اثنتا عشرة وصية جنسية للبروليتاريا

Rene Magritte, Hegel's Holiday, 1958

جولان حاجي

شاعر ومترجم سوري كردي

شبيهات هذه التّهم لحقت بالمنضويات ضمن تنظيمات يسارية في الشرق الأوسط، محسوبة على النهج "الماركسي-اللينيني"، مثل الشائعات عن شبان التنسيقيات المحلية في بدايات الثورة السورية، ولا ننسى الفدائيات الفلسطينيات، والمقاتلات الكرديات في حزب العمال الكردستاني، وقد لفّقتْ هذه التهم جزافاً حتى من قبل مجتمعاتهن التقليدية نفسها، وقرنت الإيديولوجيا الحمراء بالتهتّك، والعلمانية بالاستبداد، واستباحت النمائم الفقيرات المتمرّدات، لأن الشيوعية خزيٌ فضح القبيلة وعارٌ لطّخ سمعة العائلة ولوّث الدين بالإلحاد، وكان لا بد أحياناً من غسل الشرف الرفيع بحمّامات دم.

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

15/09/2017

تصوير: اسماء الغول

جولان حاجي

شاعر ومترجم سوري كردي

جولان حاجي

مقيم في فرنسا

أثناء حوار حول معنى الإيمان، تتحدث إحدى شخصيات تشيخوف القصصية عن كاهن في موسم قحط، يذهب إلى الحقول ليصلي صلاة استسقاء، ولا ينسى أن يأخذ معه المظلة والمعطف الجلد لكيلا يبتلّ عند رجوعه إلى البيت. 

مظلة الإيمان هذه، الموسومة بالسذاجة والمثالية، تعاكس سخرية القائلين: “تمطر في موسكو فيرفع الفلاحون المظلات في بلاد الشام ووادي الرافدين”، وقد ذهب هذا القول، أو ما يشابهه، مثلاً تردّد مراتٍ لا تُحصى في بلدان عربية بطشت أنظمتها بالشيوعيين الذين تنوعت أساليب قمعهم لدى الزعماء العرب القوميين والليبراليين وشيوخ الخليج وأمرائه وملوك المغرب. لنتذكر التنكيل بالشيوعيين السودانيين، ففي تموز 1971 اعترضت مقاتلتان من سلاح الجو الليبي طائرة ركاب تابعة للخطوط الجوية البريطانية، وعلى متنها ضباط شيوعيون سودانيون، وتلقى القبطان الإنكليزي تهديداً من برج المراقبة في مطار بنغازي، فإما الهبوط الفوري أو تدمير طائرته. أمر العقيد معمر القذافي باعتقال الضباط الشيوعيين وإرسالهم إلى النميري بعد فشل الانقلاب الأحمر في الخرطوم، فأعدموا جميعاً وأعدم معهم زعيم الحزب الشيوعي السوداني عبد الخالق محجوب. حينذاك، أرسل حافظ الأسد إلى النميري برقية التهنئة هذه: “نهنئكم على زوال المحنة”.

سأعود هنا إلى مظلة أخرى، المفارقة فيها أعمق وأدهى: رسم رونيه ماغريت مظلة وكأس ماء في لوحته «عطلة هيغل» قائلاً إنها مثال عن المادية الجدلية، فالكأس تستقبل الماء والمظلة تطرده. أمام هذه الجدلية التي جمّدها الرسم في تصوير شاقولي (غرائبي وفي نفس الوقت واقعي ساخر من رومانسية المطر والمظلات)، قد نفكر بالمثاليين الذي وصفهم ماركس بالسائرين على رؤوسهم، وهؤلاء المثاليون استعارة أخرى استخدمتها الحركات التصحيحية التي قلبت بعض المجتمعات العربية رأساً على عقب لتسيّرها على صراط الاشتراكية. لاحقاً، أضاف ماغريت إن اللوحة إياها تشير أيضاً إلى لينين، وتحديداً قول الأخير إن إشباع الرغبة الجنسية في المجتمع الشيوعي هو أمر يسير وتافه “كشرب كأس من الماء”. نُسبت “نظرية كأس الماء” هذه إلى ألكساندرا كولنتاي، النسوية الشيوعية التي عُرّبت روايتها «حب عاملة النحل» (ترجمها مؤنس الرزاز في سلسلة ذاكرة الشعوب التي أشرف عليها إلياس خوري في الثمانينيات). كانت كولنتاي ضد مؤسسة الزواج، وأميل إلى الفوضويين وتحرير الحب من الاعتبارات الاقتصادية.

بالطبع، أعلِن التحرر الجنسي منذ بداية ثورة أكتوبر، وأعلنت السلطات العليا في الحزب إن أحد أهدافها هو استئصال مؤسسة الزواج لأنها جزء من الميراث العفن للاستبداد القيصري، واعتبر هذا الإجراء جزء من إلغاء الملكية الخاصة والاستعباد البرجوازي للنساء. ولكن ورد في بيان تحرير النساء في آذار/مارس 1918 إن “كل فتاة تبلغ الثامنة عشر من العمر تصبح ملكاً للجمهورية، ويجب تسجيلها لدى لجنة الحب الحرّ” التي شجّعت العلاقات الجنسية العابرة ونظّمتها، فلم يكن رضا الشريك مطلوباً، ذكراً كان أو أنثى، ولا يستطيع أحد الاحتجاج على نتيجة القُرعة. 

ربما ألهمتْ هذه اللجنة رواية «نحن» ليفغيني زامياتين، المكتوبة مطلع 1920. ففي روايته المستقبلية-الديستوبية هذه (التي سبقت «1984» لجورج أورويل)، يصف عقلنة الحياة المنصاعة لتعاليم “محسن كبير” غامض، إذ تتمّ ممارسة الجنس بحسب موعد مسبق، واستناداً إلى تعليمات رسمية صارمة، حيث يسجل الشريكان الجنسيان اسميهما لدى لجنة تشبه لجنة الحبّ الحرّ، ثم يحصلان على بطاقة خاصة تخوّلهما الدخول إلى غرفة زجاجية تحجَز باسميهما لوقت قصير، وعند وصولهما في الساعة المحددة للموعد تسدَل الستائر على الجدران، الشفافة شأنها شأن جميع الجدران في مساكن البلاد حيث القاطنون مرئيون على الدوام حتى ساعة موتهم، وكل فرد رقيب ومراقَب في آن معاً.

واقع الحال إن تغيرات عظمى قد زلزلت ثقافة روسيا والاتحاد السوفييتي أثناء العقد الأول الذي أعقب ثورة أكتوبر، وتحققت ثورة فعلية في الفكر والفن والممارسات الاجتماعية، قبل استفحال البارانويا الطبقية وبدء الاضطهاد الستاليني للكتاب والفنانين الطليعيين. ففي هذا العقد الأول، الذهبي حقاً، ازدهر الأدب والرسم والتصوير وحتى البورنوغرافيا التي أصبحت حيازة موادها المصورة ممنوعة بعد 1930. بالتدريج رسّخ ستالين نظاماً أخلاقياً فيكتورياً، فحظر الإجهاض وشنّ حرباً على الدعارة لاجتثاثها من المجتمع، رافقتها حربٌ أخرى ضد المرح واللهو، أثناءها اعتبرت المتعة الجنسية معادلاً للانحلال الغربي وتقليداً لنمط الحياة في المجتمعات الرأسمالية، فمنعت القبلات في السينما السوفييتية في بداية 1930، وحلّت الرياضة محل المسرح، وحُجبت أعضاء البهلوانات واللاعبين منعاً لبروزها في سراويلهم الضيقة أثناء عروض السيرك والجمباز. أورد آرون زالكيند في “اثنتا عشرة وصية جنسية للبروليتاريا” (من كتابه «الثورة والشباب»، 1925) إن “الانجذاب الجنسي إلى عدو طبقي يوازي في شذوذه انجذابَ الإنسان إلى تمساح”، وكانت مثل هذه الوصايا توزّع على الجامعات والمدارس.

الهجوم الأخلاقي الذي طال الشيوعيين في العالم العربي، من محيطه إلى خليجه، مردّه على الأرجح فكرة الحرية الجنسية للمرأة، وقد تشعّب هذا الخوف من الحرية وتحوّل أحياناً إلى كوابيس أو شهوات مقلوبة لدى المحافظين المشمئزين من “الشبح الأحمر”، عوالمها السفور والزواج الحرّ المزيّن بالكحول، ووُصمت الشيوعيات أحياناً بالبغاء والإباحية، أو اعتبر كل شيوعي أوديب محتملاً أو كل شيوعية إلكترا مستترة، ولم يتوقف اختراع مثل هذه الأوهام وضخّها وتضخيمها. كم مرة حيكت الأقاويل حول سفاح القربى داخل عوائل الشيوعيين، في مدن وقرى آسيوية أو أفريقية أو أمريكية شمالية في الحقبة المكارثية، وكم مرة بُعثت خرافة زنا المحارم وخرافة سهولة تبديل الشيوعيين للشركاء الجنسيين، وكأن الانتساب إلى الحزب الشيوعي مرادف للدعارة، ومكاتبه مواخير؟ كانت تهمة الانحلال هذه إحدى الذرائع الأساسية لارتكاب مذابح كبرى ضد الشيوعيين والمتعاطفين معهم في إندونيسيا عامي 1965-1966. شبيهات هذه التّهم لحقت بالمنضويات ضمن تنظيمات يسارية في الشرق الأوسط، محسوبة على النهج “الماركسي-اللينيني”، مثل الشائعات عن شبان التنسيقيات المحلية في بدايات الثورة السورية، ولا ننسى الفدائيات الفلسطينيات، والمقاتلات الكرديات في حزب العمال الكردستاني، وقد لفّقتْ هذه التهم جزافاً حتى من قبل مجتمعاتهن التقليدية نفسها، وقرنت الإيديولوجيا الحمراء بالتهتّك، والعلمانية بالاستبداد، واستباحت النمائم الفقيرات المتمرّدات، لأن الشيوعية خزيٌ فضح القبيلة وعارٌ لطّخ سمعة العائلة ولوّث الدين بالإلحاد، وكان لا بد أحياناً من غسل الشرف الرفيع بحمّامات دم.

كان تتويج هذه الأوهام هو حفلات الجنس الجماعي التي أشيع إن ستالين نفسه كان يحضرها، وحضيضها أن تخمة الجنس ستدفع بالشيوعيات الضجرات إلى مضاجعة الخيول والكلاب. لا تتسع مساحة هذا المقال للبحث في تفاصيل مثل هذه التصورات البورنوغرافية، وهي لا تني تنبعث لتطفو على سطح الإعلام العربي المحافظ الذي تغطي أمواج بحره بقعةٌ سوداء كبيرة تسرّبت من ناقلات النفط. ولهذا سأختم باستعادة أفكار المهندس قسطنطين ملنيكوف ومشاريعه المعمارية خلال العقد الأول من الثورة البلشفية، فقد صمّم قاعات نوم جماعية وقسّم كل قاعة إلى حجرات صغيرة تفصل بينها ستائر رقيقة، وخلال الوقت المخصص للرقاد في هذه المهاجع كانت فرقة نحاسية عسكرية تعزف “سوناتا النوم” لتغطي على شخير النائمين بعد الحبّ.

الكاتب: جولان حاجي

هوامش

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع