استن غسان كنفاني في دراسته أدب المقاومة سنّة سار على منوالها دارسو الأدب الفلسطيني في المنفى. سنة كنفاني تمثلت في تركيزه على الأدب الفلسطيني المقاوم واستبعاده الأدب الذي كتبه موالون للأحزاب الصهيونية الحاكمة. ما أقدم عليه غسان كان يقدم عليه الأدباء الفلسطينيون المقيمون في فلسطين ممن لم يرتبطوا بصحافة الأحزاب الصهيونية. هنا يمكن استثناء شاعر نشر في صحف حزب صهيوني أدعى أنه -أي الحزب- يدافع عن الفلسطينيين الباقين.
كانت المعارك الأدبية في فلسطين بين الشيوعيين وخصومهم لافتة ولذلك استبعد الأدباء الشيوعيون أكثر الأدباء الذين كتبوا في صحف أحزاب صهيونية وحاربوهم. التفت غسان كنفاني في دراسته «أدب المقاومة في فلسطين المحتلة ١٩٤٨-١٩٦٦» إلى الشعراء اليساريين والمشتبكين مع سياسة الحكومات الإسرائيلية، ولذلك درس أشعار راشد حسين الذي نشر في صحف حزب “مبام” وكان على خلاف كبير مع إميل حبيبي.
كان غسان التفت إلى مقطوعة شعرية قالها شاعر فلسطيني ذو حس وطني، في المتعاونين مع الأحزاب الصهيونية الحاكمة. نص المقطوعة يجري على لسان رجل فلسطيني من رجال السلطة الحاكمة وهو جبر معدي:
أنا في تالي زماني
صرت رمزاً للهوان
ساء فعلي فغدا
يهرب مني من يراني
شاربي طولته
أوصلته عيني وذاني
ولقد هندزت قمبازي
على الطراز اليماني
غير أن الله قد شقلب
مجدي بثواني
ولقد ولى زماني
ورماني عن حصاني
هكذا ميز غسان بين فلسطيني وفلسطيني وهو يدرس الأدب الفلسطيني كما لو أنه يتكئ على المقولة الماركسية الشهيرة في دراسة الأدب: “العلاقة بين الموقع والموقف”.
لم نقرأ في كتابي غسان الاثنين عن أدب المقاومة عن شعراء وقصاصين لم تكن لهم مواقف مقاومة من الدولة الناشئة مثل مصطفى مرار ومحمود عباسي وعطاالله منصور وآخرين، وحين نقرأ في كتاب أحمد أبو مطر «الرواية في الأدب الفلسطيني» أو في كتاب واصف أبو الشباب عن الفلسطيني في الأدب الفلسطيني فسنلحظ استبعادهما أدبيات الأدباء الذين انضووا تحت جناح صحافة الأحزاب الصهيونية.
ربما كنت أول من درس الأدب الفلسطيني في مناطق 1948 والتفت إلى أسماء أدبية استبعدها دارسو المنفى أو دارسو الضفة، فدارسو الأدب الفلسطيني ممن يقيمون في فلسطين 1948 مثل محمود غنايم وفاروق مواسي ومحمود عباسي ونبيه القاسم وآخرون، درسوا نتاجات أدباء اعتاد دارسو المنفى على استبعادها لأسباب وطنية وإيديولوجية بالدرجة الأولى.
كان ذلك في زمن كانت الحرب على أشدها وربما لم يختلف الأمر اختلافاً واضحاً لافتاً إلا بعد توقيع اتفاقية أوسلو وربما قبل ذلك بقليل، وتحديداً منذ قبل إميل حبيبي تسلم جائزة الدولة الاسرائيلية للأدب من يد رئيس الوزراء اسحق شامير. يومها كانت المفاجأة وكان السؤال: بم يختلف إميل حبيبي عن مصطفى مرار ومحمود عباسي وعطاالله منصور وآخرين؟ وإن لاحظ المرء بداية تقبل أدباء الحزب الشيوعي الإسرائيلي منذ أواسط الثمانينيات لنتاج أدباء حاربوهم من قبل، والعمل على نشرها في صحف ومجلات الحزب الشيوعي، وأبرز هؤلاء القاص مصطفى مرار.
وأنا أعد رسالة الدكتوراه في الأدب الفلسطيني عن صورة اليهود كان علي أن أكون أكاديمياً صرفاً وبالتالي فقد درست النتاج الأدبي الذي استطعت الحصول عليه لأدباء مقاومين وآخرين غير مقاومين، وكانت طبيعة الموضوع تتطلب هذا. ما الصورة التي يرسمها أدباء مقاومون للعدو؟ وما الصورة التي يرسمها أدباء قريبون من المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة؟ هنا اعتمدت على المقولة الماركسية الشهيرة: “تأثير الموقع على الموقف” وبالتالي على الصورة، وهكذا شكلت دراستي نهجاً جديداً في دراسات الدارسين من المنفى والمناطق المحتلة عام 1967. لقد درست في كتابي -أطروحة الدكتوراه- نصوصاً لمحمود عباسي وعطاالله منصور وعبد الله عيشان وهي نصوص غالباً ما استبعدها الدارسون العرب إن سمعوا بها.
هل كان غسان كنفاني والدارسون العرب والفلسطينيون في المنفى محقين؟ طبعاً على المرء ألا ينسى أمرين اثنين هما: إن بعض دراسات الدارسين لم تكن دراسات أكاديمية صرفة، وأن نصوص الأدباء غير المقاومين لم يتح لها الانتشار في العالم العربي، عدا عن أن أكثرها كانت نصوصاً متواضعة من ناحية فنية.
ليس في دراسات غسان وأبو مطر وآخرين أي تناول لروايات عباسي ومنصور وقصص عيشان وغيرهم ممن حُسبوا على الأحزاب الصهيونية الحاكمة في إسرائيل، بل إن الدارسين استبعدوا أعمال زكي درويش وهو أخو الشاعر محمود درويش لأنها صدرت عن مجلة “الشرق” التي صدرت عن جهة سلطوية حاكمة. أعتقد أن الصحافة والجهة التي كانت تمولها أسهمت في تحديد هوية الأدب الفلسطيني وكذلك المواقف الأدبية والسياسية للكتّاب. رحم الله غسان كنفاني.