الوصف في قصيدة النثر هو بلاغة يتأسس على إبقاء المعنى طاهراً، المعنى الذي يظل ناعماً بكراً في أحلى هذره وحيله، ما هو المخفي وسارح في ضبابه لهو هسهسة المكان والجهات والأفق. كل شيء في كتابة هالة محمد هو استعارة من الألوان والأصوات والحركات في نشأتها الأولى، إلى طينتها الراكضة، حتى ظلال الكلمات وضلالها تتحول إلى كثافة لغوية مختمرة، تشرع على قيامة البداهات والبساطة “الملغزة”، كل شيء يتحول شعراً أو مشهدًا شعرياً لكائنات متحركة (الأشياء الغامضة الواضحة، جماليات الكلام العادي المشاع والمستتر، ظواهر الجمادات وما تتبعها من نوافل وهوامش تمس الحياة والموت، شخوص يحكون بلسان الشاعرة ويجلسون في النص كمتفرجين عميان، نزوع متفق عليه لسرد السيرة المدهشة لحياة امرأة مدهشة)، إذاً كائنات تعتصر في النص كدلالات حسّية رقيقة ككف طفل يبعد الغمام عن سطح المرآة:
كم أنا طرية
سعيدة
طفلة ..
في هذه العتمة.
هذه الشاعرة وفي كل كتابة لها تقلّب خيال القارئ وتولّد فيه الرغبة في أن يبقى أكثر في النص، مشرفاً أو شريكاً لا فرق طالما أن اللغة تعصف الجميع بمفردات مشاعة مشتركة، ومعان مفتوحة ومتاحة للكل، نص هالة مساحة فسيحة لأشكال الحياة واليأس معاً، للوجود الحي والفناء الخالد:
الابتسامة
التي لم تعرف طريقها إلى فمي أيام السعادة
كريح صامتة
كشاهدة على قبر
تشق وجهي
في أحزاني.
تكتب هذه الشاعرة بامتنان لا مثيل له دون أقنعة أو مزالق تجرفها إلى تدوين خيباتها وجسارتها، كتلة أحاسيس لا تستريح أو تكل من إشهار اشتعالاتها وجموح خيالها الذي طالما عذّب القارئ وانتهك مواثيقه ونكص بمهادنته. كتابتها تصلح لإبرام صفقات مع الحواس، حواسها الشعرية المستنفرة كعاصفة قابعة في أعماق المحيط، هدنة خفية مع الخوف الذي يبقى ولا يزول، مع الألم والبرد واللغة وأشياء أخرى تشبه فناء الكون.
هذا الخوفُ
الماضي …
صارَ منَ الماضي.
مجرّدَ ماض ٍ
بعيد ٍفي نفسي
كأنين ٍ خافت ٍ في مأتم ٍ
في بيتٍ
مجاورْ.
رَطب ٍ
كجسدٍ
في مقبرة ْ.
قريب ٍ من جلدي
كالَنفَسْ.
في شعرية هالة محمد الخفّة، الغواية المغلوبة على أمرها، الخيال الدائخ الذي يتبعه رائحة ما تتفكك وتتشظى وتصير غيمة على أرض مصنوعة من الفولاذ والإسمنت، شعرية هائجة تقوم على لغة مدرّبة عاصفة، بمخيلة تتبعثر أو تنقطع كحبات المطر، وسرعان ما ترعد وتبرق في لحظات ولا تهدأ. هي شهوات مختنقة مشتعلة تقبض على القلب وتمتحنه كفرخ طائر يتعلم الطيران في يوم ممطر، هي كتابة إصغاء إلى العمق الإنساني “الغريق” في وحدته وهدأته في المقام الأخير، أو ربما إصغاء مسروق إلى عزيف الكلمات التي لا يمكن ترويضها، وربما إلى عظام اللغة وهي تتكسر تحت عجلات البلاغة “الرقيقة” الطرية وتذوب في أرتعاشة اللقطة “البصرية” الجامحة، شعرية هالة محمد لغة مستعادة لفكرة مفقودة أو هي مختبئة في اليد وعلى مرمى بصر الجميع، نصوص حكائية بلا ثمرة أو تدوين، ترجمة صلبة لمذاهب القول الشعري و”المرارات” المتخيلة أو الأصح هي فضائل الوقت والحلم المنهوب، أو المنهوك لا فرق. يبقى الشعر ثمرة الجميع، وهالة شجرتنا المصنوعة من فلزات اللون.