الأمور تبدو أبعد من تيران وصنافر، نحن إزاء “صفقة القرن” كما يبدو. الصفقة التي جرى الحديث عنها بعد استلام دونالد ترامب الرئاسة، وهو الذي أشار إليها أولاً. لقد أصرّ النظام المصري بكل السبل على تسليم الجزيرتين إلى السعودية رغم حكم المحكمة الإدارية العليا، والرفض الشامل لذلك، ورغم كل الوثائق التاريخية ومن كل الأطراف الدولية والعربية وحتى السعودية، التي تؤكد أنهما تابعتان لمصر منذ زمن طويل. ولقد هيّج إعلامييه وكتبته لإقرار “سعودية” الجزيرتين رغم أن السفير السعودي في القاهرة قال حين طُرح الأمر أول مرة أن “المصريين أعطونا الجزيرتين”، وأكد الأمر ذاته الملك سلمان في مقابلة مع جريدة أميركية. ويبدو أن الأصل هو حصول توافق مصري “إسرائيلي” على ذلك، وظهر أن اتفاقاً رباعياً قد تم شمل مصر والسعودية وأميركا والدولة الصهيونية، وأشارت الصحف الصهيونية أن مصر قبضت 16 مليار دولار مقابل ذلك.
إذن، ربما ستبدو المسألة كتفصيل صغير في أحداث أكثر ضخامة ستجري في الفترة القادمة، هي ما باتت تُعرف بـ “صفقة القرن”. وهي الصفقة التي تقوم على تحقيق مصالحة بين الدول العربية والدولة الصهيونية، وإدماج الدولة الصهيونية في المنطقة العربية، واعطائها مكانة مركزية فيها، سواء على الصعيد السياسي أو على الصعيد الاقتصادي، وحتى على الصعيد الأمني، حيث ربما تصبح هي “قائدة” الناتو العربي (أو الإسلامي) الذي جرى التبشير به خلال مؤتمرات القمة في الرياض. فمن الواضح أن أميركا، قبل نجاح ترامب، ومع نجاحه، تسعى إلى فرض حلّ سياسي يحقق كل ذلك. وفي هذا الإطار أتت اللقاءات “السرية” (التي كشفت عنها الصحافة الصهيونية) بين نتنياهو والسيسي، في العقبة الأردنية بحضور الملك عبدالله، وفي القاهرة. ويتمثّل جوهر الأمر، كما يوضّح منظّري إدارة ترامب، في الانتقال بـ “الحل” من كونه كان يبدأ من الداخل (أي من الفلسطينيين مع الدولة الصهيونية) ليصل إلى الخارج (أي النظم العربية مع الدولة الصهيونية)، إلى كونه يبدأ على العكس، من الخارج (أي من النظم العربية) ليصل إلى الداخل (أي إلى الفلسطينيين). وهو الأمر الذي يعني عقد “اتفاق سلام” بين النظم العربية (وبالأساس النظم الخليجية التي طورت علاقاتها أصلاً مع الدولة الصهيونية منذ مدة)، وبمشاركة مصر والأردن، وربما المغرب، مع الدولة الصهيونية. وإقامة علاقات سياسية واقتصادية وأمنية معها.
وتحت هذا الخطاب يجري القول بأن هذه الخطوة ستكون مقدمة ضرورية للوصول إلى “سلام كامل” بين الفلسطينيين والدولة الصهيونية. على أساس أن المصالحة العربية مع الدولة الصهيونية سوف تسمح بـ “الضغط” على هذه الدولة من أجل الوصول إلى “سلام فلسطيني إسرائيلي”. وما يقال الآن هو أن ترامب عائد إلى المنطقة في أيلول/ سبتمبر القادم من أجل تحقيق “السلام العربي الإسرائيلي”، وأنه مصمم على عقد مؤتمر يضم هذه الأطراف. بمعنى أن ما كان يجري “في السرّ” سيصبح علنياً، حيث تطورت علاقات الدولة الصهيونية مع كل من قطر والإمارات (التي قامت بمناورات عسكرية مشتركة قبل وقت قصير)، والسعودية، وقبلاً تونس والمغرب. وبهذا يتشكّل تحالف مشترك ضد إيران التي ستُعتبر أنها “الخطر الرئيسي”، والتي تحتاج مواجهتها إلى هذا التحالف نتيجة التوافق بين كل هذه الأطراف على محاربتها. رغم أن هدف هذا التحالف سيكون أبعد أثراً، وربما يكون مؤسساً لمواجهة الموجات الثورية التي بدأت ولم تنته بعد، رغم كل الصعوبات والوحشية التي مورست ضد الشعوب التي ثارت.
طبعاً، هذا يعني أن ما سوف يتحقق في فلسطين هو المنظور الذي كررته الدولة الصهيونية منذ عقود، والقائم على أن فلسطين هي “إسرائيل”، وأن هناك مشكلة سكانية نتيجة الكثافة البشرية الفلسطينية تحتاج إلى حلّ، الذي سيكون بفرض الكانتونات التي تشكلت على ضوء التوسع الاستيطاني والسيطرة على الأرض وبناء الجدار العازل والطرق الإلتفافية والحواجز الأمنية. وسوف يجري التعامل مع السكان كسكان دون الأرض، الذين يمكن أن يحصوا على شكل ما من أشكال الحكم الذاتي، أو الربط مع الأردن لسكان الضفة الغربية، وشكل ما من الربط مع مصر لسكان قطاع غزة. وربما توسيع مساحة القطاع قليلاً عن طريق “ضم” أراض مصرية في شمال سيناء للقطاع. وبهذا تكون الدولة الصهيونية التي باتت قائمة على كل فلسطين قد أخرجت السكان الفلسطينيين من تكوينها السياسي. كل ذلك في ظل موافقة من قبل النظم العربية، وبرعايتها وتمويلها كذلك.
إذن، أولاً ستكون الدولة الصهيونية جزءاً جوهرياً في تحالف سياسي أمني يضم أنظمة عربية. ولا شك في أن الإصرار على ضم تيران وصنافر إلى السعودية يدفع إلى البحث في المسببات، والهدف، حيث يبدو أن التصور الأميركي (والصهيوني) يقوم على تحويل الدولة الصهيونية إلى مركز العلاقات الاقتصادية بين أوروبا والخليج. لهذا يجري الحديث عن إقامة قناة تصل البحر الأحمر من ميناء إيلات إلى البحر الأبيض المتوسط في عسقلان، لتكون هي البديل عن قناة السويس. ويجري الآن مدّ خط سكة حديد بين إيلات وعسقلان (تقوم ببنائه شركة صينية)، يكون قادراً على استيعاب الحركة التجارية. ولا شك في أن تحويل ملكية الجزيرتين إلى السعودية يعني في الواقع أن الممر الذي كان يخضع للسيادة المصرية بات ممراً دولياً، وبهذا خرج عن قدرة مصر على التحكم فيه. وبهذا تُعطى حرية الملاحة في خليج العقبة للسفن الدولية، وبالخصوص للسفن الصهيونية.
بهذا ستنتهي أهمية قناة السويس، وربما تخصخص بعد أن تتراجع إيراداتها، وينتهي مورد مالي مهم لمصر.
ربما تكون الأمور أبعد من ذلك، حيث جرت الموافقة على مشاريع كبيرة طرحتها السعودية (التي تبدو كمحلل شرعي) في سيناء، الأمر الذي يعني سيطرتها على جزء مهم من سيناء (ربما لهذا بات يشار من قبل بعض أبواق النظام المصري إلى أنها ليست مصرية)، وربما نجد أن هذه المشاريع تخدم توطيد العلاقة مع الدولة الصهيونية، التي يمكن أن تشارك فيها. وإذا كانت بعض هذه المشاريع تتعلق بالزراعة، فإن السعودية ستعتمد على “الخبرات” الصهيونية، لكن ربما الأخطر هو السعي لمدّ قناة من نهر النيل إلى سيناء تكون مقدمة لتوصيلها إلى الدولة الصهيونية كما تطالب منذ زمن طويل. إن كل ذلك يعني هيمنة صهيونية على سيناء بشكل جديد، وترك اقتصاد مصر للدمار.
بهذا، إن هذه “الخطوة الصغيرة” المتمثلة في إعطاء الجزيرتين إلى السعودية، هي مقدمة لمشروع كبير يتحدد جوهره في فرض الهيمنة الصهيونية على المنطقة، ومركزة طرق المواصلات والتجارة عندها، وإدماجها في النظام السياسي الأمني للمنطقة العربية، تكون هي المتحكم فيه، والمقرّر لمساره وسياساته.
في كل ذلك السعودية هي “محلل شرعي” لسيطرة صهيونية جديدة على سيناء، وكل المنطقة العربية. وبمشاركة من النظم العربية، من مصر إلى الإمارات والأردن، وحتى المغرب. فقد فوجئت بأن مصر قد أعطتها الجزيرتين دون أن تفكّر في الأمر أصلاً، لكنها قبلت أن تلعب دور “المحلل الشرعي” لأن الاستفادة من هذه الخطوة، وبالتالي السيطرة ستكون للدولة الصهيونية.