عقَدَ “المركز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقية” (مدى الكرمل)، يوم الخميس 13 تمّوز/ يوليو الجاري، ندوة ثقافية في مقرّه بمدينة حيفا المحتلّة، لمناقشة كتاب «فلسطين.. مسائل في الحقيقة والعدالة» Palestine.. Matters of Truth and Justice ، للمُفكّر العربي عزمي بشارة، المدير العامّ لـ”المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات”، ورئيس مجلس أمناء “معهد الدوحة للدراسات العليا”، شارك فيها كلٍّ من: الباحث والأكاديمي مهنّد مصطفى، المدير العامّ لمركز (مدى الكرمل)؛ وبروفيسور نديم روحانا، أستاذ العلاقات الدولية ودراسات الصراع، ومدير “مركز دراسات الشرق الأوسط في كلّية “فليتشير للقانون والدبلوماسية” في جامعة “تافتس”، وزميل بحث غير مقيم في المركز؛ والباحثة والأكاديمية ليلى فرسخ، الأستاذة المشاركة في العلوم السياسية في جامعة “ماساتشوستس” بوسطن.
الكتاب صدر باللغة الإنكليزية، عن Hurst Publishers في لندن، في عام 2022، وهو من الكتب المرجعية في حقل الدراسات الفلسطينية، التي تطرح إجاباتٍ شاملةً لأبعاد الحالة الفلسطينية وتعقيداتها، وفي أطروحاتهِ يرتكّز المؤلّف بدءاً من العنوان على قضايا “الحقيقة”، و”العدالة” التي سيظلّ أبناء الشعب الفلسطيني يدفعون يومياً ثمناً لهما إلى أن تتحقّق على أرض الواقع.
الباحث والأكاديمي مهنّد مصطفى، المدير العامّ لمركز (مدى الكرمل)، افتتح الندوة الثقافية بتقديم تعريف موجز لكتاب «فلسطين.. مسائل في الحقيقة والعدالة» الهامّ، الذي حاول فيه بشارة سبر أغوار وتحليل تطوّر القضية الفلسطينية منذ بداية المشروع الصهيوني الاستعماري في فلسطين وحتّى الآن، وتحديداً التوقّف على محطّات مركزية في تاريخ القضية الفلسطينية، وبالذات المحطّات الأساسية التي بلورت هذه القضية منذ ثلاثين عام، فيما يتعلّق بـ “اتّفاق أوسلو” و”صفقة القرن”. ولكن الكاتب أيضاً، وفقاً للمتحدّث، يقوم بتحليل تاريخي وسياسي معمّق بالقضية الفلسطينية بعد النكبة. مصطفى، يقتبس في كلمته، جُملةّ من الكتاب يؤكّد عليها بشارة، وهي قوله: “لستُ محايداً تجاه أيّ شيء يتعلّق بقضية فلسطين أو أيّة قضية عادلة أُخرى”.
يتابع مصطفى معلّقاً: “هذا الاقتباس هو الذي يؤسّس لهذا الكتاب معرفياً وأخلاقياً وسياسياً، فالكاتب ليس محايداً أخلاقياً ولا سياسياً في تناوله لقضية فلسطين، ولكنّ هذا لا يمنعه أن يدرس ويكتب حول هذه القضية، بموضوعية تامّة، مع انحياز تامّ لهذه القضية”. ويضيف: “لفت انتباهي في عنوان الكتاب “الحقيقة” و”العدالة”، وسأتوقّف عند هاتين الكلمتين: “الحقيقة” من جهة، و”العدالة” من جهة أخرى. أمّا حول موضوع “الحقيقة” فهذا يعني أنّ فلسطين لا تقبل المساومات السردية؛ الأمر ليس سردية فلسطينية، هنالك حقيقة حول فلسطين، وهذه الحقيقة تتمثّل بتهجير شعب من وطنه، هذه الحقيقة تتمثّل بمشروع استعماري قادته الحركة الصهيونية لتهجير شعب فلسطين، هي غير قابلة لأيّ نقاش سردي، وهذا هو مفهوم الانحياز للقضية الفلسطينية، وهذا هو مفهوم الانحياز الأخلاقي، والانحياز السياسي، والانحياز البحثي للقضية الفلسطينية. نحن لا نساوم على سردية فلسطين”.
يُردفُ مصطفى: “أمّا مسألة “العدالة” حيث يربط الكاتب موقفه من قضية فلسطين بموقف سياسي أخلاقي، يتحدّى بمفهوم “العدالة”، أنّ أيّ تعامل مع قضية فلسطين يتجاوز مفهوم العدالة للشعب الفلسطيني: العدالة التاريخية والسياسية المتمثّلة بالمساواة والتحرّر من فلسطين، فإنه بدونها، لا يمكن الحديث عن حلٍّ سياسي فلسطيني، لذلك فإنّ الكاتب لم يختر بعنوانه على سبيل المثال «فلسطين.. مسائل في الحقيقة والحلول السياسية»، إنما اختار موضوع العدالة كعتبة أساسية في أيّ تعامل ومقاربة سياسية لقضية فلسطين، لذلك، فإنّ الكتاب ليس كتاباً بحثياً فقط، وهذا ما يقوله المؤلّف، بل يحمل بُعداً شخصياً. يقول بشارة: “إنّ الكتاب هو مسألة شخصية””. مصطفى، أشار في مداخلته الافتتاحية للندوة أيضاً، إلى أنّ الكتاب لا يقدّم لنا نصّاً بحثياً ومعرفياً، إنما يقدّم لنا نصّاً سياسياً، فيه دمجٌ ما بين إنتاج الباحث من جهة، والمشروع السياسي الذي يقدّمه من تجربته كمناضل فلسطيني، اشتبك مع القضية الفلسطينية، وكان جزءاً منها.
الانحياز أحدُ مركّبات البحث عن الحقيقة
أستاذ العلاقات الدولية ودراسات الصراع، ومدير “مركز دراسات الشرق الأوسط في كلّية “فليتشير للقانون والدبلوماسية” في جامعة “تافتس” الأمريكية، بروفيسور نديم روحانا، شدّد في مستهل مداخلته على أنّ كتاب بشارة الذي نناقشه الآن، هو عن فلسطين، لا عن إسرائيل، أو عن الصهيونية. وهو أيضاً، ليس عن الصراع العربي الإسرائيلي، أو عن الحلول السياسية، على الرغم من معالجته لكلِّ هذه المواضيع بإسهاب، ولكن يُعالجها كما تتعلّق بالموضوع الرئيس الذي يُشغل المؤلّف في الكتاب كما ينعكس في عنوانه «فلسطين.. مسائل في الحقيقة والحلول السياسية»، وكما يَظهر أيضاً في اختيار المؤلّف لغلاف الكتاب، “لأني أعرف أنّ بشارة شارك في اختيار الغلاف ليكون فلسطيني وهو جميل”.
اعتبر روحانا أنّ الكتاب مُميّز عن كثير من الكتب في هذا المجال لمؤلّفين كبار؛ ليس لأنّ الكتب الأُخرى غير مهمّة، بل لفرادة ما يُحضره المؤلّف في دراسته ونقاشه، مشيراً إلى أنّ بشارة رغم تواضُعه في تقديم نفسه بأنه ليس متخصّصاً في دراسة التاريخ الفلسطيني، ولا في إسرائيل، ولا الصهيونية، فإنه يُظهر في الوقت نفسه إحاطة أكاديمية مُدهشة بكلّ ما تقدّم، ويعتمد في دراسته على باحثين فلسطينيين وإسرائيليين وعرب وغربيين. وهو بالإضافة الى إحاطته الأكاديمية، يُحضر إلى الكتاب المعايشة الأكاديمية والسياسية، والمعرفة الحميمة بالمجتمعين الفلسطيني والإسرائيلي، والمعرفة بالعالم العربي الأوسع، ويُحضر التجربة السياسية والتنظيمية، والاطّلاع على التاريخ الأوروبي الحديث الذي يستحضره عند الحديث عن المسألة العربية والمسألة اليهودية وتشابُكهما؛ كما حدث في قضية تصدير قضية اللاسامية الأوروبية إلى العالم العربي. كما يتميّز كتاب «فلسطين.. مسائل في الحقيقة والحلول السياسية» أيضاً، بحسب أستاذ العلاقات الدولية ودراسات الصراع، بـ “الحذر الأكاديمي والدقّة، واعتماده على مصادر متعدّدة، وإعطائه الدارسين الفلسطينيين على وجه خاصّ، من جيل المؤسّسين إلى الأجيال الشابة، حقّهم في الإشارة إليهم وتقدير عملهم”.
كما رأى روحانا أنّ عمل المؤلّف في هذا الكتاب اعتمد على دراسات سابقة له حول المسألة الفلسطينية. كما أننا لمسنا كيف يُحضر استنتاجاته من دراسات ومقالات ومحاضرات سابقة له في الثلاثين سنة الأخيرة، وأنّه لا يخاطب القارئ الغربي فقط، بل كلّ من يريد أن يتعمّق في معرفة القضية الفلسطينية، مُشدّداً على قضايا العدل والحقيقة. وعند هذا التشديد، لا يريد المؤلّف، كما يذكر، أن يكون حيادياً، بل يعتمد ما يُسمّيه الموضوعية العلمية النقدية التي تعني استخدام الأساليب العلمية والمعطيات المتوفّرة، وتعني القيام بالمجهود الواعي لتجنّب الانتقائية في البحث عن الحقائق وعرضها، وتعني أيضاً عدم السماح للمواقف الأيديولوجية والحكم القيمي بالتأثير في عمليات التحليل المنطقي.
الخلاصة، وفقاً لمدير “مركز دراسات الشرق الأوسط في كلّية “فليتشير للقانون والدبلوماسية”، هي أنه بعد قراءته للكتاب ومُراجعته الحذرة، هي أنّ بشارة نجح في ذلك؛ فـ “هو لا يتجنّب النقد والانتقاد، بأسلوب سليط أحياناً، لكنّ ذلك يأتي في سياق المعطيات والتحليل اللذين يبرّران الانتقاد. وكما يقول الكاتب نفسُه: “قد تبدو الموضوعية منحازة أحياناً”، مثلاً حين اعتبر الصهيونية نوعاً من أنواع الاستعمار الاستيطاني. لكنّ هذا الانحياز هو أحدُ مركّبات البحث عن الحقيقة. وأعاد التأكيد على فكرة أنّ “الحياد ليس أسلوباً علمياً، بل هو موقفٌ يلتزم عدم الانحياز، وفي حالات القهر والغبن والاحتلال والاستعمار الاستيطاني، يُصبح عدمُ الانحياز موقفاً غير أخلاقي”.
بروفيسور نديم روحانا، أفاض في الحديث بمداخلته التحليلية الرصينة والقيمة، سارداً محتوى الكتاب وما يطرحه بشارة من رؤى وأفكار وتصوّرات استراتيجية، مبيّناً أنّ الكتاب يتألّف من قسمين؛ يضمّ الأوّل ستّة فصول يعالج فيها المؤلّف أفكاراً حول الرواية، أو الأسطورة، أو الدعاية الصهيونية، ويتعمّق في إشكاليات وتعقيدات القضية الفلسطينية وموقعها بين تقاطُع المسألة اليهودية والمسألة العربية، ويُراجع قضية الذاكرة والنسيان، ويركّز في فصلين على جذور الصراع العربي الإسرائيلي إلى حين تشكُّل السلطة الفلسطينية.
أمّا القسم الثاني، وفقاً لروحانا، فيشتمل على ثلاثة فصول يُقدّم أوّلها دراسة تحليلية مفصّلة ومعمّقة ونقدية لصفقة القرن التي يسمّيها “صفقة ترمب – نتنياهو”، ويُحاول الثاني الإجابة عن سؤال: “ما العمل؟” اعتماداً على تحديد الواقع من منظور الأبارتايد والاستعمار الاستيطاني، لكن كمصطلحَين تحليليّين، وليس كأُطر تُشير إلى حلول معيّنة، وفي الفصل الأخير يقدّم بشارة تصوّراً جريئاً لمقوّمات استراتيجية فلسطينية تحرّرية طويلة المدى.
من جهتها، قالت الأستاذة المشاركة في العلوم السياسية في جامعة “ماساتشوستس”، ليلى فرسخ، في مستهل مداخلتها، إنّ أهمّية كتاب بشارة، هي أنه يقع في منطقة رفيعة بين الأكاديمي والعملي، تكمن في أنه يُعطي للجيل الجديد إمكانية لفهم القضية الفلسطينية، من خلال إعادتها إلى جوهرها، بوصفها قضية استعمار صهيوني على أرض فلسطين، وقضية تهجير للفلسطينيين من أرضهم، بفعل القوّة وليس بناءً على “حقّ”.
فرسخ أضافت: أنّ “الكتاب يُراجع الأساطير الإسرائيلية ويفنّدها واحدة واحدة”، مشيرةً إلى مسألتين في الكتاب تعتبرهما على جانب كبير من الأهمّية؛ تتمثّل الأولى في التركيز على البُعد العربي للقضية الفلسطينية، وهو أمرٌ رأت أنه مهمٌّ بالنسبة إلى الأجيال الجديدة؛ حيث جرى تهميش هذا البُعد بعد “أوسلو”. أمّا الثانية، فهي حرب 1967 التي كانت نقطة تحوّلية في القضية الفلسطينية؛ حيث “كبّت” الأنظمة العربية قضية فلسطينية بعدها على منظّمة التحرير الفلسطينية. وتابعت قائلة: إنّ هذا التحليل يرى أنّ اعتبار عام 1967 نقطة البداية -وليس النكبة- كانت له انعكاساتٌ خطيرة على القضية.
الأكاديمية الفلسطينية ذكرت، أنّ المؤلّف يحلّل طبيعة الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، باعتباره “مشروعاً كولونيالياً منذ بدايته”، لكنّه كوّن “دولة حديثة لديها مؤسّسات”، وكوّن شيئاً اسمُه “الشعب الإسرائيلي”، ورسّخ نظاماً أبارتايدياً. المُحاضرةُ، لفتت في حديثها إلى أنه بخصوص الإجابة عن “سؤال ما العمل؟”، فإنّ المُفكّر العربي عزمي بشارة يركّز على تبيين معرفتنا بتاريخ الأرض، وبالتاريخ القومي، وهُما أمران يشدّد على أنهما منفصلان ولا ينبغي الخلط بينهما، إضافة إلى عدم التركيز على الحلول، بل على الاستراتيجيات التي تسمح بالتخلّص من الواقع الاستعماري، ومن ذلك بناء مؤسّسات ديمقراطية.
بشارة، في تعليق له على شريط البث المباشر المسجّل للندوة، كتب على جدار صفحة (مدى الكرمل) في “فيسبوك”، أنه من الضروري توضيح الفرق بين سكّان البلاد الأصليين وحقوق الجماعات السكّانية الأصلانية التي أصبحت مقولة قانونية متعلّقة بالشعوب التي تعرّضت للإبادة. ملاحظاً، أنّ الفلسطينيين هم سكّان البلاد الأصليون، وهذا أمر مفروغ منه. وأضاف: لقد استخدمت هذا التعبير بكثافة كما تعلمون، ولا سيما في سياق الدفاع عن الهوية والصراع على حقوق العرب في الداخل بوصفهم ليسوا مجرّد أقلّية ولا ضيوف بل سكّان أصليين. أمّا تعبير حقوق الشعوب الأصلانية فيستخدم في سياق تعويض الشعوب التي خسرت وطنها وتعرّضت للإبادة قبل أن تشمل قومياً/ وطنياً، وذلك بمنحهم حقوق على مستوى الثقافة، وأحياناً ملكية الأرض في محميات وغيرها… في كندا وأستراليا (والولايات المتّحدة بدرجة أقلّ). الفلسطينيون سكّان البلاد الأصليون تشكّلوا قومياً أوّلاً كعرب ثمّ كفلسطينيين قبل نشوء إسرائيل. وقضيتهم قضية وطنية وقضية عدالة شعباً وأفراداً. ولم يسلّموا بفقدانهم وطنهم أو باندثارهم كجماعة قومية. وما زالوا يطالبون بحقوق وطنية ومدنية سواء أكان ذلك في دولتين أو في دولة واحدة.
أطروحة أصيلة في فهم تعقيدات القضية
«فلسطين.. مسائل في الحقيقة والعدالة» كتابٌ يؤرّخ لنشأة الدولة الصهيونية العنيفة عام 1948، والمسارات التي أدّت إلى النكبة، والآثار البعيدة المدى للمشروع الاستعماري الاستيطاني على الفلسطينيين والمنطقة العربية بشكلٍ عامّ. وفيه يركّز بشارة، بصفة خاصّة، على العلاقة الطردية المعقّدة بين “المسألة اليهودية” و”المسألة العربية”. فمن جهة، يُعدُّ الفلسطينيون ضحايا لتواطؤ أوروبا في حلّ مشكلاتها الداخلية على حسابهم: فقد أدّى التلاعب الاستعماري بـقضية اضطّهاد اليهود التاريخية إلى خلق وهمٍ أنّ العنصرية ضدّ اليهود هي مشكلة عربية، ما يبرّر الاستيلاء الإسرائيلي على أراضي الفلسطينيين ويُتيح لأوروبا التخلّص من المشكلة التي خلقتها. ومن جهة أخرى، فإنّ “المسألة العربية” تتميّز بسجل طويل من الخيبات فيما يخصّ الوحدة العربية. فقد قامت معظم الأنظمة العربية، سواء كانت معادية أو معتدلة تجاه إسرائيل، بطرق مختلفة على استغلال القضية الفلسطينية لصالح النخبة الحاكمة.
يستكشفُ صاحبُ «في الثورة والقابليّة للثورة» في كتابه هذا، كيفية إعادة بناء الحركة الوطنية باستخدام مبدأ المقاومة المنظّمة. وفيه يولي “العدل” أهمّية كبيرة على حساب الحلول السياسية السّطحية، مشيراً إلى أنّ الثنائية بين المساواة والحرية تشكّل مضاداً للصهيونية، الأساس الأيديولوجي للاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي. مؤكّداً، أنّ تطوّر الاستبداد العربي “لا يمكن فصله عن ظهور إسرائيل”، إذ كان تأسيس إسرائيل والنكبة الفلسطينية “أهمّ تجسيدٍ للتشظي والصراع الإقليمي، وأكبر عائق أمام الوحدة العربية في بلاد الشام وشمال أفريقيا”.
في قراءته للكتاب، يرى طارق دعنا، أستاذ مساعد في دراسات النزاع والإنسانية في “معهد الدوحة للدراسات العليا”، أنّ بشارة يعكس فيما يذهب إليه في «فلسطين.. مسائل في الحقيقة والعدالة»، تجربة كاتبه الكفاحية الممزوجة بعمق فكري نقدي ونظري. وتتمثّل أهمّيته وقيمته المرجعية بقدرته على الإحاطة بشمولية القضية الفلسطينية، وتاريخها وحاضرها، ضمن قالب تحليلي رصين في تفكيك تشابكاتها المحلّية والإقليمية والدولية، فضلاً عن تقديم أفكار استراتيجية لإعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية على أساس مبدأ المقاومة المنظّمة.
كما يرى دعنا، أنّ الكتاب يوظّف أدوات تحليلية متعدّدة ومركّبة، مستقاة من إطار الاستعمار – الاستيطاني، لفهم خصوصية الطبيعة الاستعمارية – الاستيطانية لدولة إسرائيل. يتميّز المشروع الصهيوني بولادته المتأخرة، مقارنةً بالتجارب الاستعمارية الأوروبية التي سبقته بقرون، حيث تأسّست دولة إسرائيل في منتصف القرن العشرين، الذي صادف انتهاء الحقبة الاستعمارية المباشرة واستقلال الدول المستعمِرة سابقاً. ساهم هذا الواقع الزماني بعرقلة مشروع الاستعمار – الاستيطاني، من ناحية عدم قدرته على تطبيع نفسه أو تأصيلها، كما جرى الحال في المستعمَرات الأنجلوسكسونية التي انتهى بها المطاف إلى تأسيس دولٍ على أنقاض السكّان والثقافة الأصلانيين. أضف إلى ذلك أنّ إسرائيل بنفسها عرقلت تطبيع نفسها بسبب اندفاعها نحو فرض سيطرتها الاستعمارية على كلِّ فلسطين وسكّانها العرب، وهو ما أنتج مزيجاً من نسخٍ متعدّدة من أنظمة الفصل العنصري والاستعمار – الاستيطاني. ويستنتج بشارة أنّ إسرائيل تجمع ما بين نمط الفصل العنصري الذي ساد في حقبة حكم البيض في جنوب أفريقيا والاستعمار – الاستيطاني الفرنسي في الجزائر.
يبيّنُ دعنا في قراءته، أنّ الكتاب يولي أهمّيةً خاصّة لنكبة عام 1948، بوصفها ركيزة أساسية لفهم جذور القضية الفلسطينية، ويناقش، بشكلٍ موسّع، القضايا والأحداث التي قادت إليها، وتخلّلتها، وما نتج منها. لكن أهمّ ما يلفت الانتباه في تحليله نكبة الفلسطينيين عام 1948 تسليطه الضوء على السرديات المرافقة، بوصفها أكثر ما يوضح حدّة التناقضات بين المُستعِمر والمُستعَمر، ودورها في تشكيل طبيعة الصراع في فلسطين. ومن السرديات الكبرى التي تناولها الكتاب مسألة الحقّ التاريخي في الأرض، وترجمتها إلى انتماء قومي وصكّ ملكية سياسية. يضيف الأستاذ المساعد في دراسات النزاع والإنسانية في “معهد الدوحة للدراسات العليا”: أنّ الكتاب يفند باحترافية السردية الصهيونية القائمة على التلاعب بالأساطير التوراتية لغايات سياسية استعمارية، مثل الادّعاء بملكية اليهود لأرض فلسطين استناداً إلى وعد رباني، أو الزعم أنّ يهود اليوم ينحدرون في أصولهم من المجموعات العبرانية القديمة.
يُبرز دعنا، أنّ بشارة يصوغ مصطلح “السكّان الأصلانيين ذوي الوعي الوطني”، لمراعاة الحالة الفلسطينية وتميّزها عن حالات السكّان الأصلانيين الأخرى. موضّحاً أنّ الكتاب، لا يجد أهمّية في محاولات بعض الباحثين الفلسطينيين لربط الهوية الفلسطينية العربية بالأقوام التي عاشت قديماً في فلسطين، مثل الكنعانيين أو غيرهم، مشدّداً على أنّ الأصول القديمة ليست ذات صلة بالهويات السياسية الحديثة. وأضاف: أنّ دراسات عديدة تُطلقُ مصطلح “الأصلانيين” على الفلسطينيين، للإشارة إلى أنهم أصحاب الأرض، وهو مصطلح دارج لوصف السكّان الأصليين في قارّات العالم الجديد التي تقاسمتها دول الاستعمار – الاستيطاني الكلاسيكي. موضوعياً، يعاني هذا المصطلح من إشكالات منهجية، بسبب وجود فوارق جوهرية بين الفلسطينيين (وهويتهم الوطنية ونضالهم الساعي للتحرّر) والسكّان الأصلانيين الذين باتوا مواطنين في دولهم ويقتصر نضالهم على مطالباتٍ بالحقوق الثقافية.
كما يبيّنُ دعنا، أنّ كتاب «فلسطين.. مسائل في الحقيقة والعدالة» يقدّم أطروحةً أصيلةً في فهم تعقيدات القضية الفلسطينية، مرتكزةً على تشابك “المسألة اليهودية” في أوروبا مع “المسألة العربية”، والأخيرة تمثّل إطاراً معرفياً مفصّلاً كان قد قدّمه بشارة في كتب وأبحاث ومطالعات منشورة له على مدار العقد الأخير. ذلك أنّ تقاطع كلّتا المسألتين ساهم بتحويل القضية الفلسطينية إلى ساحة خصبة للتدخلات والتلاعبات والتحالفات وتسوية الحسابات بين القوى الإقليمية والغربية المتنافسة، تحت مبرّرات مختلفة.
يُقرّ بشارة- كما يذكر دعنا، بثلاث مسائل حيوية، وجب أخذها بالاعتبار في بناء استراتيجية فلسطينية تحرّرية جديدة. أوّلاً، إنّ هذا صراع طويل ومليء بالمشاقّ والمصاعب، وبالتالي وجب التفكير في استراتيجيات نضالية طويلة المدى. ثانياً، يقف الفلسطينيون اليوم أمام واقع جديد ومختلف كثيراً عن الماضي، ولهذا فإنّ محاولات إعادة إنتاج الأدوات النضالية القديمة غير مجدية. ثالثاً، وجود نسبة كبيرة من الشعب الفلسطيني في فلسطين نقطة قوّة وجب البناء عليها.
يمكن مشاهدة فيديو الندوة هنا.