كلمات قليلة من شاعر فلسطيني ترك غزّة خلفه وجاء إلى أوروبا لاجئاً من جديد، جعلتني أستحم في خجلي، وأرتد باحثاً عن تواضع بقيتُ أتشبّث به، مردداً على الدوام بأنه رذيلتي البورجوازيّة الوحيدة، والتي ساوى لينين بينها وبين الغرور.
كلمات الشّاعر لم تأتني، إذن، مع نسائم بحر غزّة ورائحة الدّم والبارود التي تخلفها الطائرات الإسرائيليّة المغيرة في أفق مدينة تعاني قهر الاحتلال وقمع أصوليّة تتشبّت بزمام السياسة والسّلطة والتسلّط هناك، وجهدت من أجل النكوص بالمدينة إلى أزمنة بعيدة تجاوزها الزمن، في ظلّ صمت عربي بلغ أحياناً حدّ التواطؤ المُعلن.
لقد جاءتني الرسالة من “برشلونة”، عاصمة إقليم كاتالونيا الإسبانيّة، التي اكتشفت أن باسم يقيم فيها منذ عامين بعد تعرّضه للاضطهاد على أيدي السلطة الحاكمة في القطاع، مثلما تعرّض بيته لهجوم من الميليشيات ذات النفوذ. وقد شاءت المصادفة أن أتلقى كلمات الشّاعر الأولى التي تخصّني، أثناء وجودي في “لشبونة”، عاصمة البرتغال.
الرسالة التي جاءتني من الشاعر باسم النبريص، كانت تعقيباً على مقالة أخيرة نشرتها في “الأيام” الفلسطينيّة تحت عنوان “المقال الأخير: أقول وداعاً”، والتي ودّعت فيها قرائي (الذين لم أكن أحسب أن باسم من بينهم) لأسباب صحيّة، بعد ستّة عشر عاماً من الكتابة الأسبوعيّة المتواصلة دون انقطاع.
في كلمات قليلة، قال باسم كلاماً كثيراً، تلمس الصّدق والنبل في أعطاف حروفه. قال مديحاً أخجل من تكراره في هذا المقام، وذرَف دمعة لسعتني بحزنها وحميميتها وثرائها الإنسانيّ النبيل. لكنه آلمني حين قال لي أن ليل برشلونة موحش، وقد بات أكثر وحشة مع غيابي .
إيقاع الحروف بلُغتنا العربيّة في اللفظتين اللتين تشيران إلى إسميّ المدينتين الأوروبيتين اللتين كنّا فيهما، والذي يوقع البعض بشيء من الالتباس، جعلني أرسل له تحياتي من المدينة الأولى (لشبونة) إلى الثانية (برشلونة) متمنياً، من قبيل المجاملة، أن تتاح لنا الفرصة، ذات يوم، للقاء لم تتحه من قبل أيامنا التي خلت.
لم يترك باسم النبريص المجاملة على حالها. أرسل لي رداً فورياً يفيض صدقاً وحماسة ويخلو من المقدّمات: “ها نحن فيها. بيتي في برشلونة تحت تصرفك. ولا أظن أنه ستأتي فرصة قريبة لنلتقي. لديّ بيت في مركز برشلونة، في حيّ (البورن) بقلب المدينة العتيقة. البيت وصاحبه بانتظارك، أنت ومن معك.. أرجو أن لا تفوّت الفرصة”.
لم أفوّت الفرصة. تحديتُ طبيعتي المترددة والخجولة مع البشر الذين لا أعرفهم منذ زمن طويل ولم أبلغ معهم حدود الألفة. وقُلت لمن لم أتبادل معه سوى بضع رسائل إلكترونيّة قصيرة في تلك الأيّام :”أنا قادم وليس معي سوى سناء، زوجتي”.
بعد أيّام كان باسم النبريص ينتظرنا في ساحة كتالونيا، حيث تتوقّف حافلات المطار. وهو المكان الذي ودّعنا فيه بعد خمسة أيّام، ظلّ فيها رفيقنا ودليلنا على امتداد ساعاتها الغنيّة.
قبل الوداع، أهدانا باسم كتابين من كتبه المتوافرة لديه هناك، الأوّل جاء بغلاف أبيض لا يداخله سوى العنوان الذي يُبدد بعض البياض: «نظم العقل الخالص»، والذي لا يوحي بأننا أمام ديوان شعر، وربما يحيل فوراً إلى إيمانويل كانط وكتابه الشهير «نقد العقل الخالص»، برؤاه وتأملاته العقليّة الباردة في الميتافيزيقا التي تطرق أسئلة ما وراء الطبيعة، مع أننا نقف أمام تجربة شعريّة تنتمي معظم القصائد فيها إلى اللمحة القصيرة الذكيّة بالغة الشفافيّة.
الكتاب الثاني يبدو هو الآخر، في عنوانه، بعيداً عن الشّعر، رغم انطوائه على رؤى شعريّة مصاغة بلغة لا تتنازل، هي الأخرى، عن رقتها وشفافيتها وشغبها الجميل. حمل الكتاب/ الديوان عنوان «مقال في معنى الريح»، وقد شاء باسم أن يُصنّف جنسه الأدبي على أنه (نصوص)، رغم انتمائه، برأينا، في لغته الطازجة ورؤاه، إلى صورة الشّعر المُجنح بالدرجة الأولى:
وفي الليل
أربط نجمة بخيط قنّب
وأدعها تلعبط في بركة
وأنام
ولا تقل الأسئلة التي تستثيرها تجربة باسم الحياتيّة، في حرارتها وغناها، عن أسئلة تجربته الكتابيّة الشعريّة. وقد كانت المصادفة، التي عثر فيها الفتى ذات يوم بعيد على “صحارة” زاخرة بالكتب، بداية لتحوّل حياتي، كما لو كان قد عثر على كنز عرف كيف يُقدّر قيمته بعد أن انكبّ عليه لينهل من ثرائه، الأمر الذي ورّطه في محاكاة ذلك السّحر الذي تضفيه صناعة الكلمات على الورق.
وكان على الفتى أن يُبادر إلى حمل العبء عن المرأة التي رحل عنها زوجها باكراً، أمّه التي انحنى ظهرها في شرخ الشباب وهي تحمل أكياس اللوز، ممتهنة كسر الحبّات وتخليصها من غلافها الخشبي الصّلب، لتعيدها لصاحب الحقل قلوباً مُقشّرة. وبمثل هذا العمل المضني، تمكنت صاحبة القلب الكبير من أن تُربّي أطفالاً كبروا بطلوع الرّوح: لقد وجدتُ العنوان الأنسب لكتاب سيرتك، التي عليك أن لا تتردد طويلاً في كتابتها. فلا تؤجّل “قلب اللوز”!
قالت له سناء، التي أدهشتها حكاية الأم التي امتهنت استخراج القلب الأبيض بغلافه البني الرقيق الملتصق بالبياض من سجنه الخشبيّ، فقامت بذلك بدور الأمّ والأب معاً، منذ أن غاب الأب مع ذلك الندى، فيما كان باسم في الثالثة من عمره.
ابن تلك المرأة الذي كبر وألقى بنفسه في سوق العمل الأسود في وقت مبكّر من حياته، طرق أبواب تل أبيب التي كانت متاحة للأيدي العاملة الفلسطينيّة الرخيصة، دون أن يكون أمامها كثير أو قليل من الخيارات الأخرى. وبذلك، خضع الفتى لاستلابين معاً، مارسهما عليه محتلّ أرضه، الأول وطنيّ والآخر طبقيّ.
من الأعمال التي اشتغل فيها الفتى، غير التعلّق على السقالات المرتفعة المصلوبة في الهواء بين أرض وشمس لا ترحم، يتناهشها الاستغلال الرأسمالي الإسرائيلي من كلّ جانب، العمل خادماً في مزرعة آرييل شارون. هناك، رأى باسم الوحش على حقيقته الواقعيّة، دون تزييف تصوغه المخيّلة والصورة المفترضة للقائد، ودون تزويقات سياسيّة أو دبلوماسيّة أو نياشين. رآه كيف يلتهم الخراف بنهم وحشيّ لا يعرف الشّبع، وكيف يفرض سطوته على الآخرين المستلبين لديه، كأنما عهد العبوديّة لم يأفل.
بعد زمن من مرارة العمل تلك، انتقل باسم للعمل في تل أبيب، فكانت الانعطافة حادة ومُفاجئة: “شيف” متخصص في صناعة الحلويات الغربيّة في “باتيسيريهات” مدينة عربيّة الأرض والأصول، غربيّة الطابع، وقد ظلّ الشّاب الغزّاوي يمارس المهنة سنوات طويلة دون أن يتوقف عن مناوشة الشّعر والاقتراب أكثر من السياسة، بهمومها الفلسطينيّة وتوجهاتها اليساريّة.
هل أهدرت شيئاً من لوزات باسم؟
ربما القليل، القليل..
فأنا واثق من أن ما يختزنه القلب النبيل ينطوي على بياض كثير وغنى سرديّ بلا حدود، ولذّة غامرة في القصّ والتلقي، وحكايات يصوغها العرق والتحدي.. يرويها الشّعر والنبض الإنساني الدافق، مذكراً بالكلمات الأخيرة التي تركتها سناء في عهدته، وهو يودعنا في ساحة كتالونيا التي استقبلنا فيها قبل أيّام:
لا تنسى.. نحن في انتظار “قلب اللوز”!