يخوض الكاتب الصحافيّ الفلسطينيّ إلياس نصر الله (1947)، المقيم في بريطانيا، في كتابه “شهادات على القرن الفلسطينيّ الأول”، الصادر مؤخراً عن دار الفاربي البيروتية، عصارة تجربته في عالم الكتابة والصحافة بتداخل شيق بين الشخصيّ والعامّ، مستعرضاً مسيرة نضال شعبه في كافة مراحله على مدى أكثر من قرن من الزمن، متبعاً أسلوب السرد والربط بين الأحداث اعتماداً على مصادره الشفوية وما ذهب إليه من وثائق جمعها من أرشيفات مكتبات عالميّة، الأمر الذي منح الكتاب، الذي جاء في سبعمائة صفحة من القطع الكبير، “صدقية ظهرت فيها المعلومات المعروضة واضحة وخالية تقريباً من الثغرات”، كما جاء في التقديم الذي صدّر به المؤلّف كتابه، بقلم المؤرخ الفلسطينيّ الأكاديميّ قيس فرو، (الرئيس السابق لقسم تاريخ الشرق الأوسط في جامعة حيفا)، وما يعزز ذلك هو اعتماد نصر الله على الذاكرة الجمعيّة وما تيسر في الأرشيف البريطانيّ من مراجع ومواد وقرائن ساعدته في تدقيق الأحداث والوقائع في اعتماد الشهادات التي جمعها من شبكة من الأصدقاء والناشطين ممن ساعدوه في جمعها أو كانوا أنفسهم في موقع الأحداث التي أوردها في هذا الكتاب، الذي يعدّ مرجعاً وثائقياً وتاريخياً هاماً يغطي فترة تاريخية هامة من النضال الوطنيّ الفلسطينيّ ضد العنصريّة والاحتلال والمشاريع الصهيونيّة.
يؤكّد إلياس نصر الله في أنّ نكبة الشعب الفلسطيني لم تنته العام 1948، بل لا تزال مستمرة إلى اليوم، والدليل على ذلك الشهادات الحيّة التي يقدّمها بين دفتي الكتاب. لافتاً إلى أنّ العالم لم يسمع بعد قصة البقيّة الباقيّة من الشعب الفلسطينيّ في الوطن الذي احتلته إسرائيل عام 1948، والحياة التي عاشها أفراد هذه البقيّة في ظل الحكم العسكريّ الإسرائيليّ، وهو ما دعاه لأن يقدم لنا روايته ورواية أفراد عائلته كنموذج لهذه التجربة المريرة والمؤلمة.
كتابة الجرح الفلسطينيّ بحبر الضحايا..
احتوى الكتاب على تسعة عشر فصلاً وخاتمة وفهرس للأعلام، وعناوين الفصول هي على التوالي: “زمن التحوّلات”، “قصة اللجوء والعودة”، “العهد”، طفولة مجبولة بالسياسة”، “والدي والعلم”، “الانخراط في العمل السياسيّ”، الدخول إلى عالم الصحافة”، “صحافة في ظل انعدام حرّيّة الرأي”، “اختطاف يوسف نصري نصر”، “محاكمتا كبوتشي وبشير البرغوثي”، “مكتب صلاح الدين”، “الطليعة”، “التغريبة”، “ناجي العلي”، “ما بين الرياضة والسياسة”، “الجائزة”، “أحمد عثمان وتمرد سجن شطة”، “معارك صحافية”، و”الحاج أمين الحسيني.”
وتغطي هذه الفصول فترة زمنيّة تناهز القرن، (منذ اتفاق سايكس – بيكو عام 1916، ووعد بلفور المشؤوم عام 1917)، فيها الكثير من المعلومات المستندة إلى وثائق بحث عنها في مكتبات عدة في لندن وخارجها، وشهادات مرفقة بصور لمراحل تاريخيّة أثّرت، وما تزال تؤثّر، في مجريات التاريخ.
وفي متن الكتاب، يروي المؤلّف سلسلة من القصص والأحداث المهمة في تاريخ فلسطين الحديث كان هو نفسه شاهداً على القسم الأكبر منها أو طرفاً فيها، وأخرى سمعها مباشرة من أصاحبها فدوّنها بأسلوب التحقيق الصحافيّ الشيق. وهي مادة أوليّة لم يسبق لها أن نشرت، أشبه ما تكون بسجل وقائع تاريخيّة لفترات زمنيّة محددة.
إذن، الكتاب ليس مذكرات شخصيّة أو سيرة ذاتيّة، إنما هو أشمل من ذلك بكثير. فمن خلال إعطائه فكرة عن خلفيته العائليّة والاجتماعيّة والسياسيّة يقدّم المؤلّف على سبيل المثال صورة عن الحياة في مدينة حيفا، ومنطقة الجليل في فلسطين خلال الفترة ما بين الحربين العالميّتين الأولى والثانية، وعن سقوط فلسطين العام 1948.
والانخراط في العمل السياسيّ أواخر الستّينات، والالتحاق بالحزب الشيوعيّ، ورفضه الوقوف متفرجاً وهو يرى بأم عينيه مشاهد قاسيّة من التنكيل الاسرائيليّ تجاه أبناء شعبه، وتجاهه هو أيضاً يوم صادرت قوّات الاحتلال الصهيونيّ هويته عام 1963 بسبب وقوفه قرب أرض صادرها الاحتلال من عائلته، التي كانت -كما يذكر- عائلة فلاحيّة من صغار ملاك الأراضي في قرية شفا عمرو، وتشكل الفئة الأوسع في القرى الفلسطينيّة.
ويرصد القارئ لكتاب إلياس نصر الله، الذي بدأ مشوراه الصحافيّ عام 1968، روايات مهمة من واقع مراحل عمله في مجال التحقيقات الصحافيّة، كما يوثق علاقة شخصيّات فلسطينيّة بالصحافة العربيّة، منها إميل حبيبي، إذ يعرض الكتاب جانباً من بعض خبايا ما ثار من جدل بشأن قبول الروائيّ الفلسطينيّ الراحل جائزة إسرائيل الأدبيّة، وكيفية قبوله الجائزة بطلب خاص من الرئيس الفلسطينيّ الراحل ياسر عرفات. ومنها كذلك ما يتعلق باغتيال رسام الكاريكاتير ناجي العلي، الذي اغتيل سنة 1978 في لندن، وهو في طريقه لزيارة نصر الله في منزله.
كما يتضمن الكتاب ما يكشف الستار عن معلومات مهمة تتعلق بشخصيات فلسطينيّة وعربيّة لعبت أدواراً متميزة في المجالين السياسيّ والإعلاميّ، مثل قصة اختفاء واغتيال الصحافيّ والناشر الفلسطينيّ يوسف نصري نصر، صاحب صحيفة “الفجر”، بسبب مواقف الصحيفة الرافضة للمخططات الإسرائيليّة. وقصة اعتقال سلطات الاحتلال بشير البرغوثي، القيادي الشيوعيّ البارز، واتهامه زوراً بالتجسّس لحساب الأردن، وقصة اعتقال المطران إيلاريون كبوتشي بتهمة تهريب الأسلحة لرجال المقاومة الفلسطينيّة، حيث واكب محاكمته ونقل تفاصيلها.
ونقرأ كذلك قصة الأسير المصريّ أحمد عثمان، الذي سجن في إسرائيل ونظم أشهر وأهم عمليّة تمرد وهروب جماعيّ للسجناء العرب من سجن شطة عام 1959، والذي تعرف إليه المؤلّف وسمع منه تفاصيل كثيرة عن عمليّة الهروب التي أوردها في كتابه.
كذلك يتطرق الكتاب إلى معركة الكرامة التي نسفت أسطورة جيش الاحتلال الذي لا يقهر، ثم مروراً بالحرب الأهليّة في لبنان والجريمة البشعة في تل الزعتر صيف 1976 بمشاركة وتواطؤ الجيش السوري.
كما يروي لنا نصر الله حادثة تغطيته لحفل توقيع “اتفاق اوسلو” في 13 أيلول/ سبتمبر 1993، موسعاً الحديث عن الثغرات في هذا الاتفاق، الذي أثار حفيظة الكثير من الفلسطينيّين. مبيناً أنّ: “ما جرى أنّ القيادة الفلسطينية كانت على عجلة من أمرها”. منتقداً إيّاها لعدم الانتباه إلى موضوع الأسرى والمعتقلين الفلسطينيّين وغيرهم ممن يحملون الجنسيّات العربيّة والأجنبيّة.
كما يورد حادثة قيامه بتحقيق صحافيّ عام 1997، لتقصي الحقائق والبحث وتسليط الضوء على علاقة الكنيسة الأرثوذوكسيّة اليونانيّة في القدس بدولة الاحتلال، وتواطؤها مع المؤسّسات الإسرائيليّة في بيع الأراضي والعقارات في القدس الشرقيّة سرًا، إلى متموّلين يهود خارج فلسطين المحتلّة.
الذاكرة الجمعيّة برهان وجودنا..
يقول البروفيسور قيس فرو، في تقديمه للكتاب، أنّه: “كلما أنهيت قراءة فصل من فصول هذا الكتاب كانت قناعتي تزداد بأن إلياس نصر الله قدّم عرضاً يمتزج فيه الماضي بالحاضر والمستقبل، مكوّناً زمناً فلسطينيّاً واحداً… فبالتذكر المتيقظ صوّر إلياس جوانب من ماضي فلسطينيّي الداخل والشتات، وبالانتباه ألقى الضوء على مأساتهم المستمرة، وبالتوقّع استشفّ مستقبلاً فلسطينيّاً محفوفاً بالمخاطر. ومع أن استعادة أحداث الماضي ووصفها كما حدثت في الواقع هي مهمة مستحيلة، إلا أن قدرة إلياس على السرد والربط بين الأحداث أكسبت بناءه التاريخي تماسكاً مقنعاً. وسع إلياس المفهوم البسيط للتاريخ، حيث لم يكتف باستحضار ذاكرته الشخصيّة، وإنما زوّدها بمصادر متعدّدة ساعدته على إنتاج تاريخ حافل بالأحداث، جعلت منه مؤرخاً “بنفسه ولنفسه ولغيره”. أثبت إلياس أن كتابة التاريخ بأسلوب أدبيّ لا يؤثر سلباً في منهجيته، مثبتاً بذلك صحة قول أحد المؤرخين بأن من لا يستطيع كتابة قصة، لا يستطيع، أيضاً، كتابة التاريخ. ولأنها مبنيّة على قصص من حياة الناس، فسرديّاته غير خاضعة لخطابات النخب الفلسطينيّة على حساب خطابات الناس العاديّين، ما جعلها تساهم في تقويض السرديّات الصهيونيّة الكبرى والصغرى التي حاولت وتحاول الهيمنة على معرفة تاريخ الصراع الصهيونيّ الفلسطينيّ، وحاولت وتحاول تهميش سكان فلسطين الأصلانيّين”.
في الفصل الأول “زمن التحوّلات”، يتناول المؤلّف أحوال الفلسطينيّين في أواخر الحكم العثمانيّ، حسب شهادات من عاشوا في تلك الفترة، ويذكر بالكثير من التفاصيل تهرّب الشباب من الجنديّة، والمعاناة التي كان أهلهم يزودونهم بالطعام وحاجاتهم الأخرى في مخبأهم. ماراً بعجالة على احتلال الجيش البريطانيّ لفلسطين، وثورة 36 – 39.
ومن ثمّ احتلال بلدته شفاعمرو من قِبل القوّات الصهيونيّة، ومعركة هوشة والكساير، ويسرّد بتفاصيل دقيقة عمليات التسلل من أماكن الهجرة في جنوب لبنان، وتفاصيل عن القتلى الذين كانت القوّات الصهيونيّة ترديهم بالرصاص، لإقناع المهاجرين أنّ طردهم طردٌ أبديّ.
ويذكر “البطاقات الزرقاء” التي تُمْنَحُ للفلسطينيّ الذي وجد في قريته وبيته وقت الإحصاء، و”البطاقات الحمراء” للمتسلل الذي حصل على حقّ الإقامة نتيجة الوساطات المختلفة من متعاونين، وشخصيّات متمكنة لم يستطع الحكام العسكريّين رفض توسلاتهم. ولكن حامل “البطاقة الحمرا” يفقد حقوقه بأملاكه، إن كانت أرضاً زراعيّة، أو بيتاً للسكن، حسب القانون الإسرائيلي (حاضر – غائب).
وفي هذا السياق، يورد نصر الله التطورات المأساوية التي لحقت العائلة بشيء من التفصيل خلال نكبة 1948. إذ يذكر على سبيل المثال أن العائلة خسرت «شركة باصات الكرمل» التي تملكها، وكانت شركة ناجحة تقلّ الركاب بين شفا عمرو وحيفا، كما يشير إلى مصادرة إسرائيل لمعظم أراضي العائلة وغيرهم من شفا عمرو.
عارضاً بالتفصيل قصة تشرده وعائلته ولجوئهم إلى لبنان ومغامرة عودتهم إلى فلسطين، مقدّماً شهادة دقيقة على تلك الفترة وعلى تشريد مئات آلاف الفلسطينيّين من ديارهم.
كما يرسم لنا صورة نادرة عن الأجواء التي سادت في إسرائيل عشية حرب حزيران/ يونيو 1967، وقصة التحاقه بالجامعة العبريّة في القدس الغربيّة، وانتقاله مباشرة للعيش في مدينة القدس بعد انتهاء الحرب ومشاهدته آثار الفظائع التي ارتكبها الإسرائيليّون في القسم الشرقيّ من مدينة القدس الذي احتلته إسرائيل في تلك الحرب.
ويواصل المؤلّف تقدّيم صورة عن الحياة في الأراضي الفلسطينيّة التي أصبحت بكاملها محتلّة، وعن الحياة التي عاشها الطلّاب العرب في الجامعة العبريّة في تلك الفترة، وانخراطه في العمل السياسيّ وتعرفه على المحاميّة الإسرائيليّة فليتسيا لانغر التي تطوعت للدفاع عن الفدائيّين وغيرهم من المعتقلين السياسيّين الفلسطينيّين، ويلقي الضوء على معاناة المعتقلين الفلسطينيّين في سجون الاحتلال، ليتوقف مطولاً عند دخوله معترك العمل الصحافيّ، حين عمل في البداية مراسلاً لصحيفة “الاتّحاد”، أقدم صحيفة في فلسطين، والتي كانت تصدر في حيفا، ثم محرّراً في صحيفتي “الشعب” و”الفجر” الفلسطينيّتين اللتين صدرتا عام 1972 في القدس المحتلّة، ولاحقاً محرراً مسؤولاً لصحيفة “الطليعة” الأسبوعيّة.
ويقدّم لنا إلياس نصر الله، من خلال تجربته في تلك الصحف، عرضاً مهماً وتوثيقياً لجزء أساسي من تاريخ الصحافة الفلسطينيّة في ظل الاحتلال الإسرائيليّ.
كما خصص فصلاً آخر عن “مكتب صلاح الدين”، الذي أسسه بالاشتراك مع آخرين، وتحول إلى أول دار نشر فلسطينية متخصصة أطلق عليها اسم “منشورات صلاح الدين”، حيث تحدّث عن تجربته في مجال النشر.
الطريق إلى لندن والتعرّف على ناجي العلي..
نعود لنؤكد ونحن نستعرض هذا الكتاب، أنّ مؤلّفه لا يكتب كباحث متخصص، أو أكاديميّ، أو كمؤرخ، بل كفلسطينيّ منكوب عاش مأساة شعبه منذ طفولته أواخر أربعينيّات القرن الماضي وحتى رحلة الغربة أواخر السبعينات، راوياً لنا كيف انتقل عام 1979 للعيش في بريطانيا مع زوجته أمينة قبلاوي وعن تجربته في مجاليّ النشر والصحافة العربيّة، حيث عمل من لندن مع صحيفة “الجزيرة” التي تصدر في الرياض، ثم في صحيفة “الشرق الأوسط” السعودية، والتي عمل فيها حوالى 15 عاماً انتقل بعدها لفترة قصيرة للعمل في صحيفة “الحياة” السعودية، التي تصدر في لندن أيضاً، ثم إلى صحيفة “الرأي” الكويتيّة. متطرقاً من خلال حديثه عن تجربته في هذه الصحف إلى جملة معارك صحافيّة لها بُعد تاريخي أثْرت تفاصيلها هذا الكتاب.
في الفصل الرابع عشر الموسوم بـ “ناجي العلي”، يخبرنا نصر الله كيف تعرف على ناجي العلي أول مرة خلال توقفه في لندن، وهو في طريقه لمهرجان سياسيّ أقامته الجاليّة الفلسطينيّة، وعرضت فيه رسوماته. وكيف توثقت علاقاتهما لما عرف ناجي أن زوجة إلياس من بلدة صفورية مثل زوجته (أم خالد)، فأخذ يناديه بـ” يا عديلي”. وأمضى ناجي معظم الوقت يسأل عما بقي من بلدته الشجرة، وأحوال الفلسطينيّين تحت الحكم الصهيونيّ، ليجد أنّ حال اللاجئين في لبنان لم تكن أحسن حالاً.
ويتطرق الكاتب في هذا الفصل إلى قصة ناجي وياسر عرفات بالتفصيل، فيقول (ص 505): “كان ناجي واضحاً في حديثه إلى أبعد الحدود، فقال إنّ إبعاده من الكويت تم بسبب تهديدات رئيس منظّمة التحرير الفلسطينيّة ياسر عرفات الذي ضاق ذرعاً برسوماته المعارضة لتوجهاته السياسية، ولم يستبعد ناجي أن تكون الحكومة الكويتيّة تعرضت لضغوط من الحكومة السعوديّة لإيقافه عن العمل في الكويت أيضاً، ولكنه شدد على أن تهديدات عرفات كانت السبب الرئيسيّ في إبعاده من الكويت”. متابعاً: “وقال ناجي: إنّ “الحكومة الكويتيّة أصرت على أن يغادر الكويت لأنها شعرت بالخطر على حياته من عرفات، وأن المسؤولين الكويتيين قالوا بالحرف الواحد لمحمد جاسم الصقر (صاحب جريدة “القبس” التي يعمل فيها ناجي): لم نعد قادرين على حماية ناجي العلي، فالكويت لا تريد أن تتحمل دمه”.
المفتي وعرش فلسطين..
الفصل الأخير (التاسع عشر)، خصّصه المؤلّف للحديث عن مفتي فلسطين وزعيمها قبل عام 1948 الحاجّ محمد أمين الحسيني، مستنداً فيه إلى سلسلة وثائق تاريخيّة تدحض ما صرح به رئيس الوزراء الإسرائيليّ الحاليّ بنيامن نتنياهو عام 2015 من أن “المحرقة النازيّة كانت فكرة الحاجّ أمين وهو الذي أقنع أدولف هتلر بها”.
ويذكر نصر الله في الصفحات الأخيرة من الكتاب، تفاصيل تعيين الحاجّ الحسيني، مفتياً عاماً للقدس من قبل المندوب الساميّ البريطانيّ هيربرت صموئيل، في إجراء غير ديموقراطيّ، وفي تجاوزٍ لمن هم أقدر منه علماً وفهماً. مشيراً بشكل مقتضب إلى عمليّة تثبيت الحاجّ الحسيني نفسه كقوّة وحيدة في فلسطين، عن طريق الاغتيالات لكل من يمكن أن يشكّل زعامة تتحداه، وبركوب موجة التطرف المسنود بالعقيدة الإسلاميّة، ويؤكد أنّ ذلك لم يكن سوى تحضيراً لطموحه في تبوء منصب ملك على الشعب الفلسطيني. يقول الكاتب (ص 658): “اجتهد الباحثون الفلسطينيّون وغيرهم كثيراً في تفسير ذلك العداء الذي أظهره الحاجّ أمين الحسيني تجاه الأحزاب السياسيّة الفلسطينيّة، وتبيّن لاحقاً أن سببه كان الرغبة الشديدة التي يبدو أنها سيطرت على الحاجّ أمين لكي يحوّل فلسطين إلى مملكة كبقيّة الممالك في الدول العربية، ويصبح ملكاً عليها. ففي عام 2012 ، وأثناء البحث الذي أجراه ابني تامر لنيل درجة الماجستير في التاريخ حول الحاجّ أمين الحسيني عثر في الأرشيف البريطانيّ على ملفٍ يوثّق رغبة الحاجّ أمين الحسيني بأن يصبح ملكاً، فاطلعت عليه وكأنني أحل لغزاً اجتهد الباحثون في تفسيره. حيث ظهرت هذه الرغبة جليّة في وثائق الملف الذي يعود تاريخه إلى عام 1939، ورقمه (2084/ 2 كيه في) ويحمل اسم (المفتي والعرش). فهذه الرغبة ظلت غائبة عن أذهان المؤرخين والمحلّلين السياسيّين الذين كتبوا عن الحاجّ أمين الحسيني وتاريخ القضيّة الفلسطينيّة، ولها دلالات سياسيّة وتاريخيّة مهمة، وتفسر لماذا تصرف الحاجّ أمين بتلك الطريقة”.
وفي خاتمة الكتاب، يؤكد الكاتب الفلسطينيّ إلياس نصر الله أنّ معركة طويلة لا تزال تنتظر الشعب الفلسطينيّ، للحفاظ على وجوده ونيل حقوقه المسلوبة، وأنّ عليه أن يُّعدّ نفسه جيداً لهذه المعركة، فمعرفة ما حدث لشعبنا على مدى السنوات الماضية، بل القرن الماضي، وأخذ العبر منه جزء مهم وأساسيّ للفوز بهذه المعركة.