تبقى مسألة نقطة الانطلاق في التحليل الماركسي خاضعة لاجتهادات عديدة، رغم أنها تؤكد على ضرورة الانطلاق من الواقع. لكن ما هي “المسائل الأولية” التي يجب الاعتماد عليها؟ هنا تتوه المسائل، ويجري قلب الماركسية لكي تقف على رأسها. حيث ليس مفهوماً ما هي “المنطلقات” التي يجب الإتكاء عليها في تحليل الواقع. رغم كل توضيحات ماركس، وخصوصاً إنجلز الثرية. لهذا يعاد بناء الماركسية كـ “نظرية”، أو كـ “مجموعة من القوانين” التي يُخضع الواقع لها. وبهذا يعاد إنتاج المنطق الصوري، ومبدأ القياس الذي هو خاصته.
يقول إنجلز “ونحن جميعاً موافقون على أنه يجب، في أي ميدان علمي -في ميدان الطبيعة كما في ميدان التاريخ- الانطلاق من الوقائع المتوفرة لدينا، وبالتالي الانطلاق في علم الطبيعة -كما في التاريخ- من مختلف أشكال الأشياء، ومن مختلف أشكال حركة المادة. وأنه لا يجوز، بالتالي في علم الطبيعة النظري أيضاً، تصميم الروابط وحملها إلى الوقائع، بل يجب استنباطها من الوقائع وإثباتها، بعد العثور عليها، بالطريق التجريبي على قدر الإمكان.
ولكننا غالباً ما نصادف في علم الطبيعة نفسه نظريات تقلب العلاقات الفعلية على رأسها وتعتبر الانعكاس بمثابة الشيء المنعكس ولذلك فهي تحتاج إلى إيقافها أيضاً على قدميها” (من المقدمة القديمة لكتاب ضد دوهرنغ).
يقول إنجلز هنا أنه لا يجوز “تصميم الروابط وحملها إلى الوقائع”، ويكمل “بل يجب استنباطها من الوقائع”. الروابط تُستنبط من الوقائع، هكذا بالضبط هي المنهجية الماركسية التي تقدّم مؤشرات عامة لطريقة فهم الواقع، هي الديالكتيك. وإنجلز يقول ذلك وهو يقدّم لكتاب يتناول في جزئه الأول الديالكتيك. بالتالي، عدا ذلك، لا يجب “تصميم الروابط وحملها إلى الوقائع”، بل يجب أن تُستنبط الروابط من الوقائع. هل من وضوح أكثر من ذلك؟
الفارق كبير بين هذا وذاك، بل أن كل منهما يعبّر عن منظور مختلف. حيث أن الانطلاق من الروابط يعني قسر الواقع، وحصره في منظومة مصاغة مسبقاً. وهذا منظور مثالي. بينما يكون استنباط الروابط من الوقائع استناداً إلى الديالكتيك هو المنظور المادي (العلمي)، حيث يجب أن ينطلق كل تحليل من درس الوقائع، وكشف بنيتها، وخلفياتها، للوصول إلى تشكيل الروابط التي تقوم بينها. هذا هو درس الماركسية الأولي، الذي جعلها منهجية علمية.
عكس ذلك ينطلق مهدي عامل، حيث يقول “في حقل النظر في أسئلة الواقع تتكوّن النظرية، ومن الأسئلة تنطلق لتستوي على صعيدها الخاص وتأخذ حركتها المستقلة نسبياً في حركة مفاهيمها الاستخلاصية. ثم تعود ثانية إلى حقل اختبارها التاريخي الذي فيه أيضاً تختبر الواقع نظرياً” (مناقشات وأحاديث، ط1/1990، ص31)، فـ “إن النظرية ليست بحاجة، في طور انبنائها الداخلي، إلى -برهنة تاريخية- بل هي بحاجة، بالضبط… إلى تماسكها في شبكة من العلاقات المفهومية الاستخلاصية… هذه الشبكة هي حقل البرهان النظري” (ص30). وليس هنا من حاجة لـ “برهنة تاريخية”، فـ “بمقدار ما يكون البناء النظري صارماً، تزداد مفاهيمه قدرة على التملّك المعرفي للواقع التاريخي الملموس. وحين تدخل المفاهيم هذه في مجابهة مع الواقع هذا، كأدوات لإنتاج معرفته، تنتقل حينئذ من حقل وجودها في النظرية الى حقل وجودها في الاختبار”، وهو اختبار مزدوج، “إنه اختبار نظري للواقع التاريخي الملموس، واختبار تاريخي لجهاز المفاهيم النظرية” (ص30).
ويشير إلى “جهاز المفاهيم النظري” الذي صاغه في كتاب “مقدمات نظرية”، الذي هو “مفاهيم نظرية يفرض عليها منطق البحث العلمي أن تترابط وتتماسك في شبكة من العلاقات الداخلية الاستخلاصية -وبالتالي المنطقية- لا ترى فيها إلى الواقع التاريخي الملموس إلا بما هو عندها مثال تستعين به في تأييد حركتها أو تأكيدها” (ص29/30). ليصل إلى أنه كان عليه أن ينتج “أداة، أو أدوات إنتاج معرفة الواقع التاريخي لمجتمعاتنا الكولونيالية”، ونبّه إلى “ضرورة التمييز في سيرورة إنتاج المعرفة العلمية بين إنتاج هذه المعرفة وإنتاج أدوات إنتاجها” (ص30).
إنجلز يقول أنه لا يجوز “تصميم الروابط وحملها إلى الوقائع”، بل يجب استنباط الروابط من الوقائع. ومهدي يقول يجب أن نؤسس البناء النظري قبل أن نذهب إلى الوقائع. يجب إنتاج “أدوات إنتاج معرفة الواقع التاريخي” قبل “مجابهة الواقع”. بالتالي يصبح فهم الواقع قائماً على “بناء نظري” تنبع علميته من تماسكه الداخلي، وليس من داخل الواقع ذاته. ليكون الواقع مصاغاً في “بناء نظري” قبل أن يجري البحث فيه. وعلى ضوء هذا “البناء النظري”، أو النظرية، أو “أدوات إنتاج المعرفة” يمكن البحث في الواقع، وفي هذه العملية يجري “اختبار” الواقع والنظرية معاً. لكن لا شك في أن الواقع سيخضع للقصقصة لكي يتناسب مع “البناء النظري”، الذي هو شديد التماسك، وأيضاً الصحّة. هنا يكون “الشغل النظري” ما بعد “إنتاج أدوات إنتاج المعرفة” حول مطابقة الواقع للنظرية، أو فهم الواقع على ضوء النظرية التي لم تكن نتاج الواقع بل تبلورت في الذهن على ضوء “الأسئلة” التي يطرحها الواقع. بالتالي تصاغ النظرية قبل البحث في الواقع لفهم الواقع. وستكون هنا “أداة قياس” وليس منهجية تحليل. ومن ثم لتحلّ محل المنهجية التي بلورها ماركس/إنجلز، أي الجدل المادي. فهو “أداة إنتاج معرفة الواقع التاريخي”. وهو “مؤشرات عامة” ترشد البحث في الوقائع لفهم الواقع علمياً، وبلورة النظرية المطابقة له.
مهدي ينطلق من أسئلة نظرية ليقدّم إجابات نظرية هي التي يسميها نظرية، أو “أدوات إنتاج معرفة الواقع التاريخي”، وهي “شبكة من العلاقات المفهومية الاستخلاصية”، يجب أن تتسم بالتماسك النظري دون الحاجة إلى “برهنة تاريخية” بل هي بحاجة إلى “برهان نظري”. والبحث في هذه المرحلة هو بحث نظري مجرّد، وهو يشير إلى كتاب «مقدمات» (الذي يضم «في التناقض» كجزء أولن و«نمط الإنتاج الكولونيالي» كجزء ثاني) لتوكيد ذلك. بالتالي فقد توصّل إلى مفهوم نمط الإنتاج الكولونيالي ليس نتيجة البحث في واقع الأطراف بل عبر الإجابة على سؤال “علاقة الاختلاف بين المجتمعات المستعمرة سابقاً والبلدان الإمبريالية في علاقة ارتباطها التبعي البنيوي بها، فلجأت إلى إنتاج مفهوم -نمط الإنتاج الكولونيالي-” (ص30). فالمفهوم هنا سبق البحث في واقع البلدان التي كانت مستعمَرة، وعلى ضوئه جرى “اكتشاف” الطابع الكولونيالي لنمط الإنتاج. هنا بانت صحة “النظرية” وفُهم الواقع!
مهدي هنا يُخضع الواقع للفكرة، التي صاغها قبل أن يبحث في الواقع، ورأى الواقع عبرها بصفتها “أداة إنتاج معرفة الواقع التاريخي”. إذن هو “يتصوّر” أدوات نظرية تطابق الواقع، ومن ثم “يكتشفها” في الواقع. يبدأ ببناء نظرية للواقع ومن ثم يصل إلى صحتها قبل أن يبحث في الواقع. وليكون الواقع، تالياً، شاهداً على صحتها.
نحن، مع مهدي، في ملكوت المثالية إذن. في منظور تحليلي قال ماركس أنه عمل على إيقافه على قدميه، حيث أن الأولوية هي للواقع على الفكرة، وأن الفكرة هي نتاج الواقع. وبالتالي فإن النظرية هي تحليل الواقع، وليس من نظرية علمية سابقة على ذلك. هنا فقط منهجية تحليل، هي: الجدل المادي بقوانينه “الأكثر عمومية”، والتي تفرض أن تكون “آليات نشاط العقل” لكي يكون التحليل علمياً. أما غير ذلك فهو انتقال إلى المثالية من جديد. ونص إنجلز سابق الذكر واضح في هذا المجال، حيث أن الروابط، أو “شبكة العلاقات المفهومية” (حسب مهدي)، تُستنبط من الوقائع. لهذا فإن تحديد نمط الإنتاج يفترض بالضرورة درس الوقائع الاقتصادية والبنى المجتمعية العيانية، وليس “التأليف النظري”. وهذا يفتح على إشكالية مفهوم “نمط الإنتاج الكولونيالي”، وعلى كلية البنية التي صاغ بها مهدي التناقض، بالضبط لأنها تقترب من اللفظية أكثر مما تعطي تصوراً حقيقياً للواقع، أو تقدّم آليات “عقلية” لفهمه. فهي “تجريد فارغ”، ومتاهة تُغرق النظر بين التحديد والصيرورة. بين فهم البنى وفهم حركتها.