باختصار، كيف يقدم الدكتور إسماعيل ناشف نفسه لقراء ”رمان”؟
رحّالة، أبتعد، لأقترب أكثر، من لحظة لا يمكن لها أن تتحقق. أنا من فئة البشر الذين يركبون اللغة ليرحلوا، ليكتشفوا في لحظة حرجة ومأسوية أن اللغة تركبهم بعكس ما تصوروا، لتحل هي في بيوت الآخرين.
حدثنا عن دراستك الجديدة التي صدرت في كتاب حمل عنوان: “طُفُولةُ حُزَيْرَان | دَارُ الْفَتَى الْعَرَبِيِّ وأَدَبُ الْمَأسَاة”، من حيث مضمونها وظروف كتابتها.
لكي تفهم ظاهرة ما، بإمكانك أن تستخدم نوافذ مختلفة لتطل منها عليها، و/أو معاول متنوعة لتحفر فيها. وأحياناً، تسحرك نافذة، أو يأسرك معول ما. بدأت بدراسة أدب الأطفال بما هو نافذة أطل منها على أزمات المجتمع العربي الحديث، لأجد أن أدب الأطفال العربي هو معول، أداة حفر، وكما تعلم فالأداة تعيد صياغة العامل في لحظة استخدامه لها.
والمجالات التي أطل عليها، وأحفر فيها، في هذه الدراسة هي ثلاثة: اللغة والطفولة والأدب، والتفاعلات فيما بينها في سياق العالم العربي. وعلى الرغم من أنها تتمحور في دراسة حالة، (دار الفتى العربي)، إلا أن أفق الدراسة يشمل سائر المجتمعات العربية، تحديداً مصر وبلاد الشام. ومن الممكن تشبيه هذه الدراسة برحلة استكشاف، بأثر رجعي، لمسار “كيف كبرنا؟!“.
عملت في هذه الدراسة البحثيّة، على استكشاف آليات العمل التي تقوم بين المأساة وفن المأساة، وذلك كما تتجلى في أدب الأطفال العربي؛ دون أن تخفي أن ما أقلقك هو جانب ترحيل أزمات وتناقضات عالم “الكبار” إلى الأطفال. فما هي أبرز الاستخلاصات التي توصلت إليها؟
في أغلب المجتمعات التي أعرفها، هنالك منظومة علاقات إشكالية من الدرجة الأولى بين عالم الكبار وعالم الأطفال. وهي أن الأطفال يتعلقون تماماً بعالم الكبار ليستطيعوا أن يعيشوا، مادياً وذهنياً وعاطفياً. هذا التعلق يؤدي إلى إمكانية استغلال الكبار للأطفال، من بين أشكال هذه الإمكانية هنالك نوع محدد من الاستغلال، الذي برز في النصوص التي تناولتها في هذه الدراسة. أن الكبار فشلوا في تحقيق ذاتهم كجماعة، وفي لحظة وعيهم الحاد بهذا الفشل، بعد نكسة حزيران/يونيو، وجدوا الأطفال كحامل تاريخي لمهمة مواجهة هذا الفشل، ومن طبيعة علاقة التعلق، فالأطفال لم يُسألوا حول موقفهم من هذه الحمولة التي تلقوها من عالم الكبار. وهنا تُستخدم، عادة، عدة أدوات تربوية ومعرفية وأخلاقية وجمالية؛ إلا أن أدب الأطفال يحتوي على أغلب هذه الأدوات بحسب منطقه كجنس أدبي له قواعد داخلية وتاريخ محدد. واللافت للنظر في مدونة «دار الفتى العربي» هو القفزة النوعية التي حققتها في أدب الأطفال العربي، من حيث المشروع الأدبي، ومن جانب أنها شكلت ورشة عربية، بامتياز، عابرة للدول القُطرية، بما هي التعبير الأبرز عن فشل الجماعة العربية.
أسألك عن الصعوبات التي واجهتك أثناء الاشتغال على هذا المشروع البحثي، وهل من جمهور مفترض تأمل أن يصل إليه الكتاب؟
إن التحدي الرئيسي في كل بحث فيه محور تاريخي مركزي هو بُعد إسقاط الحاضر على الماضي وسكانه. والصعوبة الرئيسية كانت في الوعي بهذا المحور في هذا البحث، ذلك أن «دار الفتى العربي» عملت ما بين عامي 1974 و1993، أي أنها اللحظة التي سبقت الآن الذي نعيشه. فكان يلزمني إعمال آليات “إبعاد زمني” بشكل متواصل، لكي لا أثقل المدونة بتناقضات الحاضر الذي نعيشه. بالنسبة لي، الجمهور المفترض هو كل شخص قارئ؛ ولكن كما تعرف، فحياة النص لا علاقة لها بنوايا المؤلف.
تقول: “..إن المأساة الفلسطينية غدت تُرحّل من جيل إلى آخر، ولكن وبالرغم مما يبدو على أنه تحولات، إلا أن بنية شعورية أساسية من المراوحة البين-جيلية لا تزال تتوالد عبر تكرار المأساة من جيل إلى آخر” لو تضيء أكثر على هذه الفكرة..
كفلسطيني من الجيل الثاني/الثالث للنكبة، ومنشبك مع أجيال، وأمكنة، وأزمنة فلسطينية مختلفة، من زوايا مختلفة، فأنا أريد أن أعلن عن حالة طوارئ. فعلى خلفية ما يجري اليوم في العالم العربي، تبدو المأساة الفلسطينية في حالة مراوحة، بينية، وكأنه جرى تعليقها على شماعة التاريخ العربي المعاصر إلى حين غير معرف. وبسبب تكرار المأساة في كل جيل، تطوّر في أوساط الفلسطينيين عامة، ذائقة حسية متواطئة مع المراوحة والحالة البينية، كأن أحدهم أعلن أن المأساة “أبدية”. فإعلان حالة الطوارئ، الذي يأتي من الفهم الناتج من القدرة على النظر إلى الخلف، إلى تاريخ المأساة عبر مرور الزمن وتواتر الأجيال، عليه أن يؤدي إلى العودة والتحرير في الهنا والآن.
من الأفكار التي استوقفتني في دراستك إشارتك إلى أن هناك ما يسمى “ألفبائية فلسطين”، مبيناً أنّ الفكرة الأساسية أنّ هنالك ألفبائية خاصة بفلسطين، مقارنة مع الأحرف العربية عامة، وترى أنّ هذا يعكس بحد ذاته موقفاً محدداً من العلاقة بين المستوى القُطري الفلسطيني وبين مستوى الأمة العربية كجماعة واحدة. أرجو أن توضح لنا هذه النقطة..
«ألفبائية فلسطين» هو عنوان لكتاب من تأليف ورسم محيي الدين اللبّاد. والكتاب هو من جنس أدب الأطفال التعليميّ، أي تعليم الأحرف للطفل عبر رسم الحرف وأمثلة من كلمات تحتوي الحرف، ورسوم توضيحية للأشياء التي تحيل إليها الكلمات. وفي العادة، فإن الكلمات والرسوم تعكس رؤيا ما للعالم يحملها المؤلف، أي إن شئت نظام ما يعتقد المؤلف أن على الطفل تذويته ليصبح طفلاً أفضل. إن التجربة الكفاحية الفلسطينية أفرزت رؤيا محددة لهذا العالم، وحملت لغة لتوليد المعاني، تختلف، وأحياناً تتناقض مع الشكل التقليدي لتدريس أحرف اللغة العربية والرؤيا التي يحملها هذا الشكل الكلاسيكي، فبرأي اللبّاد وزملائه هذه الرؤيا التقليدية هي من أسباب المأساة. لذلك وجب تغيير هذه الرؤيا بناء على تجربة الكفاح الفلسطيني، والتي بأساسها تدعو إلى عدم قبول العالم كما هو، وإنما السعي إلى تغييره من خلال المبادرة والانشباك الجمعي معه. وهذا يتجلى في كتاب «الحروف في العربية» من تأليف ورسم اللبّاد، وهو كتاب من ذات الجنس الأدبي التعليمي.
ويقوم اللبّاد في هذا الكتاب بتجاوز الشكل التقليدي لتدريس حروف العربية، وذلك عبر العودة إلى البيئة المادية الاجتماعية المباشرة للطفل، ومجمل ما فيها من أدوات للانشباك مع العالم وإعادة صنعه.
ما يؤسس له محيي الدين اللبّاد هو قراءة الواقع العربي من خلال التجربة النضالية الفلسطينية في تلك الفترة. هذه القراءة ترى أن تغيير الواقع العربي يأتي عبر تمكين الطفل من اكتساب الوعي بالتغيير، وأن مركز الثقل في هذه العملية هو الطفل وإرادته وسعيه إلى صنع العالم من حوله.
اعتمدت في دراستك النقدي التحليلي على مدونة «دار الفتى العربي»، التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، التي تحتوي على ما يربو على مائتي منشور، موجهة للفئات العمرية المختلفة، وموزعة على أجناس أدبية وتربوية وتاريخية وتوثيقية مختلفة، جزء منها تُرجِم عن لغات مختلفة، وأجزاء أخرى أُلّفت خصيصاً للدار. فما هو تقييمك لتجربة الدار في زمانها ومكانها المتنقل في الشتات؟
مما لا شك فيه أن تجربة «دار الفتى العربي» استثنائية بمجمل المعايير التي يمكن أن نقيس بها أدب الأطفال الحديث العربي والعالمي على السواء. فأولاً، هي من التجارب القليلة التي جمعت أدباء ورسامين وتربويين وباحثين ونقاد عرب، استطاعوا أن يخلقوا ورشة إنتاجيّة تقدميّة، ليس في حينه فقط بل بمعايير حاضرنا أيضاً، على مدى عقدين من الزمن. ثانياً، جسّدت هذه التجربة المرحلة الانتقالية في أدب الأطفال العربي، من مرحلة التعريب وتبسيط نصوص التراث، إلى مرحلة التأليف والترجمة، وهي مرحلة مفصلية في الأدب العربي الحديث، عامة، وليس فقط في أدب الأطفال العربي. ولقد نتج ذلك من تجميع الكوادر العربية المختلفة وتجاربها، تحديداً من مصر وسوريا، مما مكّن من تجاوز المعيقات القطرية وتطوير رؤية تربوية وأدبية أرحب، أصبح فيها التأليف في أدب الأطفال هو الممارسة المفصلية. ثالثاً، كما في التأليف، فإن الرسوم التوضيحية في مدونة «دار الفتى العربي»، نقلت هذا الجنس الفني من مرحلة النسخ والاقتباس إلى مأسسة أن لكل نص رسومه الخاصة به، يقوم بها الرسام بعد أن ينشبك مع النص الأدبي.
رابعاً، لقد قامت الدار بالارتقاء بجودة الإنتاج المادي ومعاييره، حيث ربطت بين الفئة العمرية المستهدفة ومقاييس الكتاب المنتج، ونوعية الورق، وجودة الألوان، ونوعية الحرف المطبوع. خامساً، لقد تنوعت إصدارات الدار على الأجناس الأدبية في مجال أدب الأطفال، وقامت بتطوير الأجناس القائمة، واستحداث أجناس أخرى مثل الرواية العلمية وغيرها. سادساً، استحضار التجارب التي أنتجتها شعوب أخرى، تحديداً التجارب ذات الطابع التقدمي والتحرري، وذلك بالإضافة للآداب العالمية المتعارف عليها. لهذه الأسباب وغيرها، أرى أن هذه التجربة تستحق البحث، وعلينا أن نتعلم منها في سعينا لخلق أفق تحرري جديد للكبار، وللأطفال على حد سواء.
تناول الكتاب الجوانب السردية والأدبية في مدونة أدب الأطفال العربي الحديث، متخذاً من مدونة «دار الفتى العربي» مثالاً، وذلك في أعقاب نكسة حزيران/يونيو 67. كيف ترى واقع أدب الطفل والرسومات في أدب الأطفال في الساحة الفلسطينية؟
إن واقع أدب الأطفال، اليوم، في السياق الفلسطيني إشكالي من الدرجة الأولى. فبدايةً، لم يستطع هذا الجنس الأدبي أن يتجاوز التقسيمات السياسية الناتجة عن الاستعمار الصهيوني، مثل ما حصل مع جزء من الأدب العام. فنحن لا نستطيع الإشارة إلى مدونة أدب أطفال فلسطينية، كما الأدب الفلسطيني العام. فهنالك تجارب في مواقع مختلفة من المجتمع الفلسطيني، تتميز بأنها مرتبطة بمحليتها. وتبرز هنا تجربة مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي، والتي تحاول تجاوز سياقها المحلي، الضفة الغربية، لترى إلى أجزاء أخرى من المجتمع الفلسطيني، مثلاً في قطاع غزة وفي الأراضي المحتلة عام 48.
أما الميزة الثانية لأدب الأطفال الذي يصدر في فلسطين، فهو تموضعه/نكوصه إلى ما يبدو على أنه منظومة قيم ومبادئ تحتفي بالطفل ككيان بذاته بالمفهوم الحقوقي، وهي حالة من تسطيح الوجود الاجتماعي واختزاله لبعد واحد لا أعتقد أنه يمت بصلة بتجربة الطفل. إن القيم والمبادئ الحقوقية هي خطاب الكبار وتعبير عن أزمة عميقة لديهم، وكالعادة، فهم يرحّلون أزماتهم إلى الأطفال. أما على مستوى الرسوم في أدب الأطفال، فبرأيي أنه أقرب إلى حالة عشوائية، حيث لا نرى لغة بصرية لهذه الرسوم، بل هي أقرب إلى التعلم عن طريق التجربة والخطأ. وعلى الرغم من ذلك، فهنالك تجارب فردية ملفتة للنظر، ومن الممكن أن تتطور إن كانت هنالك مثابرة وتعلم معمق.
ولعل أسوأ ما يجري في أدب الأطفال الفلسطيني هذه الفترة، هو ما يحدث تحديداً في المناطق المحتلة عام 1948. فالنظام الاستعماري الصهيوني من خلال أجهزته التي تعنى بـ”التربية والثقافة” يقوم بشكل منظم بدعم ونشر كتب أدب أطفال موجهة لجمهور القراء الفلسطيني الخاضع له. ولقد صدرت مئات العناوين من هذه الكتب، وهي ذات طابع يتمحور حول الفرد في سياقه المباشر، بمحاولة لسلخ وعي القارئ، الأهل والطفل على السواء، عن البيئة الاجتماعية والسياسية. واللافت للنظر هو ليست محاولات النظام المتوقعة في هذا المضمار بحد ذاتها، وإنما المؤلفون الفلسطينيون الذين يقومون بتأليف هذه الكتب. ولقد تقاطعت هذه الظاهرة في العقد الأخير مع قوى السوق، وأفرزت تحالف مبطن جديد ما بين النظام والسوق، وهي تنتج أدب أطفال تكريسيّ يتواطأ مع النظام وقيم السوق التبادلية. وأبرز ما في هذه الديناميكية، أن الأهل يمارسون دورهم عبر فعل شراء استهلاكيّ، أي فعل شراء كتاب أدب للطفل هو ذروة ممارسة العلاقة بين الأهل وأطفالهم.
أخيراً، ما الذي يشغلك الآن على صعيد الكتابة؟ وما هو عملك القادم؟
أعمل على عدة مشاريع فكرية وأدبية، أغلبها يتمحور حول مفهوم التعبير وآفاقه. في هذه الفترة أغلب الدراسات التي أقوم بها تتناول الفن التشكيلي العربي الحديث، والأدب، والعلاقة المركبة بين النص والصورة. فمثلاً، أعمل الآن على إصدار الجزء الثاني من “طُفُولةُ حُزَيْرَان”، والذي سيتناول الرسوم والتشكيل في مدونة «دار الفتى العربي».
منذ عدة سنوات أعمل على دراسة التقاطعات اللغوية والأدبية في السياق الاستعماري في فلسطين. وهذا المشروع يهدف إلى استخلاص الآليات اللغوية والأدبية التي ترجمت علاقات القوى الاستعمارية إلى منتوجات لغوية وأدبية قابلة للتداول بين جمهور القراء الفلسطيني. والجزء الأول من هذه الدراسة سيصدر في غضون الشهر القادم، وهو دراسة حول تاريخ اللغة العربية في النظام الصهيوني، وهي تُعنى بالآليات اللغوية والنصية التي استخدمها النظام الاستعماري في المناطق المحتلة عام 1948 لتطويع الفلسطينيين الذين بقوا تحت سيطرته بعد النكبة، وطرق تعامل الفلسطينيين معها، ما بين رفض وقبول وتذويت لها.