تمنحنا أجواء رد الفعل الشعبي الفلسطيني والعربي على قرار ترامب الأخير الذي يعترف بمدينة القدس عاصمة لدولة الاحتلال -إسرائيل- أفقاً لتغيير جذري في مسار القضية الفلسطينية، انطلاقاً من تصاعد الأصوات الشعبية الداعية لطوي صفحة المفاوضات العبثية نهائيا، ولتحييد القيادات الفلسطينية الحالية المتمثلة بالسلطة والفصائل الفلسطينية عن المشهد السياسي والاجتماعي الفلسطيني الحالي والمستقبلي، نظراً لمسؤوليتها المباشرة وغير المباشرة عن مآل الأوضاع، فضلاً عن تصاعد الخطاب الجماهيري الرافض للتلاعب الرسمي العربي بالقضية الفلسطينية سواء من قبل من يسمون أنفسهم بمحور الممانعة أم من محور الواقعية السياسية، والذين عملا سوياً على تقويض القضية الفلسطينية وزجها في القفص دون أي مقومات للمواجهة أو المقاومة. كما عادت الأصوات الوطنية للارتفاع داعية للعودة إلى خيار المواجهة طويلة المدى وبكافة الأشكال الممكنة، والعودة إلى البرنامج الرئيسي، برنامج تحرير كافة الأراضي المحتلة منذ عام 1948 وحتى اليوم من أجل تأسيس دولة ديمقراطية علمانية، مع تحفظ البعض على علمانية الدولة والتي تستوجب المزيد من البحث والنقاش الفلسطيني الشعبي في المستقبل القريب.
وقد تبلورت ردات الفعل الشعبية في مواجهة الاحتلال وضد القيادات العربية والفلسطينية باتجاه الخلاص من المسار الاستسلامي المسمى المسار السلمي على قاعدة حل الدولتين، نظراً لكون القرار الأمريكي الأخير يُسقط ورقة التوت الأخيرة عن هذه العملية، منهياً حالة الجدل الشعبية والسياسية تجاه العملية الاستسلامية. بينما انحصرت ردات الفعل الموجهة ضد أمريكا ببعض الأصوات الداعية إلى مقاطعة أمريكا سياسياً واقتصاديا، والتي تعتبر هامشية مقارنة بما سبق ذكره من ردات الفعل الشعبية، ومحكومة بالفشل كذلك في ظل حكوماتنا العربية التابعة والخاضعة للإرادة الأمريكية، إذ نلحظ غيابا شبه كامل لأي ردة فعل شعبية تجاه أمريكا لاسيما إذا ما قارناها ببعض التظاهرات والمظاهر الاحتجاجية على جملة من السياسات الأمريكية السابقة، الأمر الذي يعطي إيحاء بتجاهل شعبي شبه مطلق لأي رد فعل يصطدم بالجهة المتبنية للقرار، أي أمريكا أو ترامب.
وتنطلق ردة الفعل الشعبية من إدراك الشعوب العربية لحجم الإفلاس والخواء والعجز الرسمي العربي عن مواجهة أي شكل من أشكال التهديد، ولمدى استهتار القيادات العربية بجميع حقوقنا المسلوبة أو القابلة للسلب مستقبلاً في ظل هذه الحالة من الضعف والخنوع، كما تعزى ردة الفعل الشعبية من ناحية أخرى إلى يقين الجماهير العربية والفلسطينية من رعاية وحماية ودعم أمريكا للاحتلال ولممارساته الاستباحية إجمالاً، فعلى الرغم من تكرار الأنظمة العربية لذات الأسطوانة السمجة التي اعتبرت الولايات الأمريكية المتحدة راعياً نزيها للعملية السلمية، إلا أن الموقف الواضح للجماهير العربية كان مناقضاً لهذه الإدعاءات ومعبراً عن رفض مطلق للمسار الاستسلامي وعن عدم تمتع أمريكا بأي مصداقية سياسية وشعبية، وهو ما ساهم في أن يتبلور رد الفعل الشعبي الراهن في مواجهة حوامل ضعفنا واستسلامنا الرسمي وبغض النظر عن الطرف الأمريكي صاحب الفعل أو المبادرة الأخيرة والمجحفة بحقنا.
إلا أننا وعلى الرغم من ثورية وجذرية الموقف الشعبي الراهن فإننا بحاجة لمزيد من العمل السياسي والتنظيمي والفكري والميداني كي نحول الصفعة الأمريكية إلى صفعة شعبية عربية للاحتلال وداعميه وللأنظمة العربية المنساقة خلفهم علناً وسراً، وهو ما يتطلب من الوطنيين الفلسطينيين والعرب تفكيك الوضع الراهن وتحليل أسبابه وظروفه وتحديد المسؤولين المباشرين وغير المباشرين عنه دون أي مجاملة أو تسويف، بغرض الاستفادة من أخطاء الماضي والانتهاء من جميع المؤسسات والمنظومات والأفراد المسؤولين عن الوضع الراهن. فلابد من أن نكون حذرين من تلاعب وخبث الأنظمة القائمة التي قد تلجأ لبعض المناورات السياسية من أجل امتصاص النقمة والغضب الشعبي، سواء عبر الإعلان عن موقف حازم وواضح من أمريكا ومن الاحتلال، أو عبر المناورة محلياً من خلال ممارسة تبادل الأدوار داخل ذات المنظومة الفاسدة والساقطة.
ومن ثم يجب متابعة العمل على جميع الأصعدة من أجل تحويل رد الفعل الشعبي الصاعد اليوم إلى فعل واع ومنظم، لا يكتفي بطوي صفحة الماضي والحاضر الغارق في الاستسلام والتشرذم والتفكك والتناحر، وواقع التبعية السياسية والاقتصادية وتغليب مصلحة الحكام والقادة الفردية والشخصية على حساب المصلحة الوطنية والقومية، ليتعداها نحو تأسيس بديل وطني ثوري وحقيقي يعكس جميع مصالح الشعب العربي الآنية والمستقبلية، السياسية والاقتصادية، الوطنية والقومية، يؤسس لدول تتصدى بكل الأدوات المتاحة السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية والقانونية لجميع أشكال الاحتلال والاستلاب والاستغلال الخارجية والداخلية، الصهيونية والتركية والروسية والإيرانية…الخ.
قد يكون من المبكر اليوم البناء على ردات الفعل الشعبية وتحميلها أكثر مما تحتمل، إلا أنها مؤشر هام على مقدار الاحتقان والغضب الشعبي من الأنظمة والقيادات العميلة والمتآمرة على مصالحنا الرئيسية واليومية. وهو ما يستوجب منا التوقف عند هذا المؤشر الهام والاستعداد له فكرياً وتنظيمياً وسياسياً واجتماعياً، لاسيما إن أخذنا بعين الاعتبار العديد من التجارب الثورية أو تجارب الاحتقان والغضب والاحتجاج الشعبي العربية والعالمية التي لم تكلل بالنجاح، وذلك لجملة من الاعتبارات وأهمها انتظار الإنجاز الشعبي والتعويل على عفويته لهدم صرح الاستبداد والإجرام والنهب، دون أي مساهمة أثناء وقبل الانفجار لتحديد معالم البنى البديلة، ودون أي اعتبار لأهمية المعرفة النظرية والممارسة النضالية الشعبية في تحديد الجماهير للخط البديل وللشخصيات المؤتمنة على المطالب الشعبية، وهو ما يحملنا مسؤولية سياسية وأخلاقية للانخراط في جميع الأشكال الاحتجاجية الراهنة والقادمة وبغض النظر عن مدى جذرية وحسم وقوة الانفجار الراهن.