تُعتبر «حلم منتصف ليلة صيف» إحدى أكثر الكوميديات الشكسبيرية بهرجة، لما تنضوي عليه من عوالم مختلفة، فالخشبة دائماً ممتلئة بالممثلين والأغراض والديكورات، لكن المخرج الفرنسي فلافي فونتين كان له طريقته المتقشفة في تقديم المسرحية على مسرح La petite caserne ضمن عروض خارج “أوف – Off” في أفينيون
خشبة مسرح صغيرة وضيقة لا تتسع لأكثر من عشرة أشخاص، مساحة سوداء مجردة من أي معنى عدا عن كونها خشبة مسرح، محاطة بستائر من اللون ذاته في جوانبها الثلاثة، يواجهها خمسة صفوف قصيرة من الكراسي، هذا هو مسرح La petite caserne أو “الثكنة الصغيرة” بالعربية. المكان حار بالداخل، ويشعرك بأن صغره سيعيق أي مسرحية بأن تؤدّى هنا. ومع دخولك إلى المسرح يدهمك إحساس بالضيق كون الممثلين الثمانية يشغلون كامل مساحة الخشبة وهم يقومون بعملية الإحماء الجسدي، وسرعان ما تمتلئ الصالة ليبدأ العرض.
أربعة عوالم في النص الشكسبيري، عالم ثيسيوس ملك أثينا الذي سيتزوج قريباً، وعالم العشاق هيرميا، وهيلينا، وليساندر، وديميتريوس حيث تجمع بينهم شبكة معقدة من العلاقات الغرامية، فالشابان يعشقان هرميا، وهرميا تحب ليساندر، وهلينا تحب ديميتريوس.العالم الثالث هو عالم الجن وفيه ملك الجن وملكته متخاصمان، ما يعكس خلافهما سحراً على العلاقات الغرامية للعشاق الأربعة، أما رابع عوالم المسرحية فتشكله فرقة مسرحية من عمال المدينة يتدربون على عرض ليقدموه في حفل زفاف الملك.
لكل مجموعة من الشخصيات عالمها، وعبر العوالم كلها تتنقّل المسرحية بين البلاط والسوق، بين العالم المادي والعالم السحري للجن، لتشكل هذه الرحلة المفعمة بالخيال الحكاية بين إعلان الزواج وحصوله في المشهد الأخير بعد أن سوّى الجن بين قلوب العشاق فديميتريوس لهلينا، وليساندر لهرميا، والزفاف سيشتمل على المسرحية التي تدرب عليها عمال أثينا دون أن يسلموا من ألاعيب الجن الذين أبدلوا رأس الممثل الأساسي برأس حمار، وأعادوه مجدداً.
يحصل كل هذا في عرض فونتين دون أي ديكورات وضمن مساحة لعب صغيرة، لم يوسعها إلا الخيال الذي فرضوه على جمهور العرض، فاستطاعوا التبديل بين عالم وآخر من خلال إكسسوارات بسيطة كحزام، أو معطف.. إلخ. كما كانت الكوميديا الشكسبيرية قادرة على إضحاك الجمهور طيلة العرض، إلا إن تميّز هذا العرض كان بسبب المسرحَة العالية بدءاً من الدخول بينما الممثلون يقومون بالإحماء، إلى تبديلهم لثيابهم وشخصياتهم على الخشبة، وانتهاءً بحفل زفاف الملك الذي جلس مع عروسه بين الجمهور بعد أن تحدث مع معظمهم كمدعوين للزفاف، ثم ليجلس في طرف الصالة وعروسه في الطرف الأقصى، نتابع جميعاً المسرحية التي قدمها عمال أثينا والتي شغلت حيزا كبيراً من وقت العرض.
ما تقدمه المسرحية بدءاً من عنوانها هو بحث في الحلم، والحقيقة والوهم والخيال والملموس، وتعتمد بالدرجة الأولى على مفهوم الحب لتبحث في هشاشته إذ أنه قابل للتبدل والتقلب بين ليلة وضحاها، وفي الوقت نفسه تثبت المسرحية مركزيته في حياة البشر على الرغم من هذه الهشاشة. إلا أن للفرقة الفرنسية إضافتها ضمن كل ما جاء، وهو تعميق السؤال الذي بدأه شكسبير في النص عن المسرح كمفهوم مشابه للحب من ناحية الهشاشة والانتقال بين الوهم والحقيقة، عبر تأكيد المخرج خلال العرض كله أن ما يُقدم ليس إلا مسرحية على خشبة فارغة، قادرة على إحياء النص الشكسبيري في خيال المتفرج عبر الأداء فقط، على الرغم من أن كل ممثل لعب ما لا يقل عن ثلاث شخصيات في عوالم مختلفة، كان الانتقال بينها سريعاً ومكشوفاً، ما ساعد أكثر على إغراق الصالة بالضحك.
كثيرة هي المسرحيات التي قُدمت ومازالت تُقدم خلال المهرجان والتي تتحدث عن المسرح نفسه في مواضيعها، إلا أن خيار فلافي فونتين في الابتعاد عن النصوص التي تتحدث بالدرجة الأولى عن المسرح، والعودة لنص شكسبيري يتطلب إمكانات هائلة على الخشبة. ثم إن تجريد النص من كل ما رآه المخرج زيادات ضمن رؤيته، والبحث أكثر في المفاهيم، وتناول موضوعة المسرح ضمنها، قرّب النص الشكسبيري أولاً، والسؤال المسرحي المطروح في العرض ثانياً للمتلقي، فأصبح العرض يمس الجميع: جمهوراً أتى للمتعة والضحك والتسلية فقط، وجمهوراً مهتم بسؤال المسرح ومعناه اليوم.