أن يكون الإنسان العربيّ هنا على أرض فلسطين، متحدياً عسكر الاحتلال والحواجز والجدار والأسلاك الشائكة.. فهذا يعني أولاً انتصار إرادة الفلسطينيّ صاحب الأرض والحق، ومن ثمّ انتصار إرادة العربيّ الذي قرر أخيراً أن يزور أخوته في سجنهم الكبير رغم كل التحديات.
“ملتقى فلسطين الأول للرواية العربية” الذي استضافته مدينة رام الله الشهر الماضي، كان فرصة لعدد من الروائيّات والروائيّين العرب لزيارة جزء من الوطن المحتلّ، وهو ما يعزّز حضور الثقافة الوطنيّة الفلسطينيّة التي تنمو وتنضج في جوّ من التحدّي الإيجابيّ.
رمان تواصلت مع خمسة من الكتّاب العرب، من الذين وطأت أقدامهم أرض الوطن المغتصب لأول مرّة، ليسجلوا انطباعاتهم عن فلسطين المتخيّلة التي تجسدت صورها في الوجدان بأبهى حلة، وفلسطين الحلم التي صارت رؤيتها واقعاً.. فكان هذا الملف عن زيارة فلسطين الأرض والإنسان والثقافة بوصفها فعل مقاومة، فلسطين الزيتون والحجارة والمواويل..
الروائيّة الأردنيّة سميحة خريس: وراء المدرسة
منذ النكسة التي عصرت قلوبنا أطفالاً، ونحن نردد أن البوصلة تشير إلى فلسطين، صعدنا وهبطنا كلما كانت القضية تمر بمنعطفاتها الكبيرة، كبرت آمالنا وانكسرت مرات متتالية، وباتت فلسطين التي على بعد النظر، بعيدة، رغم أننا نراها إذا وقفنا هنا في الأردن على ذرى عجلون أو شرق النهر، بعيدة كأندلس ضائعة، فلا البندقية بشّرتنا بلقياها ولا معاهدات السلام، وأعترف أن الفسحة التي أتيحت بعد المعاهدة بدت لي مريرة، أن تمر عبر محتلّك وبترخيص منه، إهانة للروح والحلم الكبير وكسر للنفس، ولكن شوقي غلبني، لأدخل فلسطين مرتبكة، فيغمرني الخجل لطول تأخري عنها. تلمست الخطر الذي أحاق بنا حين تحوّلت البلاد المحتلّة في أذهاننا إلى وطن افتراضي، نتابع أخباره عبر وسائل الإعلام وفي القصائد ودموع الأمهات على الشاشات، وقد يغيب عن أذهاننا حين تقع بلادنا في أزماتها، وحين تجرفنا تحدياتنا الشخصية والعامة، ولكني في زيارتي التي بدت لي كالحلم أفقت تماماً من نوم طويل. وجدتني مباشرة أمام الوطن، حقيقة كبيرة، أرض وأناس صامدين كما الزيتون العتيق، كان السور الذي فتت به العدوّ تواصل جسد الضفة الغربيّة يصفع ناظري كيفما تحركنا، ولكن الناس ينظرونه بكل التحدي والأمل، عندها أدركت أن لا مجال لمقارنة آمالنا المتخيّلة نحن الذين ننظر من الخارج إلى آمال الشعب الذي يدفع فاتورة صموده كل يوم، ورغم فداحة المشهد الذي شقق جسد الأرض كان يمكن تنسّم هواء فلسطين، والوقوع في هوى جمالها المتفرّد، فالمستوطنات تتناثر بين القرى كالفطر السام، وتقطع الطرقات كأسنان مشط جبار في محاولة لكسر الصمود، وسط كل هذا وقفت شاهدة على أن إيمان الإنسان الفلسطينيّ كان أقوى من إيماننا وهو الواقع تحت حد السكين وفي مضرب النيران، كان ينتج أفلاماً حول محبسه، ومسرحيات حول تاريخ النضال المثقل بالإحباط، وكان يفرد قاعاته لصوت الثقافة، ويواسي أمهات الأسرى في صراع معداتهم الخاوية التي تقاوم المحتلّ بالماء والملح، كان شعباً عملاقاً أدركت مبلغ عظمته في قرية “عزون عتمة” إذ وقفت وراء المدرسة التي أجهز الجدار العازل على امتداداتها الطبيعية وما زالت تعلّم وتخرّج جيلاً بعد جيل، هناك تيقنت من استمرار النضال وانبعاث الأمل، تحت الجدار تماماً في أرض لا يسقيها إلا ماء السماء، رأيت بفرح زرعاً جديداً لشجيرات زيتون صغيرة، تلك الشجرة التي تحب الأرض، والتي تنمو متمهلة وتكبر لتطعم أجيالاً، والتي برع الصهاينة في اجتثاثها من المكان في انتقام يفضح صورتهم، فإذا بالفلسطينيّ يعيد زرعها مرة بعد الأخرى، مراهناً على أن أحفاده سيأكلون منها ولو بعد ألف عام. تلك الزيتونة الطفلة كانت كافية لتحكي حكاية أرض فلسطين وصمود إنسانها. وللذين ما زالوا كما كنت مرتبكين أمام زيارة فلسطين، أقول: لا تتركوا الزيتون وحيداً.
الروائيّ المصريّ إبراهيم فرغلي: غمزات الصخر الحنون في رام الله!
أصبحت فلسطين واقعاً بالنسبة لي سيستمر في حياتي للأبد، لم تعد مجرد حلم بعيد، أو بكائيّات ومرثيّات، أو حتى فولكلور نضاليّ ووسيلة لبطولات “دون كيشوتات” زمننا البائسة، وشعارات يرتزق بها مرتزقو السياسة والثقافة. تنشقت هواء رام الله، ورأيت أهلها، بشراً على الأرض، لهم أحلام ورغبات ومشاعر، وطموحات، وآمال، وليسوا مجرد كائنات مصنوعة من كارتون الأخبار ومانشتات الصحف والإعلام. وليسوا أيضاً مجرد شعب لا يستحق إلا الشفقة والرثاء على وطنه المغدور. بل كائنات تملك القدرة على أن تعلمنا الكثير عن الأمل والحب والحياة المستمرة تحت الخطر ونحن نرسم ابتسامة. وقفت معهم على جسر اللنبي، متوتراً، متحفزاً وقلقاً، أداري هواجسي مثلهم، وأتمنى أن تنتهي ساعات المعبر الطويلة من دون كارثة متوقعة في أي لحظة. أراقب المحتلّ مثلهم، راجياً اليوم الذي يمكن لهم فيه العبور من دون تفتيش وإجراءات العبور المقيتة التي يمارس بها المحتلّ دوره كمغتصب للأرض. وجلست على المقاهي بينهم نضحك ونعيش اللحظات المسروقة من الخوف المسيطر على أجواء المكان الذي تشعر أن عيون المحتلّ تراقبه من أماكن غير منظورة، وتتوقع اقتحامه لأيّ مكان بلا سبب.
تابعت معهم فيلماً سينمائياً، شاركتهم فيه الشغف، والابتسامات التي تنشق من رحم مآسي السجن، رغم المعاناة، والضحكات التي يبحثون عنها رغم كل شيء. وشاهدت بينهم مسرحية كنت أتابعها كأنني متفرج بين مسرحيتين الأولى هي العرض الفني الحقيقيّ الذي يشاهده الجميع، والثاني هو الجمهور الفلسطينيّ الذي كنت أتابع ابتساماته وضحكاته محاولاً فهم الشفرة السريّة للكنة والسخرية المبطنة مما يغيب عنيّ من خارطة الطبقات واللكنات والاختلافات المذهبيّة والعرقيّة. وقفت في الغرفة التي حوصر فيها ياسر عرفات من قبل قوّات شارون، وأنا أستدعي مكان جلوسي في غرفة المعيشة في شقتي في مصر مذهولا من البجاحة التي بلغها المحتلّ الأرعن. وأحاول استدعاء مشاعر الختيار في تلك المساحة التي حوصر فيها مندهشاً من شدة تقشفه الذي تكشفه غرفة نومه البسيطة، ومطبخه الذي لا يختلف عن مطبخ أي عائلة صغيرة في أي منزل عاديّ.
رأيت رام الله عندها كمكان تم تخليصه من فم الأسد، حتى لو لم تكن السيادة كاملة اليوم بسبب الجيش الذي يحتلّ شعباً أعزل لا قوّة له إلا إرادة أهله.
شاهدت المستوطنات وكيف تحيط بالمدينة على أعلى التلال، وأنا أشعر أن كاميرا خفيّة في مكان ما منها تراني كما تراقب كل ما يدور في المكان. ومع ذلك كنت أوجه الكاميرا لألتقط الصور بقدر ما يمكنني لأوثق صورة المستوطنة التي يعزل فيها المحتلّ نفسه.
تجوّلت في وسط المدينة مندهشاً ومغتبطاً من جمال العمارة والحجارة، ومن النظافة وجمال الطبيعة معاً. خطف بصري الصخر الحنون، هذا الذي تراه أينما وجهتّ وجهك في أرجاء فلسطين، الحجر الذي يشكل صورة الفضاء العامّ للمبنى الفلسطينيّ الكبير، أو “البلاد” كما يطلق عليها أهلها، والذي يُلفت الانتباه بمجرد أن يتنشق المرء النسمات الأولى لهواء فلسطين. الصخر الحنون في رام الله تجلى في الكنائس القديمة التي تتوسط مركز المدينة، وفي المساجد والبيوت العتيقة الجميلة والمحال والأسواق والمتاحف. الصخر الذي كنت ألمح ابتسامته وهو يغمز لي مذكراً أنه لا يغدو طيعاً إلا حين تمسك به أيدي أهل البلاد، الذين يعرفون أسراره، ويدركون متى يستخدمونه موضوعاً للجمال، وكيف يحوّلونه سلاحاً طيّعا في أيدي الكبار والأطفال حينما تنتفض فلسطين وتصبح الحجارة حُلماً يهز جدران الظلم، كما رأينا في الانتفاضتين الأولى والثانية.
هذا ما تسمح به هذه العجالة، لكن الحديث عن فلسطين سيطول كثيراً.