة اللغوية؛ علم اللغة-الاجتماعي؛ اللغة والسياسة؛ الهويات الجماعية، يبيّن في كتابه الجديد، كيف أنّ تأثيرات ظاهرتي العبرنة والعولمة تشمل مختلف مجالات الحياة في “إسرائيل”، ولا تتوقّف عند الحاجات النفعية فحسب، بل تُعدُّ أيضاً مؤشراً إلى مكان ومكانة الثقافات المرتبطة بهما، وتبيان أهميتهما من الناحية الرمزية. هذا يقودنا بالتأكيد -بحسب المؤلّف-، إلى التفكير في الهويات المرتبطة بهما -سواء الإسرائيلية أو العالمية- والتساؤل: ما هو موقع الهوية العربية الفلسطينية؟
المنحى اللغوي لدى المجتمع العربي الفلسطيني في “إسرائيل” الذي مرّ بتحوّلات جيو-سياسية هائلة في أعقاب نكبة عام 1948، وأصبح أبناؤه أقلّية مهمشة داخل الدولة العبرية، ومرواً بمجموعة من التغيّرات التي مسّت بنيتهم الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والهوياتية، فضلاً عن لغتهم العربية ومخزونهم اللغوي، هو (أي المنحى اللغوي) الموضوع الأساس الذي يتمحور حوله الكتاب، الذي قسّمهُ مؤلّفه إلى ثمانية فصول رئيسية هي: الفصل الأول «اللغة والعولمة والعبرنة”؛ الفصل الثاني «الإطار الكولونيالي للغة العربية في الواقع الصراعي في إسرائيل»؛ الفصل الثالث «اللغة العربية في فلسطين/ إسرائيل»؛ الفصل الرابع «انعكاسات العولمة والعبرنة في المخزون اللغوي العربي الفلسطيني في إسرائيل»؛ الفصل الخامس «عبرنة أسماء المواقع العربية»؛ الفصل السادس «مميّزات المشهد اللغوي العربي الفلسطيني في إسرائيل»؛ الفصل السابع «المشهد اللغوي في أسماء المحال التجارية وتجلّيات العروبية والعولمة والعبرنة»؛ والفصل الثامن والأخير «المشهد اللغوي في المدارس».
وعبر هذه الفصول الثمانية، يأخذنا المؤلّف في رحلة بحث معرفية، ليبيّن لنا في البدء، أنّ لغة الضاد بقيت اللغة المهيمنة لقرون طويلة على الرغم من وجود العديد من اللغات في المشهد اللغوي الفلسطيني، حيث تعزّز حضورها وحيويتها بعد الفتح الإسلامي لفلسطين، وعلى الرغم من أنّ فلسطين مرّ عليها مستعمرون من مختلف الشعوب، فإنها حافظت على هويتها العربية والإسلامية، وكذلك على اللغة العربية. مشيراً إلى أنّ التغيير الجذري حدث بعد التحوّلات الجيوسياسية في المنطقة وإنشاء الكيان الإسرائيلي، الذي سعى قادته منذ قيام “الدولة” إلى تهويد الحيّز المحتل، وجعل اللغة العبرية هي اللغة المهيمنة في المجالات العامّة. وعلى الرغم من إبقاء العربية لغة رسمية (إلى أنّ سُنّ قانون القومية سنة 2018 وأُلغيت رسميتها)، فإنها في الواقع كانت مفرغة من مضامينها القومية. كما يشير إلى ذلك مختصّون.
يوضح أمارة، أنّ منجزه المعرفي الذي نتناوله بالعرض هنا، هو نتاج عدة مقالات أكاديمية كتبها باللغة الإنجليزية عن هذا الموضوع، وكتاب «العولمة والعبرنة في المشهد اللغوي العربي الفلسطيني في إسرائيل» جاء ليشمل كل هذه المواضيع باللغة العربية. صاحب «لغتي هويتي: نحو سياسة لغوية شمولية لمواجهة تحديات اللغة العربية في إسرائيل» يؤكّد في دراسته هذه، أنّ اللغة أساساً ممارسة ثقافية، وأنها موقع للتنافس الأيديولوجي، كونها تشتمل على علاقات قوى غير متجانسة بين المجموعات والأفراد وأنّ الصراعات المؤدلجة أكثر حدّة من غيرها من الصراعات، حيث تكون لها انعكاسات وتفاعلات لغوية واضحة وقوية، ويتبنّى وجهة النظر التي تعتبر اللغة جزءاً من الحالة الاستعمارية السائدة في الصراع الدائر في الشرق الأوسط، والتي انبثقت من مفهوم الاستشراق اللغوي المكمل للحالة الاستعمارية وتجلّياته في حالة اللغة العربية ومكانتها في “إسرائيل”.
كذلك يشير أمارة، إلى أنّ دراسة التاريخ الاجتماعي للغة العربية ونتاجاتها والمواقف منها داخل “إسرائيل” تنبثق من السياق الاستعماري، حيث رأت مؤسّسات الدولة اللغة العربية كلغة أجنبية، ومسألة السيطرة عليها هي تعبير عن القوة الاجتماعية والسياسية لليهود في الدولة العبرية. ومثلما هي الحال في الأنظمة الاستعمارية الأخرى، تعمل اللغة في خدمة المؤسّسة التي تعمل -كما يقول المؤلّف – من ناحية على مصادرة الفضاء الثقافي– الإقليمي وقدرة اللغة العربية على أن تكون أداة لتعزيز الهوية القومية. ومن ناحية أخرى، هي تنظر إلى اللغة لدى الأقلّية العربية الفلسطينية في “إسرائيل”، على أنها أقل شأناً ولا تلائم المجتمع اليهودي الذي يرى أنه يمتلك ثقافة أعلى شأناً في منطقة الشرق الأوسط.
وعن «اللغة العربية ودورها في تشكيل الهوية الجمعية العربية»، يقول أمارة في دراسة له حملت ذات العنوان، ونشرت بمجلّة “الدراسات الفلسطينية”، في العدد (131) – صيف 2022: “إنّ اللغة هي أحد المركّبات المهمة التي تشكّل الهوية الجمعية، وأهميتها تختلف باختلاف الأوضاع والسياقات، وهذه الأهمية أقل بالنسبة إلى بعض المجموعات، وأكبر لدى مجموعات أُخرى”. ومن هذا المنطلق، تناولت دراسته اللغة العربية ودورها المحوري في تشكيل الهوية الجمعية في الدول العربية عامة، ولدى العرب الفلسطينيين في إسرائيل خاصّة. مشيراً في السياق، إلى أنّ اللغة مرآة عاكسة لما يحدث في المجتمع وتحوّلاته، وهي مشكِّلة للتغيّرات الجارية فيه وليست ناقلة لها فقط. “فنحن لا نستطيع أن نقوم بأبسط الأمور الحياتية من دون أن تكون اللغة إحدى أدواتها المهمة، ذلك بأنها من أهم الوسائل التي تجعل الإنسان يرتقي على وجه هذه البسيطة، فقد طوّرها للحديث عن الماضي والحاضر والمستقبل”.
إلى ذلك، يبيّن الباحث والمحاضر الأكاديمي الفلسطيني في أطروحاته الفكرية، أنّ “مؤسّسات الدولة العبرية -والعرب الفلسطينيين أنفسهم- ينظرون إلى اللغة العربية الفصحى باعتبارها رمزاً للوطنية والقومية، وبالتالي أدركوا أنّ الطلاقة فيها والسيطرة عليها من شأنه أن يمكن من تعزيز هوية هذه المجموعة، ولذلك عملت “إسرائيل” على منع هذه العملية”.
لفهم النظرة الإسرائيلية الاستعلائية للغة العربية – لغة أهل البلاد الأصليين وأصحاب الأرض -، نستشهد هنا بما ذهب إليه الباحث الأكاديمي الفلسطيني إسماعيل الناشف، في مقدّمة كتابه «اللغة العربية في النظام الصهيوني – قصة قناع استعماري»، الصادر عن “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات”، في عام 2019، من أنه “شكّلت اللغة العربية ومنتجاتها – ولا تزال – في سياق النظام الصهيوني، كما في الأنظمة الاستعمارية الأخرى في العالم العربي، شكّلت حلبة دينامية للقوى الاجتماعية – الاقتصادية والسياسية العاملة فيه. وحدّد الانشغال باللغة العربية منذ عام 1948، حلبة بنيوية تحدث فيها صراعات، تُبنى هويات وأخرى تفكك، تصقل تركيبات جديدة، وتقوى القائمة، وتهدم أخرى. من وجهة نظر إسرائيل الّتي بادرت إلى إقامة هذه الحلبة، فإنّ وظيفتها الأساسية كانت موقعاً لبناء الشخصية الفردية والجماعية للفلسطينيين الذين أصبحوا مواطنيها؛ أي بناء هوية (العربي الإسرائيلي)”. يضيف الناشف: “وبغية أن تعمل هذه الحلبة كما يجب؛ تطلّب هذا من أجهزة الدولة، ومن القوى الاجتماعية الفلسطينية العاملة فيها، أن يترجموا قوتهم إلى شكل محدد من اللغة العربية ومنتجاتها”. مبيّناً أنّ “خطوة الترجمة ليست مفهومة ضمنياً، ولم تكن معطاة في جسد اللغة ذاته. لقد رسمت أجهزة الدولة ملامح الحلبة وحدودها، وكان على الفلسطينيين قبول هذه التحديدات، طوعاً أو كرهاً، لكن من أجل إعادة بناء اللغة العربية ومنتجاتها، بطريقة تعبّر عن موقف قوة اجتماعية سياسية ما، ثمة ضرورة لإحاطة معمقة باللغة العربية وتاريخها المتشعب والثري، ثم إنّ إعادة البناء هذه مبدأ ناظم، خطاب يفهمه الفلسطينيون في إسرائيل، ويمكّن من بناء أحداث اتصالية موجهة إليهم، وقد وُجدت هذه الشروط لبناء الحلبة البنيوية للغة العربية ومنتجاتها، في تلك اللحظة الفاصلة مع نهاية حرب عام 1948، لكنها لم تنبع من أحداث الحرب ذاتها، وإنما بُنيت في مستويات الواقع الاستعماري المختلفة منذ بداية القرن العشرين؛ إذ لم تكن آنذاك تعمل بالضرورة بالمستوى البنيوي، المنظم لمجال أو حقل اجتماعي منفصل، وذي قاعدة مادية – مؤسّساتية واضحة”.