في الحافلة تتجاذب أحيانا مع بعض السواقين أطراف الحديث، فليس صحيحاً المثل الذي يربط بين (الشفير والشرطي و..). نعم ليس المثل صحيحاً وأنا هنا لا أدافع عن مهنة أبي وأعمامي وأخوني أبداً.
السواقون مثلنا، ونحن منا المحترم ومنا غير المحترم، فكيف إذا كانت النفس الواحدة تنشطر إلى شطرين؟!
أحياناً يتصرف المرء منا تصرفات هوجاء كما لو أنه تربى في الشوارع، وفي مراهقتنا تربينا بالفعل بالشوارع. هل نفضنا مع التقدم في العمر كل ما اكتسبناه من الشوارع؟ والسواقون مثلنا.
غالباً ما لا أفتح في الحافلة حواراً مع أي راكب ومنهم السائق. غالباً فأحياناً أنسى نفسي وأثرثر، وعندما كتبت نصي “ليل الضفة الطويل“ عام 1993، ذهب بعض القراء إلى أن الكلام الذي ورد على لسان بعض الحضور هو كلامي أنا وأخذ هؤلاء القراء يتذاكون ويختبرونني. هل الكلام صادر عن الشخصيات أم أنني قولتهم ما لم يقولوا؟
السواقون الثلاثة الذين تشابهت حالتهم سواقون كبار في السن وأعتقد جازماً أنهم تجاوزوا الخمسين، فابناؤهم درسوا في الجامعات وتخرجوا منها. ريفيان ولاجئ وهم يحرصون على تعليم أولادهم علّهم يظفرون بوظيفة ما تعينهم وتعين الأسرة -هذا كان أمري أيضاً وأبي سائق وأظن أنني أعنته في حياته.
ثمة سائقان يقيمان تقريباً في الحي الشعبي الذي أقيم فيه -حي يقطن فيه قرويون ولاجئون وفقراء مدينة. السواقون الثلاثة علّموا ما لا يقل عن ثلاثة أو أربعة أبناء وتأملوا خيراً ولكن..
ربما يعتقد السواقون أن يدي طائلة وأنني قد أساعد في توظيف أبنائهم ولهذا يفضفضون ويقصون علي ما ألم بهم.
غالباً ما يأتي السواقون على التعيينات بالواسطة. “لا ظهر لنا“ يقولون لي ويتابعون: “الوظائف محجوزة والتعيين يتم مسبقاً والامتحانات شكلية”. هل يبالغ السواقون ولم يكذبوا؟ فقد أخبرني صديق كيف تم تعيين ابنه، ولا أعرف لماذا أخبرني. التقينا معاً في أثناء زيارة صديق يعاني إخوته من تعيين أبنائهم. هل أراد صديقي أن يختصر الطريق عليهم ويرشدهم إلى أقصر الطرق؟ ربما.
أبناء السواقين الثلاثة، كما يخبرني السواقون، متميزون وعلاماتهم مرتفعة في الجامعة وفي الامتحان، ومع ذلك لا يحصلون على الوظيفة. يتكلم الآباء بحسرة فلقد أنفقوا آلاف الدنانير والنتيجة أن أبناءهم بلا وظيفة.
هل نلوم الاحتلال أم نبرئ ذمة السلطة الفلسطينية فالخريجون كثر والوظائف محدودة؟
شكوى السواقين الثلاثة غالباً ما يرافقها حديث عن الفساد في التعيين وعدم اختيار الأكفأ، فالتعيين يتم أساساً من خلال الواسطة والمحسوبية.
الحقيقة أنني شخصياً عانيت مما يعاني منه السواقون وحاولت في بداية حياتي أن ألجأ إلى الواسطة ولكني لم أحصل على أي شيء بالواسطة. وغالباً ما كنت ضحيتها. وغالباً ما كان تعييني يأتي على مصائب الآخرين. في تعييني في الحكومة والوكالة والجامعة يحدث شيء مفاجئ وتكون النتيجة لصالحي ولا أزعم أنني ملاك ولكني أحياناً أرى ما تفعله الواسطة في التعيينات وفي حياتنا.
هل أصمت على هذا؟
مما تعلمته في ألمانيا مصطلح civilcourage، أي الشجاعة الأدبية وأحياناً أتسلح بها لأقف في وجه الفساد -وما أكثره!
ماذا أقول للسواقين الثلاثة الذين أعرفهم وأحاورهم؟ هل أقول لهم إنني غير قادر على فعل شيء؟
الحمد لله أن طريق السفر غالباً ما يكون قصيراً ولا يستمر الحوار الذي يعبّر عن شعور بالامتعاض. وأحياناً أجدني أستحضر أقاربي من الخريجين؛ أبناء إخواني وأخواتي، فلأختي خريجان لم يعثرا على وظيفة ولأخي ابنتان لم تحصلا على وظيفة ولأخ آخر ابن لم يحصل على وظيفة و..و..و أحمد الله أن ابنتيّ في الأردن. هناك تعلمتا وهناك عملتا ولم يكن لي شأن في الأمر كله. كنت أدفع لهما أقساط التعليم الموازي لأن جواز سفري فلسطيني ولم أتصل بأي صديق قديم لي غدا وزيراً عله يتدخل في الأمر فتحصل ابنتاي على إعفاء.
قلت مؤخراً لأحد السواقين الثلاثة: “أعرف أن الفساد يأتي من فوق وأستطيع أن آتي بأدلة“.
دائماً ما أتحسس رأس السمكة وأتحسس أيضاً رأسي ولست ملاكاً ولست شجاعاً بما فيه الكفاية لكي أقطع رأس الأفعى وإن كنت أصرخ.
حلها يا إدوارد سعيد. هل أنا مثقف أم أنا موظف؟
مرة عرضت على أحد زملائي في مؤسسة ما أن يقف معنا ضد قرار رئيس المؤسسة فقال لي: ”إنني أسعى لتعيين ابنتي فأنا أحاور الرئيس بهذا الشأن ولا يمكن أن أقف معكم، وكان له ما أراد وأكثر.
كاسك يا وطن.