يعتبر قصر الباباوات في أفينيون أحد أهم مسارح العالم، لخصوصيته التاريخية (الدينية، والمسرحية)، وخصوصية خشبته الضخمة. وفي موسمه الواحد والسبعين سيتم تقديم مسرحيتين فقط من مهرجان أفينيون المسرحي على هذه الخشبة، نتناول أحدهما «أنتيغون»، (Antigone) النص الإغريقي لكاتبه سوفوكليس وهو من إخراج الياباني ساتوشي مياغي (Satoshi Miyagi).
ساحة كبيرة تتقدم واجهة قصر الباباوات العملاقة، أكشاك بيع التذاكر على أطرافها، وبين الواجهة والأكشاك تقف الحشود بخمسة طوابير تشعرك أن لا نهاية لها، ولولا أن المدينة استحالت كلها مسرحاً مع بدء المهرجان، سيخطر للمارة أن هذا الحشد الضخم ينتظر دخوله إلى ملعب لكرة القدم.
داخل المسرح المكشوف تحار عينك أتجول في المكان المبهر؟ أم تستطلع سينوغرافيا العرض الذي لم يبدأ بعد؟ عين هنا، وعين هناك، تجتمعان على مطالعة الخشبة الفسيحة التي غرقت كلها بالماء. شخصيات ترتدي زياً أبيض، تسير ببطء في مياه بعمق 20 سم تقريباً.
يبدأ العرض بدخول عدد جديد من الشخصيات، يقفون على حافة الخشبة، يتكلمون الفرنسية بلكنة يابانية المقصود منها الإضحاك، ويقدمون عرضاً كوميدياً لعشر دقائق هدفه التذكير بالمأساة، يعرّفون عن أنفسهم بأنهم فرقة مركز شيزوكا لفنون الأداء (Shizuoka Performing Arts Cente) لنعلم أنهم أتوا من شيزوكا لا من طوكيو، المدينة الصغيرة على سفح جبل في اليابان.
على إثر خروجهم يدخل ممثل بزيّ رجل دين بوذي على طوافة يوزع الشعر المستعار على بعض الشخصيات التي مازالت تسير في الماء، يأخذ منهم الشموع ويعود للخروج على أنغام موسيقى طقسية آسيوية اعتمدت على الآلات اليابانية والكثير من آلات الإيقاع، الفرقة على الخشبة، أيضاً في الماء، بين المشهد وجدار خشبة قصر الباباوات الشهير الذي تنتهي به الخشبة.
يفتتح الفصل الأول من المسرحية حوار أنتيغون وأختها إيسمين على صخرة تتوسط المياه تعلن أنتيغون لإيسمين أنها ستخالف أوامر الملك كريون وتدفن أخاها، بعد أن اتهمه الملك بخيانة مدينته ومنع دفنه، أنتيغون وإيسمين على الصخرة تؤديان الحوار بأجسادهما ببطء، وعلى جانب كل منهما جلست ممثلتان تؤديان الحوار صوتاً، والماء تغطي ركبتيهما، وجه محايد، صوت لا يُعرف إن كان غناءً، أم كلاماً ملحناً، أم هو استنفاذٌ لإيقاعات اللغة اليابانية وتحدٍّ للموسيقى أوجده المخرج. فتُستغل الخشبة كاملة، بالموسيقيين، والسائرين في الماء، والمؤديين الصامتين، والمؤدين بالحوارات الملّحنة بأصواتهم.
تستمر المسرحية بهذا الأسلوب، مع إدخال تنويع جديد ومفاجَئة بصرية مع دخول كل فصل، ففي مواجهة أنتيغون وكريون قبل أن يعتقلها لمخالفة قراره ودفنها لأخيها، يسلط المخرج ضوءاً سفلياً على الشخصيتين ويعكس ظليهما على جدار قصر الباباوات المقارب بالارتفاع لستة طوابق من الأبنية التقليدية تقريباً، فيضاف بعدٌ آخر للمشهد، وبالإضافة للطقس الذي تخلقه حركة الشخصيات بسيرها في الماء، والموسيقى الحية، وأداء الشخصيات الجسدي البطيء والمليء بالمعنى، والأداء الصوتي للجالسين في الماء، يُدخل مياغي خيال الظل كمستوى إضافي، ومن خلال أحجام ظلال الشخصيات وحركاتها تتكشف الأبعاد الأخلاقية في حوار الشخصيات، وقوة منطقها، وقدرتها على الجدل.
يقرر كريون قتل ابنة أخته أنتيغون عقاباً على فعلتها، فيحاوره ابنه هيمون عشيق أنتيغون، هنا لم يكتف مياغي بمحاكمة منطق الشخصيات بحجوم ظلالها فقط، إنما عكس فوقها ظلال الماء بتموجاته الخفيفة، لتبدو ناراً تأكل ظلال هيمون وكريون وتمهّد لما سيلي المشهد من موت كما قال العرّاف تيريزيس.
أما ذروة التركيب البصري فكانت مع انتحار هيمون حيث انتحر على صخرة بعيدة عن الصخرة التي تموت عليها أنتيغون على الخشبة، أما على الجدار فقد مات الظلان ممسكان بيد بعضيهما البعض، بعد أن تحرك الضوء ليحرّك الظلال ويعطيها أبعاداً أخرى، هيمون لم ينتحر في لحظة موت أنتيغون، لكن انتحاره هو رحيل معها وفي آن معاً عن هذا العالم القبيح، رحيل شاعري تجسده ظلال (أوهام) تخالف الواقع، لكن المخرج أنطق الصورة بما لا قدرة للكلام على قوله، قبل أن تتحقق المأساة ويموت الجميع.
يعتمد مياغي على رمزية المكان الدينية، فيحاول جلب طقوس الديانات الشرقية إليها، دامجاً النص الوثني، بالمكان المسيحي، بطقوس بوذية في الأداء، حيث أنتيغون في النص الإغريقي تعتبر الدفن واجباً تجاه الآلهة. أما لدى مياغي فإن أنتيغون ستدفن أخيها حتى لو انتفى التراب، يكفي أن تهيل عليه بعض الماء فيفهم الجميع أنها دفنته.
وعن انتفاء التراب من العرض ووجود الماء عوضا عنه، فهناك العديد من القراءات منها أن “الشنتو” في اليابان يعتبرون العلاقة مع الماء علاقة مقدسة، تأخذ معنى التطهير أكثر من التنظيف، وهناك قراءة أخرى تقول أن مدناً غرقت في اليابان وطافت على وجه الماء وربما كان مياغي القادم من سفح جبل في اليابان، يحاول أن يأخذنا معه إلى هذه المدن، وهناك أيضاً قراءات تقول أن الماء هو ما يفصل بين عالم الموتى، وأن شخصيات مياغي ارتدت البياض كدليل على أنها ماتت مسبقاً والحكاية تبدأ بعالم الموتى. قراءة رابعة هي التي حدثنا بها دراماتورج العرض يوشيجي يوكوياما: “أن الموتى في الثقافة اليابانية عليهم أن يجتازوا ينبوعا بعد الموت، ويعتبر الماء أحد المراحل التي يمر بها الموتى في العالم الآخر، حاولنا أن نقدم أنتيغون من ذلك المكان، مع الأمانة في التعامل مع النص والرغبة في الحفاظ عليه”.
يبقى إنجاز مياغي المقدم على خشبة قصر الباباوات هو أنه أتى من أقصى الشرق ليبدل عناصر الطبيعة لنص مسرحي عمره آلاف السنين، فيحذف التراب من نص يقوم على موضوعة دفنٍ لميت، ويبدله بالماء، فيربك النقاد وأكاديميات المسرح ويجبرهما على الغوص في ثقافته. ويوجه سؤالًا لكل أبناء الثقافات الخارجة عن المركزية الأوروبية: ما هو التأصيل إن لم يبدأ هكذا؟