بداية الثورة السورية، عام 2011، دُعيت للكتابة في صفحة مناصرة للثورة، الصفحة كانت محترمة بالنسبة لي وعلى قدر مناسب من الحرفية وهي ”اتحاد شبكات أخبار المخيمات“.
استجبت لرغبة مكلمي من الصفحة المذكورة، وأذكر أن اسمه كان أبو محمد المقدسي، وهو اسم مستعار بطبيعة الحال، لم يعرفني على نفسه ولكنني بحدسي أدركت أنه شخص يعرفني جيداً وهو أحد طلابي على الأرجح، لم يكن الأمر يحتاج إلى كثير من الوقت للتفكير، لسبب بسيط هو أنني أردت أن أشارك وأن أقول ما لا أستطيع قوله على صفحتي، اتفقنا على أن أكتب تحت اسم مستعار هو ”ابن المستني“ وهي زاوية ساخرة ناقدة لاذعة، والصفحة ما زالت موجودة. اشترطت أمراً واحداً هو أن أكتب ما أريد كما أريد، وألا يقول لي أحد ماذا أكتب، أو كيف أكتب. بعد ذلك أدخلني أبو محمد إلى الغرفة الخاصة بالمراسلين والكادر القائم على الصفحة.
بدأتُ الكتابة، بمعدل مشاركة كل أسبوع، يومها كان تركيزي على ما يُحاك للمخيم لتوريطه، وعلى ممارسات اللجان ورصد إساءاتها ودورها، تلك اللجان التي شكلها تنظيم ”القيادة العامة“ في المخيم، بهدف إقحام المخيم بالمسألة السورية بالطريقة التي يراها أحمد جبريل، تشكلت هذه اللجان على أي حال من أوباش المخيم وسفلته، ولهذا كان مجرد وجود هؤلاء مزعجاً فكيف إذا حملوا السلاح وأُطلِقت أيديهم في المخيم؟!
تابعت الكتابة بعد دخول الجيش الحر إلى مخيم اليرموك، واخترت أن أستمر بزاويتي النقدية وهو الشيء الذي كنت أراه ضرورياً من أجل ثورة نظيفة، خصوصاً بعد أن بدأت التجاوزات التي لا تمت إلى الثورة بصلة، منذ اليوم الأول لدخول الجيش الحر، ورأيت أن السكوت على هذه التجاوزات جريمة لا تغتفر، فالثورة التي أيدناها هي الثورة التي تنصف الناس وتحمي كرامتهم وممتلكاتهم.
اعتذرت عن الكتابة وأصابني كثير من الإحباط عندما قيل لي همساً بأن علينا أن نركز على الإيجابيات خوفاً من أن النظام وأعداء الثورة سيستفيدون من هذا النوع من النقد أو التهكم الذي أكتبه وستضعف الثورة! وإذا لم يكن من ذلك بدٌّ فليكن النقد عاماً! ولكن كيف يكون عاماً عندما نتفاجأ أن من احتضناهم هم مجموعة من اللصوص على سبيل المثال لا الحصر؟! لأن التجاوزات وصلت إلى حدود لا تُحتمَل، أنا أرى أن النقد العام هو نوعٌ من التعميم الفارغ والتعمية المقيتة، كان علينا أن نسدد إلى الهدف مباشرة إلى القلب، علينا أن نسمي الأشياء بأسمائها دون مواربة أو تضليل، هكذا فهمت الثورة..
ولكي لا يكون الأمر مبهماً سأذكر مثالاً: هو الموقف من فصيل كان محسوباً على فصائل الجيش الحر وهو ”صقور الجولان“، فقد كان واضحاً أن هذا الفصيل المتواجد على الأرض هو عدو للثورة ولا يمت إليها بصلة سوى بالاسم، وجميع ممارساته استمرار لممارسات الشبيحة والنظام وهو أسوأ من لجان أحمد جبريل، لم ينتظروا طويلاً حتى بدؤوا همجيتهم، وهذا الأمر يحتاج إلى زاوية خاصة لعرض تفاصيله، المهم أن الصمت عنهم يجعلنا شركاء لهم..
انسحبت بهدوء من الصفحة، متمنياً لها التوفيق، فقد كنت أدرك أنهم مقيدون باعتبارات لا تعنيني ولست مضطراً لاحترامها، عرضت علي صفحة “تنسيقية مخيم اليرموك” أن أكتب فيها، وأعطاني مديرها كلمة السر لأدخل وأكتب ما أريد مباشرة وما زلت أحتفظ بتقديري الشديد لهذا الموقف، ولكنني كنت قد اتخذت قراري بألا أنتمي إلى أية مؤسسة من مؤسسات الثورة لأضمن حرية موقفي، وعلى الأخص أن نوعاً من الصراع بدأ وقتها بين عدد من الصفحات التي ترى كل منها أنها هي التنسيقية الحقيقية، وظهرت مجموعة من الصفحات بهذا الخصوص، والحقيقة أن منبع هذا الصراع هو الفوز بثقة الممولين، حتى ”أبو طويلة“ فتحَ صفحة كان اسمها ”اليوم التالي“ في هذه الفترة ودعاني للكتابة فيها على أنها التنسيقية الحقيقية، المضحك والمثير للسخرية في هذا المجال، أن “أبو طويلة“ هذا كان يتخذ اسماً حركياً هو ”قاسم“ وكان حريصاً على أن لا أعرف شخصيته، مكمن السخرية في هذا أنه كان يقود ثورته من بيروت التي وصلها بمساعدة ”الحزب القومي السوري الاجتماعي” كما علمت فيما بعد، في الوقت الذي يُشيع أنه يمارس ثورته متخفياً، وسوف أُفرد مقالة خاصة مفصلة للحديث عن مثل هذه الشخصيات.
كنت أثق فقط في من هم على الأرض، ومع ذلك لم أرغب وقتها في أن أكون جزءاً من هذا الصراع بين التنسيقيات الذي هو في جوهره صراع الممولين، واخترت يومها أن أعيش موقفي على الأرض، وأن أمارس ثورتي بالطريقة التي تناسبني بعيداً عن أي انتماء يظل ضيقاً مهما اتسع.. وتفرغت بشكل شبه نهائي لمشروعي الذي أحب وأفخر به، وهو مشروع التعليم (المدرسة الدمشقية البديلة).
التعليم كان ثورتي الحقيقية، وانتمائي للثورة بالطريقة التي اخترتها كان وسيظل خياراً لم يجبرني عليه شيء أو أحد، وكغيري دفعت ثمن هذا الخيار وما زلت.