بعد خوض تجربة التحكيم في الدورة الرابعة من مهرجان السرد الابداعي الذي أقامته الجامعة الأمريكية في دبي، والتي نافس فيها 39 فيلماً من كل أنحاء العالم، لطلاب من مختلف الأعراق والمنابت والثقافات، تجمعهم الفئة العمرية تقريباً والشغف في صناعة الأفلام، كانت ملفتة وبشدة الفجوة الكبيرة بين الطلاب العرب والأجانب، في مواضيع الأفلام تحديداً، ولن نعمل على الدخول في فجوة التقييم الفني لأنه يتراوح بين ضعيف ومتوسط وجيد مقارنة بنظيره الأجنبي.
ولكن قبل الحديث عن تلك المواضيع التي تناولها الطلاب العرب وسمة غالبيتها لغة الدم، لا بد من المرور على أهمية وجود مثل هذه النوعية من المهرجانات التي تعطي فرصة لطلبة الجامعات والمعاهد السينمائية بأن يقدموا أفلامهم لتتنافس على جوائز وتشجعهم للمضي قدماً، ناهيك عن فرصة التبادل الثقافي بين الطلاب القادمين من شتى أنحاء العالم، وورشات العمل والمحاضرات التي تجمعهم والتي من الممكن أن تكون كفيلة في توسع المدارك لكل الأطراف نحو العقليات المختلفة الموجودة، هؤلاء الطلاب الذين من الممكن لمس شكل السينما في المستقبل من خلالهم، ومن خلال قصصهم المصورة على شكل فيلم قصير وثائقي كان أو روائي أو كرتون، استطاعت نسبة جيدة منهم أن يؤكدوا على حرفيتهم لدرجة أنهم وضعوا لجنة التحكيم في حيرة إذا ما كانوا طلابا أم محترفين.
وعودة إلى أفلام عربية مشاركة في تلك الدورة، والتي تعي من خلالها أن جيلاً قادماً من صناع السينما يتخرج الآن من الجامعات يحمل في جعبته قصصاً مليئة بالدم، وهنا الدم لا يرتبط فقط بموضوع الحروب التي ما زال يعيشها الوطن العربي، بل يتعداه إلى العنف الأسري والتحرش الجنسي والرغبة الدائمة في الانتقام.
ثمة عنف يعشعش في عقول هؤلاء الطلاب، الذين ما زالوا أسرى موضوع الحرب اللبنانية على سبيل المثال لا الحصر، ويريدون حالياً أن يظلوا أسرى لداعش، وإذا لم يكن عن هذين الموضوعين تراهم يتحدثون عن التفكك الأسري ورغبة الابن بقتل أمه أو أبيه أو شقيقه، وفي أضعف الاحتمالات ثمة حالات انتحار، كلها موجودة في غالبية الأفلام العربية المقدمة خاصة في فئة الروائي.
لذلك لم يكن مستغرباً عدم فوز أي فيلم عربي باستثناء جائزة الجمهور التي منحت للفيلم الكرتوني «الشتاء العربي» للمخرج اللبناني الطالب كارل هلال، ليس بسبب المواضيع فحسب بل كذلك بطريقة صناعة الفيلم إذا ما قورن بالفيلم الأجنبي، خاصة في حضرة مواضيع عربية تناولها مخرجين غرب مثل فيلم «أوب زويد» للمخرج الهولندي ديفيد أيلاندر الذي حصل على جائزة لجنة التحكيم وتناول قضية المهاجرين العرب، طريقة العرض نفسها وصناعة الحكاية كانت كفيلة بأن نوقن حاجة المخرجين العرب إلى كثير من الجهد ليصلوا إلى تلك الحنكة التي يتمتع بها مخرجون غربيون.
ولا شك في أن الظروف المتباينة في العيش بين العرب والغرب لها الدور الكبير في لمس تلك الفجوة، لكن في نفس الوقت نحن أمام طلاب عرب ينتمي غالبيتهم إلى الطبقة الوسطى وما فوق، يتمتعون بمقدار من الحرية وسهولة العيش، لكن الحقيقة أن التطور يثبت أنه لا علاقة له مع الوضع الطبقي للأفراد بقدر ما هو يرتبط فعلاً بالرغبة في التغيير.
ومن جانب آخر تحاول أن تبحث جاهداً عن الأسباب التي دفعت هؤلاء الطلاب لتقديم حكايات مليئة بالعنف، فتدرك من خلال حديث عابر مع أحدهم أنه يطمح بأن تكون أفلامه حاضرة في المستقبل في مهرجانات عالمية، هنا تقف وتسأل من الذي أوهمك أن المهرجان العالمي يروج لفكرة استقبال أفلام عربية ذات سمة دموية؟ فيجيبك “الجوائز التي منحت للعرب من المهرجانات العالمية” فتدرك أنه وأمثاله يمضون نحو التجارة في المواضيع العربية، وليس اعتبار السينما جزءاً من شغف يريد إيصال رسالة انسانية قادرة فعلاً على صناعة الفرق، فتحاول تذكيره بأفلام عربية نالت أعرق الجوائز مثل الفيلم التونسي “نحبك هادي” للمخرج محمد بن عطية الذي قنص دبّين في مهرجان برلين السينمائي، وأوصل عطية فكرة المعاناة دون نقطة دم ودون عنف.
وتحاول أن تقرب له أكثر أن قضايانا تحتاج إلى طريقة عرض تدغدغ المشاعر الإنسانية لا أن تنفرها لأنها ببساطة قضايا عادلة، وتقول له في النهاية أنت أمام فرصة مشاهدة ثلاثة أفلام قصيرة من فئات مختلفة (تم عرضها في الافتتاح) وهي عربية ووصلت إلى العالمية وحصلت على جوائز رفيعة دون نقطة دم واحدة، الأول الفيلم الروائي «الببغاء»، إخراج دارين سلام وأمجد الرشيدة، والثاني كرتون «عيني» إخراج أحمد صالح، والثالث وثائقي «عودة رجل»، إخراج مهدي فليفل.
الفيلم الذي نال جائزة أفضل روائي قصير في مرجان السرد الإبداعي «جريتنغ فروم كروبسدام» آتياً من هولندا وهو للمخرج الطالب جورين مولتر تحدث ببساطة عن فكرة القطيع، وعن اضطهاد من يحاول الخروج عن ذلك القطيع إذا ما فكر بتجربة شيء جديد من الممكن أن يضيف رونقاً وتقدماً في حياته.
هذه الفكرة كان من الممكن أن تكون أساس فيلم عربي قصير لأحد هؤلاء الطلاب، فلم نكن نحتاج إلى رؤية كل هذه الدماء في أفلامهم، يكفينا ما نشاهده عبر نشرات الأخبار، التي أثبتت فشلها في صناعة الفرق فجعلت من السينما أملًا في نشر قصصنا بشكل يليق بعدالتها.